حائرة، باكية، مجهدة، مرهقة، وفي الوقت نفسه مترقبة. انها عيون أبناء الجاليات العراقية في كل بقعة من العالم. فها هي تقتفي الأثر، وتبحث عن صدق الخبر في كل ما تبثه الوسائل الإعلامية والمؤتمرات والتصريحات من كلا الجانبين، بعد تدمير شبكة الاتصالات التي كانت بمثابة جسر الوصل بين عراقيي الداخل والخارج. هذه هي حال عراقيين يعيشون خارج الحدود البغدادية، وخارج أراضٍ ضمت بين جنباتها مدناً وشوارع وأزقة فيها عناوين الأهل والأصدقاء وكثير من ذكريات الطفولة التي اغتالتها قوات التحالف الأميركي - البريطاني بطائرات الأباتشي، والقنابل العنقودية. الجالية العراقية قليلة العدد في السعودية، ولعل معظم أفرادها يأتون إما لزيارة الحرم المكي بقصد العمرة أو الحج، أو لزيارة المدينةالمنورة والصلاة في المسجد النبوي. وتبقى المنطقة الشرقية هي الأقرب في حال العيش داخل السعودية بسبب توافر العمل. "الحياة" دخلت معاقل الحزن والغضب داخل بيوت عراقية، وتحدثت مع نساء وأمهات عراقيات أجبرتهن لقمة العيش على الخروج من العراق والالتحاق بركب الحياة المهنية في جدة غرب السعودية. سناء الظاهر تحمل دكتوراه في الأدب الانكليزي من كندا، خرجت من العراق لإكمال تعليمها وهنا التقت زوجها وأنجبا أربعة أولاد يقيمون مع والدهم في كندا. سناء أتت منذ خمسة أشهر لتدريس الأدب الانكليزي في احدى الكليات الأهلية في جدة وكلها فرح لاقترابها من الأهل والاخوان. لكن الحرب على العراق اغتالت الأمل الذي حرمت منه عشرين سنة. تقول: "تركت البصرة منذ زمن بعيد بخاصة بعد زواجي. وبطبيعة الحال لم يكن هناك امكان للوجود في شكل دائم في العراق، إلا أن الاتصال كان مستمراً". وتضيف سناء: "كنت متشوقة جداً للعمل في جدة، وعلى رغم المسافة البعيدة بينها وبين العراق، إلا أنها وبالمقارنة بالمسافة التي تفصل بين كنداوالعراق تعتبر لا شيء. وبالفعل كان لدي الكثير من الخطط للتواصل مع أهلي في البصرة لكن الحرب لم تمهلني للقيام بذلك"، لتعبر غاضبة: "أي تحرير الذي استباحوا باسمه قتل النساء والأطفال، ينادون برفع الظلم عن العراقيين وهم لا يفرقون بين المدنيين والجنود"، لتقطع حشرجة صوتها والدموع حديثها برهة وتعود قائلة: "في داخلي مشاعر تتأجج غضباً جراء ما تعرضه القنوات الإخبارية وما حل من دمار وقصف للبيوت السكنية والمدارس والمستشفيات". وتقول: "انقطعت السبل لمعرفة أي أخبار عن الأهل، ولعل القلق يذبحني، لأن البصرة من أكثر المدن العراقية تعرضاً للنيران الأميركية، لا أعرف عنهم أي شيء، أنا أموت في اليوم الواحد ألف مرة لأنني أفقد كيفية التواصل بيني وبين أهلي داخل العراق، إضافة الى أن لي أخاً وأختاً يسكنان في بغداد التي تعيش حالاً عارمة من الحرق والتدمير، ونحن هنا بين التصريحات العراقية والأميركية لا نعرف للحقيقة عنواناً، المهم كيف أصل لمعرفة هل أهلي على قيد الحياة، أم قتلتهم "حرب التحرير". سناء ماكتري سعودية من أم عراقية تعيش حالاً من الخوف والقلق والتوتر بسبب ما تشاهده من أشلاء متناثرة للأطفال والنساء ومن دمار يضاف اليه ان زوجة أخيها هي عراقية وابنة خاله الذي فقد أثره بعد تدمير شبكة الاتصال الوحيدة التي كانت متاحة لمعرفة آخر المستجدات هناك. تقول: "والدتي عاقية ولم تزر أهلها خلال السنوات الخمس الأخيرة إلا مرة واحدة، والمشكلة الحالية هي في زوجة أخي التي يسكن أهلها في العاصمة". وتحدثت صفاء الكردي المتزوجة منذ 14 عاماً وتركت الأهل داخل العراق لتعيش مع زوجها في السعودية قائلة: "أتيت الى السعودية مع زوجي بسبب عمله هنا، لأنني كنت على اتصال مع الأهل بصفة مستمرة، أما الآن فليس لي أي حيلة، لا أبالغ إذا قلت انني سأصل الى الجنون لأنني لا أستطيع معرفة ما يحصل في العراق". وصفاء مصابة بمرضي الضغط والسكري ومنذ الحرب العراقية وهي أسيرة الأطباء الذين منعوها من مشاهدة التلفزيون وما يعرض من أخبار القصف المتواصل على الأراضي العراقية، ولكن من دون جدوى، "فالقنوات الفضائية أصبحت الوسيلة الوحيدة التي نطمئن من خلالها إلى أهلنا في العراق، أي حرب تحرير تلك التي قتلت أهلنا". ويعاني سرمد التميمي الحال نفسها منذ فقد الاتصال بأهله "آخر اتصال تم بيني وبين والدتي كان بعد الضربة الأولى لبغداد. كانت الحال تعيسة جداً في الداخل، وكان آخر شيء ضرب شبكة الاتصالات التي أفقدتنا أثرهم تماماً"، ويضيف: "كل يوم أضع أرقام الهواتف أمامي لعل وعسى أن يرد علي أحد من البيت في بغداد لكن من دون جدوى. لم يبق أمامي سوى متابعة شاشات التلفزيون لساعات متأخرة من الليل تصل في معظم الأحيان الى الفجر علّي أسمع ما يطمئن، وبالطبع مؤشر المحطات الإذاعية لا يتحرك عن النشرات الإخبارية من دون فائدة". من جهتها أوضحت الدكتورة منى الصواف استشارية الأمراض النفسية في جدة قائلة: "تعتبر الحروب من أخطر الحوادث التي تصيب الإنسان نظراً الى ما تحدثه من دمار جسدي ومعنوي ونفسي في كل مراحلها، ابتداء من قرب وقوع الخطر وحتى سنوات طويلة بعد الحرب لتشمل نواحي الحياة الاجتماعية والنفسية والعضوية كافة". وتشرح بقولها: "ان وضعية الكارثة في الحروب تؤدي الى حدوث حال شديدة من الخوف في المجتمع تزداد شدة كلما كان الإنسان خارج موقع الحرب ولديه أسرة أو أهل، أو أشخاص يهمونه داخل البلد المنكوب، وتزداد الحال سوءاً في حال انقطاع وسائل الاتصال، ما يؤدي الى حدوث حالات شديدة من الاضطرابات النفسية مثل الفزع والاكتئاب والاضطرابات الجسدية ذات المنشأ النفسي، وأيضاً الى ظهور "قلق الموت" ما يجعل الإنسان مهملاً العالم الخارجي ويركز بالكامل على عالمه الداخلي الخاص وعلى الحصول على أي معلومات عن الأهل والأصدقاء الذين انقطعت وسائل الاتصال بهم، وهذا يجعل المجتمع معرضاً بصورة كبيرة الى الشلل الاجتماعي، وانعدام التوازن في العلاقات الاجتماعية، لذا يجب على المعنيين أن يحرصوا على الحصول على المعلومات الصحيحة من مصادر موثوقة، ومكافحة الاشاعات لئلا يزداد القلق، أما من الناحية النفسية فيعتبر مرض عصاب الكوارث أشد الاضطرابات النفسية وأكثرها خطورة في فترة الكوارث، ويصاب به الفرد الذي تعرض لكارثة سواء أكانت طبيعية أم من صنع الإنسان مثل الحروب، وتشتمل الأعراض على نوبات مفاجئة من الخوف والقلق والتوتر والاضطرابات الفسيولوجية، وتكون الأعراض أشد حدة عند النساء، وأيضاً تتعرض المرأة في شكل أكبر للاكتئاب بخاصة اللواتي يكن خارج وطنهن ولديهن أفراد من أسرهن يتعرضون لعدوان الحروب، وأيضاً ترتفع نسبة الاصابة بما يعرف بالحزن المرضي إذ تعاني المصابة استمرار مشاعر الحزن الأكثر من ستة أشهر قد ترافقها هلوسات وشعور بالذنب والتقصير". وتضيف الصواف ان ذلك قد يؤدي أيضاً الى اضطرابات في الدورة الشهرية عند المرأة أو الاجهاض في حالات الحمل، وأيضاً الى الخلل في جهاز المناعة ونمو الشعر وقرحة المعدة وارتفاع ضغط الدم والهرم المبكر. وفي السياق ذاته تحدثت الدكتورة بلقيس ناصر الشريف أستاذة الصحة النفسية التي اعتبرت ان المرأة العراقية التي تعيش خارج بلادها تتعرض لكثير من الضغوط النفسية والعصبية جراء الحرب العدوانية على بلادها لأنها تتميز برقة الأحاسيس وسرعة الاستثارة والانفعال مع المواقف غير الاعتيادية، "ومن هنا نرى أن المرأة العراقية المغتربة تمر بحال نفسية سيئة في هذا الوقت الحرج، إذ تسيطر عليها مشاعر وجدانية سلبية مختلفة ومتراكمة، فهي في دوامة من القلق الشديد على أحبائها من الأهل والأصدقاء، وكلما استمرت قنابل الغزاة ازدادت حدة القلق والذعر لديها".