الناطق باسم الخارجية الاميركية ريتشارد باوتشر ومعه كبار المسؤولين في الادارة الاميركية مصابون بخيبة أمل بسبب امتناع البرلمان التركي من التصديق على اتفاق يجيز نشر قوات اميركية في الاراضي التركية، تمهيداً لاجتياح العراق. اما وزير الخارجية باول فاعترف بأن الرفض التركي حمل الاميركيين على تغيير خططهم العسكرية. هذه "الصدمة" تذكر بالمثل القائل "اذا أردت ان تضبط الكذاب فكرر القاء السؤال عليه بين ساعة واخرى"، ففي آب اغسطس الماضي اعلن باوتشر عن فتح ديموقراطي مبين سينقلنا من الاستبداد الى الحرية ما لبث ان قدمه باول في صورة "برنامج" اعتبره مفتاحاً سحرياً لمشاكل المنطقة، لكن الايام بدأت تكشف ان الذين استهانوا بالأمس بملايين المتظاهرين المعارضين للحرب في انحاء العالم لا يمكن ان يحترموا اليوم ارادة النواب الاتراك ولن يقبلوا غدا قراراً حراً ومستقلاً من العرب الذين يزعمون امامهم انهم رسل الديموقراطية في الشرق الاوسط. ما زاد في غيظ الاميركيين ان القرار الذي عاكس سياستهم اتي من البلد الوحيد الذي يستند الى نظام ديموقراطي في المنطقة، وهذا مؤشر "سيء" الى ان الديموقراطية التي يتظاهرون بتصديرها للشرق الاوسط ستكون سلاحاً ضد مصالحهم في الدرجة الاولى ويسعى الاميركيون حالياً للالتفاف على الاقتراع الذي تم، بمحاولة الحصول على تسهيلات جانبية تعوض عن فتح جبهة لاجتياح العراق من الشمال. لقناعتهم بأن آلية سير الامور في تركيا تجعل جمع البرلمان قبل الميقات المحدد لبدء العمليات الحربية كي يتراجع عن قراره مسألة مستحيلة. وستكون لهذا الموقف التركي تداعياته البعيدة على توزيع الادوار بعد نهاية الحرب المحتملة على العراق. فإذا كانت حرب الخليج الثانية الغت وجود أي قوة اقليمية عربية في المنطقة، فإن الحرب الثالثة ستنهي دور تركيا وتمنحه لاسرائيل مداورة او مجاهرة. ومثلما اكمل الاتراك مهمتهم السابقة لما كانوا "آذان" الحلف الاطلسي التي تتنصت على الاتحاد السوفياتي ايام الحرب الباردة، يبدو أن دورهم سيكون ثانوياً في "حلف بغداد" الجديد الذي تعتزم اميركا اقامته بعدما تضع الحرب اوزارها. فالثابت ان ركائز الحلف القديم، أي باكستانوتركياوالعراق وايران، لم تفقد اهميتها في السياسة الاميركية، إلا أن الاوضاع الجديدة تفرض اعطاء الاولوية لثلاث دول هي باكستان شرقاً واسرائيل غرباً وعراق ما بعد صدام بوصفه مركز الحلف مجددا لان القوات الاميركية ستبقى مرابطة على اراضيه. وسيتيح المسرح العراقي وضع اطار جديد للتعاطي مع كل من تركيا وايران. ففي عقل السياسيين الاميركيين ان هذه البلدان هي قلب العالم الاسلامي من المنظور الاستراتيجي والبشري والاقتصادي، وهم مصرون على ان صيغة معدلة من حلف بغداد ضرورية لتأمين الاستقرار في المنطقة، أي لاستمرار تدفق النفط وضمان امن اسرائيل. لكن الاميركيين الذين لا يحسنون قراءة التاريخ ينسون ان العراقي المعارض لصدام لا يمكن ان يصبر عليهم فوق أرضه طويلاً.