"السيد النائب" صدام حسين تقلب على سريره ساعة او ساعتين. يغمض عينيه فيرى خرائط عسكرية وجبالاً ومدافع وألوية وقلاعاً. الأكراد ينهكونه. كيف تهزم عدواً مبعثراً في شِعاب الجبال؟ ثم ان خطوط امداداتهم مفتوحة، والشاه يدعمهم بالمال والسلاح. انقلب "السيد النائب" على ظهره. حدّق الى السقف. انتبه الى ألم خفيف أسفل بطنه. ترك السرير وانتعل مشايته. وقف ونظر عبر النافذة المفتوحة الى شبح الجسر الجديد الذي لم يكتمل بعد. بيدين معقودتين وراء ظهره، وبساقين متباعدتين، بدا جندياً في وقفة استعداد. لكنه كان يرتدي منامة وينتعل مشاية. نظر الى النهر المظلم تحت الجسر المظلم والسماء المظلمة وآلات البناء العملاقة المظلمة. أنوار الكهرباء المتباعدة ارتجفت في الليل. بعد سنوات طويلة، بينما قوات التحالف الدولي تقصف العراق، تذكر الرئيس صدام حسين تلك النافذة المربعة تطل على دجلة والجسر وأنوار الكهرباء. صواريخ "توما هوك" الموجهة من بعد زرعت العاصمة بالحرائق. بعد كل موجة من الغارات الجوية في ذلك الليل البارد من كانون الثاني يناير 1991، كان يحلّ على بغداد صمت كأنه صمت القبور. كأن البشر جميعاً قد فارقوا الحياة. في الملجأ المحصن تحت مدرجات ملعب كرة القدم نام الرئيس العراقي رئيس مجلس الوزراء رئيس مجلس قيادة الثورة القائد العام للقوات المسلحة الرفيق صدام حسين غير مبال بالانفجارات التي تهز الأرض والسماء. تأرجح معلقاً على الحافة بين اليقظة والنوم، بين الحقيقة والحلم، ومترنحاً في قلب عاصفة ذكريات مباغتة علّم نفسه سنة بعد سنة ان يرميها كاملة في سلة المهملات. أراد ان يفتح عينيه لكنه عجز عن ذلك بسبب أثقال الرصاص في جفنيه. نصب له الحنين فخاً في قرية بعيدة ثم أتبعه بأفخاخ لا تُعد: شويش - تكريت - الكرخ - بغداد - الشام - القاهرة - بغداد - موسكو - بغداد... هزّت الانفجارات الملجأ. سمع طرقات على الباب. لم يتحرك من مكانه. كل تلك الأفخاخ من ينصبها له؟ لم يكن ذلك حنيناً! ماذا كان إذاً؟ قرر ان ينهض ولم ينهض. كان رأسه ثقيلاً ومعدته مقلوبة. شرب طويلاً في الأمس. شرب حتى باغته النوم جالساً في بذلته العسكرية بكامل النياشين والرتب وراء مكتب السنديان الضخم. لم يتخلص من الحذاء العسكري. لم ينزع المسدس من الحزام. لم يفك أزرار البنطلون. الدوي الأخير بدا قريباً. حاول ان يرفع رأسه عن المكتب. لم يستطع ذلك. فكر انه يحتاج الى دقيقة او دقيقتين بعد. كل تلك العواصم والأسماء تمتزج في دماغه... عدد الدول التي تشارك في هذا الهجوم، كم؟ 30 دولة؟ الثقل في رأسه تضاعف بعد دقيقة، تضاعف مرة اضافية بعد دقيقتين. يحتاج مياهاً باردة. زلعومه جاف. لسانه جاف. وسقف حلقه جاف. توالت الانفجارات. لم يتذكر الحرب الساحقة على الأكراد في 1975. لم يتذكر الحرب العراقية - الإيرانية. لم يتذكر الهجوم الخاطف على الكويت. تذكر تلك الليلة الحارة من ذلك الصيف البعيد حين رأى مشيئة الأقدار في غرفة سائلة كأنه يرى خطوطاً على خريطة، كأنه ينظر الى يديه. في ذلك الصيف البعيد، قبل ان يلتهم الدود جيفة ناظم كزار، عصفت ببغداد سلسلة جرائم: عصابة من اللصوص كانت تقتحم بيوتاً في نصف الليل، فتنهب المال والذهب وأدوات الكهرباء، وتقطع بالبلطات كل من تجده في طريقها. عائلات كاملة ذُبحت في الأسرّة. "شرطة النجدة" كانت تصل دائماً متأخرة دقيقتين. كأن اللصوص القتلة علموا مسبقاً بقدومها. كل صباح تنقل الصحف خبر جريمة جديدة: في شارع الرشيد، في الكاظمية، في الرصافة، في باب الشيخ... توالت الجرائم ولم تقع العصابة في قبضة البوليس. "السيد النائب" شغلته هذه الجرائم كما شغله التمرد الكردي المتواصل وإعادة هيكلة اجهزة الأمن في البلاد. وصله تقرير من المخابرات بأسماء مساعدين سابقين لناظم كزار لم يُلق القبض عليهم بعد. الرفيق سعدون شاكر اعلمه ان الاستخبارات تبحث عن علاقة بين الجرائم الغامضة وأتباع ناظم كزار الفارين: لا بد انهم يملكون اجهزة لاسلكي مبرمجة على موجات "شرطة النجدة". هكذا يعرفون بقدوم سيارات البوليس قبل وصولها. اخبره الرفيق سعدون شاكر انه يحقق ايضاً في تحركات مجموعة من الضباط في قوات سلاح الجو. رأس "السيد النائب" صدام حسين كان يعجّ بالخطط في تلك الليالي الحارة. جلب الى الغرفة الخاصة به في الطابق العلوي من القصر الجمهوري، كرسياً هزّازاً من خشب الأرز. كان يقعد في الكرسي بعد ان يغسل يديه وإبطيه ورأسه ووجهه من تعب النهار الساخن الطويل ويحدق الى ذراع آلة عملاقة تقتحم السماء فوق مياه دجلة السوداء. كل هذه الغيوم تحوّل بغداد ليلاً الى طنجرة ضغط على النار. يكره المكيف ويكره طنينه ولا يحبّ اي صوت يمنع عن اذنيه باقي اصوات العالم. حتى الباب الحديد المصفح يزعجه احياناً. يخيّل إليه انه يسمع دعسات وراء الباب، دعسات مختلفة عن دعسات حرّاسه. ثم حين يصيخ السمع يدرك انها دعسات في تلافيف دماغه. لا احد يمشي في الرواق الآن. اما في رأسه... اما في رأسه... تلك الليلة، قبل ان يرى مشيئة الأقدار في غرفة سائلة كمن ينظر الى الخطوط في باطن يده، كان "السيد النائب" يفكر في الملا مصطفى البارزاني. الأسلوب الوحيد لإلحاق هزيمة ماحقة بالأكراد يكمن في قطع الإمدادات الإيرانية. لكن ذلك مستحيل عسكرياً. لا بد من تسوية مع الشاه. وهذه مُرّة كالعلقم. عبر النافذة المفتوحة الزجاج رأى أنوار الكهرباء تتلامع في الجانب الآخر من النهر. عواميد الإسمنت المسلح الضخمة، كل تلك الخرسانات في قلب النهر، بدت كحيوانات عملاقة تخرج من ازمنة سحيقة، فتتعالى كالعمالقة في الأساطير وتجتاح الفضاء. أحس بانتفاخ مثانته. في اللحظة نفسها شعر بالعرق ينزلق تحت إبطيه. وحده الباب المصفح بارد في هذه الغرفة الملتهبة. الرواق مُكيف. وكذلك معظم قاعات القصر. عند انتهاء الساعة الأولى بعد منتصف ذلك الليل وجّ لهبٌ اصفر تحت الجسر الجديد غير المكتمل ودوّى انفجار. القذيفة الصاروخية التي اطلقها ثلاثة من البشمركة هزت صمت القصر الجمهوري. تسللوا الى هذه النقطة الخطرة بعملية معقدة طويلة ونجحوا في إطلاق القذيفة من دون ان ينقلب زورقهم المزود بمجاذيف وبمحرك بخاري. اختفوا في الليل كالجان. يد الأقدار وجّهت القذيفة الصاروخية بدقة لا متناهية الى مركز النافذة المشرعة في تلك الغرفة في الطابق العلوي من القصر الجمهوري: النافذة الرابعة من جهة الشرق. انفجرت القذيفة في قلب الغرفة لحظة ارتطامها بالباب المصفح. سالت صفائح الباب وتجعّدت بحرارة القذيفة المضادة للمدرعات. فرقع الزجاج في إطارات الصور الفوتوغرافية المعلقة على الحيطان. صورة الفتى عدي البالغ من العمر خمس سنوات شبّت فيها النار. التذكارات السوفياتية سقطت متحطمة على الأرض. اشتعلت الستائر والبطانيات. تفحم الفراش. ... سلسلة الفضة المتدلية من السقف انصهرت حلقاتها في حبل افعواني. النوابض ظهرت من الفراش المتفحم: كانت اطرافها ذائبة ومطوية كأنها خرجت من فرن المصنع للتو. لم يبق أثر من مخدة "السيد النائب" ولا من دثاره المفضل الذي جلبه معه من الفيلا في الكرخ. لم ينجُ من عاصفة النار المباغتة غير الراديو المصنوع في شتوتغارت: قذفه الضغط عبر النافذة فسقط على شجرة برتقال. نجا الراديو القديم. ونجا "السيد النائب" صدام حسين ايضاً. الأقدار التي وجّهت بيدٍ خفية قذيفة B-7 كردية معدلة بدقة لا متناهية الى قلب الغرفة المنشودة دفعت باليد الأخرى "السيد النائب" صدام حسين الى الرواق. حين دوى الانفجار المخيف كان "السيد النائب" قاعداً على كرسي المرحاض في طرف الممر يفرغ مثانته من القهوة المرّة السوداء بالحليب الطازج البارد. الحارس الواقف قرب باب الغرفة المصفح احس بالنار تتوهج على خده ثم سقط على السجاد الأصفهاني السميك. لم يُصب بأذى. سال الباب المصفح امام عينيه. لكنه لم يمت. الباب الذي وُضع هنا لحماية "السيد النائب" من اي انقلاب لم يقدم حماية إلا لحارسه. تلك الليلة أيقن صدام حسين، مرة اخرى، ان الأقدار الى جانبه. بعد ان تمكنت فرق الهندسة في اللواء الثالث من إزالة الباب السائل واختراق الجدار بآلة ثاقبة استطاع "السيد النائب" ان يرى حجم الدمار الذي لحق بصومعته. ناظراً الى الغرفة التي سالت وتجعدت فتداخل اثاثها بحيطانها وبلاطها، رأى صدام حسين الحياة كاملة. السيف اليمني بقي ثابتاً على الحائط. فرق الهندسة استخدمت ازاميل ومطارق لنزعه من موضعه. ذابت قبضة السيف والتحمت بحدّه. في المكتب الرئاسي في الجانب الآخر من القصر، قال "السيد النائب" بعد عشرين دقيقة: - علينا ان نعقد اتفاقاً مع الشاه. الرئيس احمد حسن البكر اجاب بوجه أصفر: - يضربون القصر! اجرى "السيد النائب" اتصالين هاتفيين من المكتب الرئاسي: على الأجهزة الأمنية منع تسرب خبر عملية الاغتيال الى وسائل الإعلام داخل العراق وخارج العراق. هذه المحاولة لم تجرِ يوماً، قال "السيد النائب"، لم تحدث ابداً. ثم وضع سماعة الهاتف ونظر الى الرئيس البكر. كان الرئيس يجفف العرق عن جبهته بمنديل اسمر. قال "السيد النائب" صدام حسين: - البارزاني ينتظر الأخبار الآن في مغارته. الرئيس احمد البكر لم يتفوه بكلمة واحدة. كان مصعوقاً. الانفجار، منظر الغرفة السائلة، هذا الحديد الذي لا يذوب في وجه نائبه، الأرق المتواصل، دقات القلب غير المنتظمة بسبب اضطراب في كهرباء الجسم، الخوف، الجرائم التي تجتاح بغداد، البشمركة، شاه ايران، عملاء المخابرات الأميركية، الحياة... كل هذا يحطم المعنويات، يدمر جهازه العصبي، يسحق دماغه سحقاً. صَمَتَ الرئيس البكر. كأن لسانه ذاب في فمه والتحم بعظم الحنكين من الداخل.