يُعرف في واشنطن ب"الذئب الأبيض"... انه جورج دو باري الذي يُلْبس الرؤساء الأميركيين منذ 40 عاماً. وصل هذا الفرنسي من مرسيليا الى الولاياتالمتحدة وهو في السابعة والعشرين من عمره، وعاش اختبارات لا تصدق. فبعدما عرف الفقر، ها هو اليوم يعيش بقرب كبار هذا العالم. على مسافة بضعة أبنية من البيت الأبيض في واشنطن، وفي متجر تملأه الأقمشة من الأرض الى السقف، يعمل رجل بكد، يشبه غيبيتو والد بينوكيو الأسطورة. ويعاونه طوني، الأميركي من أصل لبناني، الذي اعتلى منصب خياط رجالي بعد 20 عاماً من الخدمة لسيده. مع متر القياس الواضح على قميصه الأبيض، الذي تعلوه عقدة فراشية جميلة، يعمل جورج في خياطة بزات كلاسيكية بأجود الأقمشة للرؤساء. من ليندون جونسون الى جورج بوش الابن مروراً بريتشارد نيكسون ورونالد ريغان وبيل كلينتون... الكل عرف خدمات هذا الخياط الذي ما زال يخبئ أحواله في جوارير! بلغةٍ فرنسية انهكتها 42 سنة في الغربة أمضاها في بلاد العم سام يخبر هذا المرسيلي، بلهجة البوح، عن سيدته المميزة. لن يقول شيئاً عن أسرار أسياد البيت الأبيض وخصائلهم. لكنه يتباهى بأزرار القميص التي قدّمها اليه الرئيس الحالي جورج بوش. وهو الذي، على ما يؤكد "الذئب الأبيض"، يبقى الألطف والأكثر أناقة بين كل الرؤساء. "وصلت الى الولاياتالمتحدة لملاقاة غريبة أقمت معها علاقة عاطفية... بالمراسلة! وقبل أن ألتقي عائلتها اهتممت بهندامي كاملاً: قلمت أظفاري، قصدت المزين الرجالي وارتديت بزة من ثلاث قطع مفصلة على المقاس... وعندما رأيت تلك التي كان يفترض بها أن تصبح زوجتي تلتهم الطعام بطريقة وحشية، فهمت أنني لن أستطيع الزواج بها أبداً. كنت صاحب مبادئ في ذلك الوقت... عندما استوعب والداها أنني لن أتزوجها، رمياني خارجاً محتفظين بكل مدخراتي: أربعة آلاف دولار! وجدت نفسي على الطريق من دون أي فلس في جيبي. ولم أكن أملك إجازة للعمل، ومعلوماتي في الانكليزية قليلة... بدأ الحلم الأميركي عندي كابوساً مزعجاً!". ويتابع جورج: "تعلمت الخياطة قبل أن آتي الى الولاياتالمتحدة. بعد موت والدي - وكان قاضياً - انتقلت من مرسيليا الى باريس للعمل في مشغل للخياطة. وفي أقل من ثلاثة أشهر تسلقت السلم وغدوت مبتدئاً ثم عاملاً مساعداً. انتقلت بعدها الى المانيا لأتمرس بمهنتي. في واشنطن، وعندما كنت في الشارع، اخترت موقف سيارات للإقامة. وفي يوم من الأيام لمحت محترفاً للألبسة الجاهزة. دخلت وسألت هل يمكنني العمل. كنت وسخاً مقرفاً، على رغم ارتدائي طقماً كاملاً وربطة عنق. امرأة من أصل كندي وزوجها وافقا على منحي فرصة. في الليل كنت أنام في المشغل وبقية الوقت أعمل سبعة أيام بكل ما أوتيت من قوة. وبصبر شديد استطعت أن أوفر بعض المال، وأن أحصل على أوراقي، وبعد بضعة أشهر افتتحت مشغلاً خاصاً. وفي أول الطريق كنت أنام على سجادة في غرفة خلفية وأقص الأقمشة بمقصات صغيرة. وعلى رغم الضيقة والوسائل البدائية أصررت على تقديم عمل من الطراز الرفيع. وأعترف ان ذلك عاد علي بالفائدة" حتى دخل عليّ يوماً عضو في الكونغرس واشترى ست بزات كاملة. وكان ذلك بالنسبة إليّ الفوز بالجائزة الكبرى! بفضل هذه "الصفقة" استطعت أن أشتري أول ماكينة خياطة، ودفعت ايجار المحل مسبقاً عن ثلاثة أشهر، واشتريت أريكة لأنام عليها... وفي اختصار استطعت أن أتنفس. هذا الشخص أوصى بي عند ليندون ب.جونسون وكان يومها نائباً للرئيس جون كينيدي. وهكذا وجدت نفسي في البيت الأبيض، مع خيطاني وطبشورة الخياطة، ومتر القياس والإبر من دون أن أستوعب فعلاً ما يحصل لي. ماذا يذكر من الزيارة الأولى؟ "كنت خائفاً حتى الموت. كانت هناك - وما زالت - كاميرات مراقبة ورجال شرطة وحراس شخصيون في كل زوايا المنزل. قبل أن أشك أي دبوس في سروال الرئيس كان عليّ أن أرد على جملة أسئلة شخصية تتعلق بعائلتي وأصدقائي وعملي وحياتي سابقاً... وأتذكر ان الرئيس كان طويل القامة الى درجة اضطرتني الى أن أقف على رؤوس أصابعي لأخذ القياسات واجراء عملية التجريب". ويشير جورج الى أن أهم صفة ضرورية "لإلباس" الرئيس "ان يكون الشخص طويل البال وسريعاً وعملياً وفعالاً، لأن "الزبون" مستعجل وحتى مرهق في العمل. وكم من المرات كان علي أن أنتظر ساعات لينهي أحد الرؤساء اجتماعاته قبل أن أضع اللمسات الأخيرة على الثياب". ما رأيه في مختلف الرؤساء؟ "كان رونالد ريغان المفضل عندي. كان فائق الأناقة ومحباً للأقمشة الجميلة وخبيراً في الذوق. نيكسون كان لطيفاً جداً. كلينتون أيضاً، لكنه كان دائماً على عجلة من أمره ولم يكن لديه الوقت الكافي ليخصصه للتجارب. بوش أنيق جداً ومتقن وشديد التدقيق في التفاصيل. يستقبلني دائماً بحرارة. وهو يحب الجودة. القماش المفضل لديه "السكابال" الانكليزي، ويحبه باللونين الرمادي الداكن والكحلي، وهو قماش مميز". ألا يحن أبداً الى بلاده؟ يجيب جورج: "استفقد أختي التوأم، وهي محامية في باريس. وكل مرة أفكر بمرسيليا ينتابني الحنين. ولكن بما أنني وصلت الى الولاياتالمتحدة وأنا في السابعة والعشرين وشارفت التاسعة والستين الآن، فكل أصدقائي وعلاقاتي وأعمالي، وفي بساطة كل حياتي موجودة هنا. وأنا، الى ذلك، عراب أربع فتيات هنا، غدون زوجات وأمهات اليوم. شخصياً لم أشأ أن أتزوج لأن العمل أخذ كل اهتمامي وهو شغفي في الحياة. كان لي دائماً صديقات. ولكن بصراحة أتمنى اليوم أن التقي - ولم لا أن أتزوج؟ - سيدة جميلة أنيقة في الأربعين من عمرها". اعداد: ميراي يونس