لم يفتقد الناطقون باسم البنتاغون شيئاً من اللؤم والاستهتار حتى في حديثهم عن موت صحافيين أو استهدافهم وجرح العديد منهم في بغداد. قتلتهم نيران القوات الأميركية التي تعرف جيداً إلى أين تصوّب قذائفها. بل هي تعرف منذ اليوم الأول، وقبل وصولها إلى العاصمة العراقية، أن هذه الأبنية تؤوي صحافيين، أي أنها ليست منطقة قتال، ولا أسلحة دمار شامل. سنحت لهذه القوات فرصة نادرة للبرهنة على احترامها للصحافيين ولمهنتهم المسالمة أصلاً، إلا أنها فضلت أن تعطي نموذجاً لمدى الوحشية التي هي مستعدة للذهاب إليها. كانت فرصة قيّمة لتعويض فضيحة البربرية التي تمثلت باصطياد الجنود العراقيين الهاربين أو المستسلمين وقتل المئات منهم من غير قتال في معركة الاستيلاء على المطار، إلا أن هذه القوات شاءت المحافظة على سمعتها السيئة. وكانت تلك الفضيحة أجبرت القيادة على إقالة الضابط المسؤول، لأن وحشيته فاقت الحدّ المقبول لها. أما في واقعة قتل الصحافيين فكان الضابط ينفذ الأوامر. من الواضح أن ناطقي البنتاغون أرادوا التغطية على هذه الجريمة وحمايتها. فكل ما نطق به أحدهم هو الإعراب عن "الحزن". هكذا، بلا اعتذار، بلا وعد كاذب بكشف ما حصل، بلا وعد كاذب آخر بعدم تكرار ما حصل. لأنه سيتكرر حتماً. ثم تبرع ناطق آخر ليقول إن البنتاغون "يأسف" لمقتل صحافي في "رويترز" واصابة "آخرين". بين هؤلاء "الآخرين" الذين لم يذكرهم كان زميلنا في "الجزيرة" طارق أيوب، الذي لقي حتفه وهو يقوم بعمله في خدمة الحقيقة التي بات البنتاغون من ألد أعدائها. الحزن… الأسف… يكفي أن يخطر دونالد رامسفيلد في المخيلة للتعرف إلى مدى صدقية التعبير في هاتين الكلمتين. ها قد بدأ الأميركيون الانتقام من الصحافة، وعلى نحو مكشوف. إنهم لا يريدون هذه الكاميرات، لا يريدون هذه العيون والأصوات، لا يريدون هذه النفوس الشجاعة التي تذهب وتنقب في ما ارتكبته قواتهم ضد المدنيين العراقيين خصوصاً، وضد العمران. ليس الأميركيون أول من اقترف جرم تصفية الشهود وترهيبهم لإبعادهم، لكنهم يتمثلون الإسرائيليين في أسوأ الممارسات. ولعلهم مندفعون إلى التفوق عليهم في السمعة السيئة التي باتت الأكثر شهرة في العالم. موت الصحافيين ليس أغلى من موت العراقيين، لكنه موت الشهود على قذارة حرب مقبلة على مزيد من الجرائم. منذ أبدى كبار المسؤولين الأميركيين انزعاجهم من الإعلام، كان متوقعاً أن يُستهدف الصحافيون. وقبلهم استهُدف المدنيون العراقيون، ولا يزالون، بإطلاق الرصاص المباشر عليهم أو بالصواريخ أو بالقنابل العنقودية. كل هذه الترسانة العاتية و"الذكية" لم تمنع كبار الإدارة الأميركية من توعد الصحافيين. أما العسكر، خصوصاً في قاعدة السيلية، فكانت تصريحاتهم تنم عن ثأر مفتوح بينهم وبين الصحافة. هذا ما استشعره مرتادو مؤتمراتهم اليومية، ولذا فهم لم يستغربوا ما حصل في بغداد، بل غمرهم يوم الجريمة حزن حقيقي وليس حزناً بنتاغونياً خلال مواجهتهم للضابط الناطق باسم القيادة، مع انهم على بعد آلاف الأميال من بغداد. وفي شمال العراق أيضاً، انتاب البيئة الصحافية احساس ممض بأن مهنتهم المسالمة باتت فريسة مباحة. لم تأتِ خيبة أملهم من كونهم اعتقدوا أن الأميركيين يمكن أن يكونوا مختلفين، وإنما لأن الحرب خلعت آخر أوهام "الأخلاقية" التي ادّعتها. هناك من اعتبر قتل الصحافيين جريمة حرب، ولعل في هذا الاتهام كثيراً من التواضع، لأن هذه الحرب جريمة مبيتة من أساسها. بل نادراً ما وجدنا عدوين يتواطآن إلى هذا الحد، ضمنياً وموضوعياً، لترتيب مثل هذه الجريمة. الضحية التي تسمّى تتمتع بامتياز، الضحية التي ترد في الأرقام محظوظة، أتعس الضحايا هم الذين لم يذكروا بعد وقد لا يذكرون أبداً لا بالاسم ولا بالأرقام. هذه حرب لم تفضح الكاميرات سوى جزء يسير من فظاعاتها. ولا يزال بعض المتفوهين يقولون إنها حرب لزرع الديموقراطية في المنطقة، حتى ان بعض الإعلام الأميركي أشار إلى تعاظم دور الإعلام العربي، خصوصاً التلفزيوني منه، واعتبره من الأدوات المبشرة في مسيرة الديموقراطية تلك. لذلك، جاء استهداف الصحافيين برهاناً على أن الوقت حان للانتهاء من هذه الكذبة، فالحرب هي الحرب، وهي لا تستطيع أن تنتج سوى القتل والدمار.