فيما سيذكر التاريخ الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى القاهرة امس، ثمة تجمّع إقليمي جديد يتخذ شكلاً في الجزء الشمالي من الشرق الأوسط، قد يتحوّل إلى تجمع مهمّ للغاية. تعمل كل من تركيا وإيران والعراق وسورية على تطوير روابط التجارة والطاقة والأمن في ما بينها، ما يدل على رغبةٍ مشتركة في جعل مستقبلها الوطني خالياً من أي تدخل خارجي لا سيما غربي. فما هي العوامل التي تدفع إلى تشكيل تجمّع جديد مماثل؟ لا شك أنها متعددة وخاصة بكل بلد. فتركيا، التي واجهت الخلافات وخيبات الأمل مع الولاياتالمتحدة حول حرب العراق، ومع الاتحاد الأوروبي حول عدم التقدم بالسرعة المرجوة في مفاوضات الانضمام إليه، ومع إسرائيل حول المسألة الفلسطينية، أرست سياسيةً اقليميةً طموحةً إزاء الدول العربية والاسلامية المجاورة لها. وارتفع حجم التبادلات التجارية بين تركيا وإيران من مليار دولار فقط عام 2000 إلى 10 مليارات دولار عام 2008، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم ليبلغ 20 مليارا في المستقبل القريب. كما تخطّط تركيا لاستثمار 12 مليار دولار في حقل الغاز ساوث بارس الإيراني، وهي سياسة تتعارض بوضوح مع ما دعت إليه إسرائيل وأصدقاؤها الأميركيون لجهة فرض عقوبات إضافية على إيران. ويزور حوالى مليون سائح إيراني تركيا سنوياً كما يزور الملايين منهم العراق، لا سيما كربلاء، وهي المدينة التي فيها قُتل الحسين حفيد النبي محمد عام 680. ويُعتبر ضريحه أقدس محجّة بالنسبة إلى الشيعة. وتمتد شراكة سورية الاستراتيجية مع إيران على مدى ثلاثين سنة وما من مؤشر يدل على أنها قد تتزعزع. أما محور طهران-دمشق-حزب الله فهو واقع جغرافي سياسي حيوي في المنطقة وقد اعتبر الكثيرون خلال عهد بوش أنه شكّل العقبة الأساسية التي اعترضت الهيمنة الأميركية-الاسرائيلية. وعلى خلاف سلفه، يسعى أوباما حالياً إلى التقرب من إيران ومن سورية إلا أنه غير مستعد بعد للاقرار بواقع أنه لا يمكن تفادي حزب الله على الساحة اللبنانية. وفي حال تمكن أوباما من تحقيق خططه الطموحة المتعلقة بالسلام في الشرق الأوسط، فما من سبب يدعو إلى تأجيل إطلاق حوار أميركي مع حزب الله وحركة حماس. إلى ذلك، تحسنت علاقة سورية مع تركيا بشكل لافت، بعدما كانت قد بلغت من التوتر حداً قارب الحرب في العام 1998 بسبب دعم سورية لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان. كما ازدهرت العلاقات التجارية المتبادلة في ما بينهما. ويعتبر قرار تركيا الأخير القاضي بتعزيز تدفق مياه الفرات إلى منطقة شمال شرقي سورية بعدما عانت من جفاف قاحل دليلاً على طبيعة العلاقات بينهما في المستقبل. كما تطوّرت العلاقات السورية-العراقية التي شهدت توتراً كبيراً خلال حكم صدام حسين. وخلال نيسان (أبريل) الماضي، وقّع رئيس الوزراء السوري محمد ناجي عطري على اتفاقية واسعة النطاق في بغداد ساهمت في إرساء منطقة تجارة حرة وفي تقديم التعاون في ميداني الطاقة والتعليم. وستساهم سورية في أعمال إعادة تأهيل خط أنابيب النفط الممتدة من كركوك إلى بانياس والتي تعبر الأراضي السورية. ومن المتوقع أن يتم توسيع مرفأ سورية في اللاذقية وتحسين الطرق المؤدية إلى العراق بهدف تقديم تسهيلات نقل في حركة الاستيراد والتصدير في العراق. وقد توجّه قطار يحمل 800 طناً من الفولاذ من مرفأ طرطوس في 30 أيار (مايو) إلى بغداد وهي أول رحلة شحن برية بين البلدين منذ عقود. لكل من إيران وتركيا وسورية مصلحة في مستقبل العراق. ولا شك أن إيران ترغب في أن يكون العراق دولة مجاورة صديقة بزعامة شيعية. كما أنها تريد أن يزدهر العراق لكن من دون أن يكون قوياً حتى لا يفرض أي خطر مماثل للخطر الكبير الذي فرضه صدام حسين في الماضي. ولا تزال ذكريات حرب إيران-العراق بين عامي 1980 و1988 حية. فقد تفضّل إيران أن يصبح العراق دولةً فيدراليةً وبالتالي ضعيفةً عوضاً عن دولة قوية موحّدة. وتدرك طهران أن العراق وهو بلد عربي يحمل تقليداً وطنياً قوياً، لن يقبل أن يكون دميةً في يد إيران. ومهما تكن هوية الشخص الذي سيفوز بالانتخابات الرئاسية الايرانية في 12 حزيران (يونيو)، سواء الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد أو خصمه الأساسي رئيس الورزاء الأسبق المير حسين الموسوي وهو محافظ «معتدل» مدعوم من الأحزاب الاصلاحية الأساسية، من غير المرجح أن تتغير الخطوط الأساسية لسياسة إيران الخارجية كعلاقاتها الوثيقة مع سورية والعراق وتركيا ومعارضتها للتطرف السني في أفغانستان وباكستان ودعمها لحزب الله وللفلسطينيين واستمرارها في تخصيب اليورانيوم. وتتساءل الدول المجاورة للعراق، كيف سيكون حال هذا البلد الذي شهد القتل والدمار والفوضى في السنوات الست الماضية؟ وهل يمكن التوصل إلى توازن اقليمي حالياً بما أن العراق بات قادراً على الدفاع عن مصالحه الوطنية؟ ويبدو واضحاً أن العراق قد تغيّر كثيراً. فسجلّ عدد القتلى أدنى مستوياته في شهر أيار (مايو) بعد أن بلغ 165 شخصاً منذ الاجتياح الأميركي عام 2003. أما الأمن فيعود تدريجياً على رغم حصول بعض التفجيرات الانتحارية. كما تحرز قوات الأمن العراقية كالجيش والشرطة والاستخبارات تقدماً من ناحية الحجم والفاعلية. وشكّل التوصل أخيراً إلى اتفاقية حول وضع القوات مع الولاياتالمتحدة التي تفرض وقتاً محدداً لسحب القوات المسلحة الأميركية بمثابة دليل مهم على استرجاع السيادة العراقية. لكن ثمة أموراً كثيرةً بحاجة إلى تغيير. فالعلاقات بين السنة والشيعة في العراق لا تزال متوترةً وكذلك العلاقات العربية-الكردية. فلم يقرّ بعد البرلمان القانون الخاص بالهيدروكربون على رغم أن الحكومة المركزية اعتبرتها بمثابة غضّ نظر عن بدء تصدير النفط من المنطقة الكردية إلى تركيا. والكتاب الذي وضعه ريتشارد هاس بعنوان «حرب الضرورة، حرب الخيارات» يضع حرب عام 1990 لتحرير الكويت في تعارض مع حرب عام 2003 الهادفة إلى الاطاحة بصدام حسين. فيعتبر الكاتب أن الأولى هي حرب ضرورية والثانية هي حرب خيارات وخيارات سيئة. وكان لها وقع كارثي على القوات المسلحة الأميركية وعلى ميزانيتها وسمعتها. وقد أودت حرب العراق بحياة مئات الآلاف من العراقيين وساهمت في تشريد ملايين آخرين وأضرت ببنية البلد التحتية وأطلقت شرارة العنف وقوّضت التوازن الاقليمي لمصلحة إيران الكبرى. وأصبح هاس وهو مسؤول أميركي سابق رفيع المستوى، رئيس مجلس العلاقات الخارجية ومقرّه نيويورك. ويوضح كتابه أن امتلاك صدام حسين المزعوم لأسلحة الدمار الشامل لم يكن الذريعة الأساسية لشن الحرب. فقد مارس كل من القيادة المدنية في وزارة الدفاع الأميركية لا سيما نائب وزير الدفاع الأميركي بول وولفوفيتز والمحافظون الجدد في مكتب نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، الضغوط من أجل شن هجوم على العراق، فكان هاجسهم الجغرافي السياسي يقوم على الإطاحة بالأنظمة العربية الأساسية فضلاً عن نظام إيران وإعادة تشكيل المنطقة بأكملها لتكون آمنةً لإسرائيل. وحظي المحافظون الجدد بهذه الفرصة الفريدة بسبب حاجة أميركا الملحة بعد اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) إلى بعث رسالة واضحة إلى العالم العربي حول قوة الولاياتالمتحدة السياسية. ومن المرجح أن يعيد كتاب هاس إحياء النقاش حول الدور الذي اضطلع به أصدقاء إسرائيل في واشنطن لدفع الولاياتالمتحدة إلى حرب في العراق. وسيعطي ذلك أوباما القدرة على مكافحة الضغوط الاسرائيلية التي تُمارس لمهاجمة إيران. قد لا يكون التجمّع الذي يضم تركيا وإيران والعراق ائتلافاً قوياً غير أن عدداً من المصالح المشتركة المتعددة تدفع هذه الدول الأربع في هذا الاتجاه، فضلاً عن الخوف من إمكانية حصول اعتداء اسرائيلي على إيران وسورية وعدم معرفة مسار السياسة الأميركية في المستقبل. * خبير بريطاني في الشؤون العربية.