المرصد العالمي للجوع يحذر من اتساع نطاق المجاعة في السودان    أمير الرياض يعزي بوفاة صالح بن طالب    وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية يلتقي قطاع الأعمال بغرفة الشرقية    خادم الحرمين وولي العهد يهنئان رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة وجامعة الأميرة نورة تطلقان معرضًا فنيًا عن الإبل    استعراض خطط رفع الجاهزية والخطط التشغيلية لحج 1446    مدرب المنتخب السعودي: طموحنا مستمر وسنعمل لتصحيح المسار أمام اليمن غدًا في خليجي 26    مجلس الوزراء يقر الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة العامة    إطلاق "عيادات التمكين" لمستفيدي الضمان الاجتماعي بالشرقية    الأمين العام لجامعة الدول العربية يلتقي وزير الشؤون الخارجية الصومالي    رجل في اليابان يعثر على دب داخل منزله    زراعة 153 ألف شجرة لتعزيز استدامة البيئة بالمدينة    إجراءات تركية جديدة لتسهيل عودة اللاجئين السوريين    انطلاق منافسات سباقات الخيل في ميدان الفروسية بالدمام الجمعة المقبل    عبد العزيز بن سعد يشهد الحفل السنوي لجمعية الأطفال ذوي الإعاقة بحائل 2024    المملكة تُطلق الحوافز المعيارية لتعزيز الصناعة واستقطاب الاستثمارات    خطة تقسيم غزة تعود إلى الواجهة    «ليوان» تشارك بفعالية في معرض الأمانة العامة لمجلس التعاون (استثمار وتمكين)    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    "الوعلان للتجارة" تحتفل بإطلاق "لوتس إمييا" 2025 كهربائية بقدرات فائقة        "البروتون" ينقذ أدمغة الأطفال.. دقة تستهدف الورم فقط    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    "موسم الرياض" يعلن عن النزالات الكبرى ضمن "UFC"    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    الصقارة.. من الهواية إلى التجارة    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    عمان تواجه قطر.. والإمارات تصطدم بالكويت    قبل عطلات رأس السنة.. أسعار الحديد ترتفع    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    محمد بن سلمان... القائد الملهم    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    استدامة الحياة الفطرية    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    عثرة البحرين    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"مقبرة السلالة" ديوان جديد . سيف الرحبي يواجه مأساة الوجود ناثراً شعر الحياة
نشر في الحياة يوم 11 - 03 - 2003

قد لا تكون "مقبرة السلالة" بحسب ما يدلّ عنوان الديوان الجديد للشاعر سيف الرحبي دار الجمل، 2003 مقبرة الأم التي يستهل بها الديوان الى أمي، وهي في قبرها تنام، بل هي أيضاً مقبرة السلالة الملعونة، سلالة الشعراء والغرباء، السلالة التي كانت "تقترب من زهرة المصير" أو السلالة "المترحلة في الظلام" والتي "ولدت من ظل غمامة أو معراج شجرة". ولا يحاول سيف الرحبي أن يستخدم مفهوم القبر أو المقبرة لدفن ما يريد دفنه ومَن يريد دفنهم، مقدار ما يحاول إحياء تلك الوجوه والظلال والأطياف عبر نحت مقبرة "سرعان ما تألف الصمت" كما يعبّر مالارميه الذي ابتنى مقبرة لابنه الميت أناتول في كتابه "قبر أناتول" الذي ظل مخطوطاً وغير مكتمل.
قد يظن القارئ للوهلة الأولى أن سيف الرحبي إذ يدفن السلالة في مقبرة إنما يسعى الى وضع نهاية ما لما تعنيه السلالة، انطلاقاً من الطبيعة الهجينة للشاعر أيّ شاعر المقتلع الجذور والهائم على "قارعة العالم/ حيث لا موت ولا حياة..." كما يقول الرحبي. إلا أن مقبرة السلالة ليست إلا تخليداً لها وإن كان الخلود نفسه ضرباً من الوهم كما يعبّر الشاعر أيضاً. إنه التخليد في المعنى "اللحظوي" المرادف للمعنى الشعري. أي التخليد الآيل بدوره الى الموت.
الأطياف والوجوه والصور والتشابيه والحواجز وسواها تشي في ديوان "مقبرة السلالة" بجوّ جنائزي يختلط فيه الحنين والرثاء، طفولة الحياة وشيخوخة الموت، صمت الطبيعة بحراً وصحراء وصخب الروح. فالقصيدة الأولى التي يحمل الديوان عنوانها تجمع بين صورة الأم ورمز المقبرة. فالمقبرة ليست فقط ذلك القبر الذي ترقد فيه الأم، ولا مَهيلَ التراب والحجارة على الجسد، بل "المفارقة" نفسها، مفارقة الوجود، التي تجعل الشاعر يهيل التراب والحجارة بيديه على جسد مَن يحبّ، مثلما يعبّر. تصبح المقبرة حالاً جنائزية، ينطلق الشاعر منها ليرثي زمن الأم الذي هو نفسه زمن الطفل الذي كانه. ويضحي الظلام الذي يحيط بمقبرة القرية رديفاً لظلام الرحم، وتمسي المقبرة مختصراً "للكون بأكمله". ويخاطب الشاعر الأم الراحلة كأم مقيمة في قبر: "الرحيل عن" تقابله "إقامة في" كما في قصيدة بسام حجار عن اخته الراحلة. يقول الشاعر: "يقيناً... لم يعد الضوء المتسلل من النافذة يجرح عينيك الذابلتين...". ظلام الموت الذي يستدعي ظلام الرحم يدفع الشاعر الى رثاء "الحلم" الذي كانه حينذاك، قبل أن يولد، "حلماً في الظلام البعيد"، أو "حلماً في خيال الأمهات". في تلك الآونة كان الموت أشد رحمة وكذلك الحياة. وعلى غرار الشاعر الفرنسي بول فاليري الذي أثار فيه منظر البحر المتوسطي "الذي يبدأ دوماً" فكرة "المقبرة البحرية"، قصيدته التي تساوي بين زمن الموت وزمن الطفولة المستعادة، يجلس الشاعر سيف الرحبي "في مواجهة البحر": "وحيداً/ تحفّني مواكب المياه والسديم/ يوم كان العالم/ في طفولته الأولى...".
وإذ يرثي الشاعر طفولة العالم وطفولة الكائن - رديفه - يصرّ على أنه لا يريد أن يرثي ولا أن يتذكّر، كل ما يبغيه هو "النوم على الحافة كالعادة". وهذا نوم خطر وكابوسي. نوم يشغله الموتى الذين "يتدفقون من كل مكان...". الموتى الذين طالما قضّوا مخيلة الطفل عندما كان يتصوّر أنهم سيخرجون ذات ليلة، "الموتى الذين ينتشرون في ليل القرى، سائرين في نومهم...".
فضاء الشعر
لا تبدو الأجزاء الثلاثة التي وزّع الشاعر ديوانه عليها مختلفة بعضاً عن بعض، لا شكلاً ولا عمقاً أو مضموناً في معنى ما ولا شعرية، ولا مقاربة للعالم واللغة، ولا وعياً بما يسمّى "متناقضات" الوجود. فالأجزاء تضمّ النثر الى الشعر، القصائد الى الشذرات والمقاطع النثرية الصرف، حتى ليبدو الديوان وكأنه ينتمي الى الكتابة الحرة التي لا يحكمها إلا المزاج الشعري المتقلّب والمضطرب. ففي الجزء الأخير وعنوانه "الديكة وحدها تحاول إنقاذ المشهد وتعيد مياهاً بعيدة في الذاكرة"، يستحضر الرحبي في ما يشبه السرد الحكائي قصة أسماك السلمون التي ترجع الى مصبات الأنهار حيث ولدت "لتموت في مرابع ولادتها الأولى". وكذلك قصة الفيل الذي، حين يعتريه هاجس الموت، ينفصل عن قطيعه ويختار مكاناً قصياً ليموت وحيداً. تختزن هاتان القصتان - الأمثولتان كما لدى ابن المقفّع معنى العودة الى الوراء الذي يعني الماضي، بغية الموت الذي يقع في الأمام. هنا تصبح منابت البدايات كأنها ضرائح النهايات. فالحنين الى الزمن الأول يشبه الحنين الى الزمن الأخير حينما "لا نداء استغاثة" وحيثما "فراغ مطبق وعويل". إنه "الحنين الى أراضي الأجداد/ يقابله موت محقق/ على الذروة / أو في منعطف سحيق" كما يعبّر الشاعر. وفي الجزء الثاني من الديوان وعنوانه "الحصان المربوط على نخلة في أطراف البلدة" وهو طبعاً ليس "حصان" محمود درويش الذي تُرك وحيداً تحضر حال الشيخوخة، شيخوخة الزمن والمكان، شيخوخة الروح والقلب، شيخوخة الذاكرة. فها هو الشاعر يرسم صورة للراعي العجوز المتكئ على عصاه، وها هي النسوة المتدثرات بالسواد في القرية ينظرن الى الأعلى، على غرار الأم في إحدى قصائد كافافيس، "إلى سماء أقفرت من النجوم والأيائل/ سماء/ لا يصل إليها النحيب/ على الغائب الذي لن يعود". على أن الأم لدى كافافيس تظل توقد الشمعة أمام أيقونة مريم العذراء منتظرة عودة ابنها البحّار من قلب البحر. ويحضر في الجزء الثاني من الديوان الخطاط العماني الراحل عبدالله بن أحمد الحسيني عبر مخاطبة الشاعر إياه مخاطبة رثائية: "حين اصطفيتني لقراءة ما تكتب/ وأنت تصغي الى هسهسة فجر ينبلج في ثنايا الكلام".
عالم كأنه قائم على حافة: الموت من جهة والحياة من جهة أخرى، الليل من ناحية والنار من ناحية أخرى. بل عالم كأنما يتنازعه قطبان: الطفولة والحكمة، الذاكرة والنسيان، العودة والوداع. وبين هذين القطبين أو هاتين الجهتين الناحيتين تتبلور صورة الشاعر المأخوذ في آن واحد بإحساس فجائعي أو كارثي بالوجود والحياة لم أحظ بنعمة التوقع/ لربيع قادم، وحلم بالتحرر من ضيق المكان أسبح وحيداً/ متشرداً/ في الأصقاع الموحشة/ أحلم بالضفاف، ومن ضيق العبارة أي الطرق تسلك/ في البحث عن الكنز الخبيء بين الكلمات. وينتصر سيف الرحبي للشاعر الذي "يقذف جملته المرتبكة في مدلهم الليالي"، جاعلاً من شخص "الفيلسوف" لدى احتضاره شاعراً، يرسل من نافذته المعتمة، نظرات حزينة ومتعبة "كأنها التحية الأخيرة/ لسرّ الكون المستعصي على التفسير". هكذا يصبح الشعر قدر الفلسفة، ولكن قدرها الحزين. فما لم تستطع الفلسفة أن تفسّره يلقي عليه الفيلسوف نظرة شعرية، عائشاً إياه وغير مبالٍ بتفسيره. في هذا المعنى يضحي الشعر معرفة بالحدس أو عيشاً للمعرفة بالسر. قد يكون ديوان سيف الرحبي "مقبرة السلالة" من أشد دواوينه رثائية وربما مأسوية أو وعياً بمأساة الوجود. لكن هذه العناصر لا تتجلى بذاتها أو بنثريتها ووجوديتها، بل بشعريتها، ما يمنحها بريق الشجو وسطوع الحنين. وهي غالباً ما تتبدى محفوفة بحال غنائية، سواء عبر اللغة العذبة والمتهادية أم عبر الانثيال الوجدي والرثائي. ولا غرابة في أن يتذكر الشاعر، في احتدام إحساسه المأسوي، بضعة شعراء منتحدين يعرب عن استمتاعه بقراءتهم: خليل حاوي، جورج تراكل، ديك الجن، ماياكوفسكي، تيسير سبّول، يسنين... ويقول: "أحاول استعادة اللحظة التي استطاعوا فيها تنفيذ القرار".
لا ينهك سيف الرحبي نفسه كشاعر في البحث عن لغته وشعريته صوراً ومجازات ولعبة تعبيرية، فالقصيدة تسلس له، مسلّمة إياه أسراره، ومندفقة كسيل لغوي يجرف معه ما ليس شعرياً تماماً، من مفردات وتراكيب، ومن هموم يومية ومنثورات غالباً ما يطفح بها نثر الحياة العادية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.