تأسست الدولة العراقية عام 1921 وفق معادلة مختلة التوازن، وما زال هذا الاختلال يلقي بظلاله وتداعياته على مجمل تطور مؤسسة الحكم في العراق والعلاقات بين أطراف حركته الوطنية، التي وان لم تصرح علناً، إلا أنها ضمناً متخندقة في رغبة الحفاظ على الهيكلية التأسيسية في مواجهة طموح مشروع ومبرر ديموقراطياً لتغيير هذه الهيكلية وفق الموزاييك المجتمعي الديني الأثني العراقي، وليس وفق نتائج مرسومة سلفاً، ويجري ترويض وتحوير وتأويل المقدمات لتتناغم طوعاً أو عنوة مع هذه النتائج. الدولة هذه انبثقت أساساً من فكرة خاطئة تحمل بذرة الخطيئة الكبرى التي نحمل نتائجها جميعاً اليوم، ومنها ترسخ الرأي بأولوية التركيبة البسيطة للدولة على الطبيعة المركبة لها، فالأولى تحفظ المعادلة التي أريد للعراق أن يظل محتفظاً بها، في حين ان الصفة المركبة توازن بين قوة الأقاليم وقوة المركز وتحفظ للدستور والقوانين والأنظمة والتعليمات مرونة في التطبيق وآلية حضارية متفقة مع التلاوين المجتمعية، وصلاحية التحفظ أو رفض تشريع متفق مع طموح القومية السائدة أو بالأحرى نخبة الحكم الناطقة باسمها ومتعارض مع مَن يعتبر أقلية أثنية أو مذهبية. ان الطرق المستمر وبشدة على عروبة ومذهبية الدولة العراقية جعلها تغترب وتصبح كأنها ثوب مفصل بعيداً من تضاريس وطن يقوم على أوتاد عدة ولا يجوز لأي وتد أن يزعم أنه وحده يحفظ السقف من السقوط. هذا بالذات هو الجذر التأريخي للفكرة الشائعة والصحيحة القائلة بحصول غبن تاريخي متجذر تجاه الأكراد والشيعة، ليبدأ بعدها كل الخارجين من المعادلة التأسيسية رحلة البحث عن الأدلة والشواهد والبراهين التي تثبت نسبتهم وعددهم ضمن تعداد الشعب العراقي، وبالتالي حصتهم في المواقع والمفاصل الأساسية للدولة. ففي حين لجأت النخب الناطقة باسم القومية العربية الى المبالغة في نسبة العرب الى السكان ضمن هاجس الخوف غير المشروع وغير المبرر على سلامة العروبة في العراق، فإن كل من هو غير عربي لجأ في المقابل الى هذه المبالغة، ولكن هذه المرة ضمن هاجس التخوف المشروع من احتمال الانصهار في بوتقة القومية الكبرى، لإثبات نسبتها وصيانة خصوصيتها القومية والثقافية ومن ثم السياسية - الإدارية، وكان متوقعاً أن يلجأ الكردي والتركماني والآشوري الى رفع سقف النسبة العددية لمجابهة القومية الكبرى بالسلاح نفسه ولزيادة درجة حضوره في المجتمع وفي المشاركة في الحكم. وبعد جهود مضنية مرت بعشرات المحطات والانعطافات والخنادق والحوارات التي تواصلت عقوداً من الزمن، حلت هذه الاشكالية بالارتكاز فقط الى الاحصاء السكاني للعام 1957 الذي يجمع العراقيون على أنه الأكثر نزاهةً والأكثر قرباً من الواقع والحقائق بعكس الاحصاءات اللاحقة التي افتقدت الصفة المهنية الموضوعية الخالصة وكانت احصاءات سياسية في الدرجة الأولى لا يُعتد بها. وقراءة نتائج هذا الاحصاء تدلنا الى ان العرب يمثلون نحو 65 - 66 في المئة والأكراد نحو 25 في المئة والتركمان نحو 6 في المئة والآشوريين نحو 4 في المئة. وعلى رغم تململ هذا الطرف أو ذاك من قلة نسبته فإن التيار الجارف في مؤتمرات المعارضة العراقية اعتبر احصاء 1957 أحد الثوابت ومنها مؤتمر صلاح الدين في كردستان العراق المنعقد عام 1992 ومن ثم مؤتمر نيويورك 1999 وقبلها مؤتمرا بيروت وفيينا في 1991 و1992، ومن ثم أخيراً مؤتمر المعارضة العراقية في لندن أواسط شهر كانون الأول ديسمبر الماضي. اننا في الأساس ندعو الى دولة مواطنة فالصفة تتخلى عن النسب والحصص وتقسيم الأرض العراقية الى حقول سكانية مسيجة بأسلاك شائكة، لكن هذا الطموح العادل والحضاري والمتفق مع سياق العصر قد يترجم على الأرض حالياً كمفردات معاشة، نظراً لثقل التراث العملي والايديولوجي والإعلامي الذي بذله النظام الحاكم لمصلحة إبعاد كل المكونات الأثنية غير العربية وغير السنية عن الحكم والعمل على مدى عقود على ترسيخ الطائفية والشوفينية في العراق، فيما نرى على الأقل ان رواد التأسيس لو تفحصوا جيداً محتوى وأهداف وطريقة أداء النضال الوطني التحريري العراقي الذي بلغ أوجه إبان ثورة عام 1920 التي دخلت التاريخ باسم ثورة العشرين، لما ارتكنوا الى مبدأ اعتبار العراقيين من ذوي التبعية العثمانية السنية "أصلاء" وذوي التبعية الايرانية الصفوية "دخلاء" على الوطن العراقي، فهذا الأخدود العميق والخطير الذي أقحمت فيه عملية التجنيس العراقية كان الباكورة لأخاديد سياسية - متقاطعة ومتباعدة هي لغاية اليوم تصب في مجرى واحد. وضمن هذه الخطيئة التأسيسية تبلورت استهلالات التربية الوطنية العراقية على يد أول وزير معارك في العراق هو ساطع الحصري. القومية الكبرى وهي العربية مارست على الدوام حرباً إعلامية وفكرية من أجل أمر هو تحصيل حاصل وهو اثبات الطابع الطاغي للعرب وللثقافة العربية، فتقوقعت النخبة الحاكمة على نفسها أكثر حين جردت العرب الشيعة وتكويناتهم السياسية، وهم غالبية سكان العراق، من اخلاصهم للقومية العربية، وذلك شكّل مسماراً عميق الغور في جسد الدولة... والمجتمع أيضاً. * كاتب عراقي مقيم في لندن.