تصريحات كولن باول في شهادته أمام مجلس الشيوخ الأميركي في 6 شباط فبراير 2003 عن إعادة تشكيل المنطقة بعد غزو العراق يفترض أن توقظ كل من دغدغته الشعارات والذرائع التي حاولت واشنطن، ولا تزال تحاول، تسويقها. كلام باول لا يأتي من فراغ، بل متساوق بدقة مع الرؤية الاستراتيجية الأميركية اليمينية لبناء "القرن الأميركي الجديد" في طول العالم وعرضه. على وجه العموم، تعلن الاستراتيجية الأميركية الراهنة عن أهدافها ازاء نظرتها لموقع الولاياتالمتحدة في عالم اليوم، ونظرتها للآخرين، وتقويمها لعلاقاتها مع "الحلفاء" وفي مقدمهم أوروبا واليابان، أو تقويمها للخصوم، وفي مقدمهم روسيا والصين، أو تقديرها لسيناريوهات تطور ونشوء حلفاء أو خصوم محتملين، بشكل مدهش وغير خجول. هذه الاستراتيجية يلخصها "مشروع القرن الأميركي الجديد" الذي كتب عنه أخيراً في الصحافة الأميركية والغربية، والذي صاغته مجموعة "صقرية" من مفكرين واستراتيجيين أميركيين قبل عامين برعاية "معهد المبادرة الأميركية" و"معهد هدسون". باختصار، محور المشروع يقوم على ضرورة ضمان التفوق الأميركي المتفرد على بقية العالم في القرن الحادي والعشرين، وينص على أنه من أجل تحقيق ذلك، فلا بد من تبني سياسة هجومية غير اعتذارية وانفرادية غير مترددة، تعتمد على القوة العسكرية بالدرجة الأولى. يقول صاغة المشروع أيضاً بأن هناك حاجة إلى "بيرل هاربر جديدة" تسوغ اعتماد الاستراتيجية الهجومية الجديدة، وتشل قدرة النقاد والمعارضين عن الوقوف في وجه الولاياتالمتحدة. جاءت تفجيرات الحادي عشر من أيلول سبتمبر الغبية لتقدم على طبق من ذهب لصناع ذلك المشروع، الفرصة التي لا يمكن تفويتها للشروع الفوري في تطبيق المشروع. والمفارقة الكبيرة هنا أن الذين صاغوا ذلك المشروع، كمبادرة نظرية في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، أصبحوا صناع السياسة والقرار في عهد جورج بوش الابن، وعلى رأسهم دونالد رامسفيلد وزير الدفاع، وريتشارد بيرل رئيس هيئة علوم الدفاع، وبول وولفوفيتز نائب وزير الدفاع، وريتشارد ارميتاج نائب وزير الخارجية وعدد آخر من صقور اليمين الجمهوري. الآن، وفي سياق تلك الاستراتيجية الكبرى، يتجلى الهدف الأميركي المركزي من وراء غزو العراق بوضوح أكثر، وهو تسوية وتمهيد أرض المنطقة العربية من أية نتوءات ومقاومات تعاند واشنطن في مرحلة ما بعد أيلول 2001، وذلك بما يتوافق مع أهداف ضمان "إدارة" شؤون العالم، ومنه المنطقة، وفق ما تقتضيه المصالح الأميركية العالمية والاقليمية في القرن الحادي والعشرين، ومن دون تقديم أية تنازلات جوهرية، لأية قوى عالمية أو اقليمية أخرى، أو المشاركة مع أحد. على ذلك، فإن العراقوإيران وسورية، مثلت في الماضي القريب قوس النتوء الأبرز في المنطقة، وتريد واشنطن تسويته بالأرض حتى تسير العربة الأميركية بحرية في أي اتجاه شاءت. هذا القوس، وعلى ما فيه من عيوب داخلية وضعف، ظل يرفع من سقف المطالب العربية ويمنح الدول العربية الأخرى إمكان التصلب النسبي على مواقفها، وعدم القبول كلية بما تطلبه واشنطن. وجود هذا السقف وفّر ولو بطريقة غير مباشرة نوعاً من الاستقواء الاقليمي، ولهذا صار تقويضه مطلوباً. بعده، يأتي سقف الممانعة المصرية - السعودية، الذي يُراد تسويته بالأرض هو الآخر. يُراد ذلك على رغم أن النظام العربي برمته خلال العقد الماضي لم يكن على تضاد مباشر مع الولاياتالمتحدة أو مصالحها. بيد أن الاستجابة العربية للاستراتيجية الأميركية - الإسرائيلية في المنطقة في عقد التسعينات لم تكن، ولم تزل إلى الآن، كما تريد واشنطن وتهوى. الاستجابة المتلكئة تلك، على صعد عدة مثل السير في المشروع الشرق الأوسطي، قبول التسوية بالاشتراطات الإسرائيلية، تبني التبعية التامة، نزع الشرعية الاقليمية عن المقاومة، مرت بمراحل متباينة من الاستقواء والاستضعاف. كانت أسوأ مراحل الضعف هي تلك التي أعقبت حرب الخليج الثانية والتفكك الكبير الذي أصاب المنطقة، خصوصاً في ما عنى فاعلية النظام العربي. بعد تجاوز مرحلة حرب الخليج، ومحاولة فرض الرؤية الشرق الأوسطية على البلدان العربية، بدأ الموقف العربي باستجماع بعض عناصر القوة. صحيح أنه ظل في الإطار العام للسياسة الأميركية، لكنه لم يتحول بالكلية إلى تلميذ نجيب لا يملك إلا السمع والطاعة. في تفاصيل هذه الصورة المجملة كانت الدول العربية الكبرى، مصر والسعودية وسورية والعراق، إلى جانب جزء مهم من دول الخليج، مع إيران الدولة المسلمة المجاورة، تتناوبها الضغوط الأميركية والأجندات المختلفة. كان الهدف وما زال هو اخضاع هذه الدول كلياً، رسمياً وشعبياً، وكانت إثارة القضايا والأزمات في وجه هذا النظام أو ذاك تربك النخب الحاكمة وتدفعها للبحث عن حلفاء أو طرق لتفادي الضغط الجديد. لم تصل الدول العربية إلى مواقف مشتركة قوية، على رغم بروز موقف هنا أو هناك، لكنها نجحت نسبياً في الافلات من هدف الخضوع المباشر. خلال محاولات الافلات تلك كانت الدول العربية وإيران يستقوي بعضها بالبعض الآخر بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي حين كانت مواقفها تختلف في الشد والارتخاء، وفي مدى الاستجابة للإملاءات الأميركية، فإن الدول ذات الإمكانات الأضعف في المقاومة كانت تحمي مواقفها وتشجع على التمسك بها من خلال وجود مواقف أقوى وأكثر جرأة في المنطقة، وهي مواقف تراها واشنطن متطرفة! بمعنى آخر، كانت هناك عملية استقواء متبادل دعمت بينياً المواقف المختلفة للدول العربية حتى من دون تنسيق أو تشاور. وفي سياق هذا الاستقواء كان الموقفان العراقيوالإيراني على يسار الصورة اقليمياً، يليهما الموقف السوري ثم المصري والسعودي. وفرت مواقف الدول الثلاث الأولى العراقوإيران وسورية سقفاً عالياً نسبياً قوّى من الأسقف المتوسطة والمنخفضة وحال دون أن يتواصل انخفاضها تحت مطارق الضغط الأميركي. أثارت هذه التوزيعة للأسقف، وما أنتجته من آلية استقواء اقليمي غير مباشر، وإن لم يخطط لها، حنق الولاياتالمتحدة، وهي تريد الآن توجيه ضربة قاصمة إليها تمنعها من الاشتغال، وتوحد بالتالي الأسقف المتباينة للمواقف عند أخفض مستوى ممكن. وهنا تأتي مركزية ضرب العراق في الهدف الأميركي على مستوى الاقليم، لأنه يعني ضرب السقف الأعلى للموقف العربي. صحيح أن التأثير السياسي والديبلوماسي للموقف العراقي في المعادلة والقضايا العربية خلال العقد الماضي كان ضعيفاً وهامشياً، ودعائياً في كثير من الأحيان، إلا أن مجرد وجود سقفه العالي، ولو اللفظي، في الافق كان قد وفر مظلة حماية للمواقف العربية الأخفض والأضعف، ومنحها قوة غير مباشرة، وظل يمثل "احتمالية" عودة عملية لذلك الموقف، أو الاستفادة منه. وهكذا فإن تفكيك السقف العراقي صار أكثر من ملح لأنه يعني انهاء العمق العربي للموقف السوري والسعودي والمصري غرباً وجنوباً. ويعني، شرقاً، كسر الموقف الإيراني واجباره على الانخفاض أيضاً، إما طوعاً خشية التعرض لما تعرض له العراق من هجوم عسكري، وإما قسراً عبر القوة نفسها. بقية الأسقف العربية الأكثر ضعفاً، سواء المغاربية منها أو الخليجية، ستتوالى انخفاضاً أو حتى انهياراً بالتأثير ولا تحتاج إلى التدخل العملي. من أجل هذا الهدف، فإن الحرب كانت مقبلة منذ أن أعلن جورج بوش وضع العراق على رأس ما يسمى "محور الشر" في خطابه سيئ الصيت قبل أكثر من عام، وكل التحركات الصورية التي تبعت ذلك، بدءاً من قرار مجلس الأمن الرقم 1441، وزيارات فرق التفتيش، والاجتماعات، والخطب وسوى ذلك، ليست سوى هوامش على النص الأصلي. ان ضرب العراق يمثل ضرب "عقدة الاسكندر" التي إذا انفكت فإن الخيوط الأخرى تنحل بالتتالي. على ذلك، فإن كل الحديث والدعاية الفارغة عن إحلال الديموقراطية في العراق، و"اكتشاف" الاستبداد العراقي من دون سائر الاستبدادات العربية والعالمية النظيرة، ودعاوى بناء عراق حديث، وكل ما سوى ذلك ليس إلا الحب الذي تحتاج إليه طاحونة القوة الأميركية من أجل المضي في استراتيجية هي أعلى بكثير من كل أجندات حقوق الانسان التي يتضامن معها المرء بشكل مطلق ان كانت حقيقية وليست شكلية. ويجب أن لا يُفهم من هذا الحديث أن التركيز على استراتيجية الولاياتالمتحدة وأهدافها الكبرى من وراء ضرب العراق يعني عدم التعاطف مع معاناة الشعب العراقي من الاستبداد الداخلي الذي طال بشكل مرعب. فالحاجة الى رفع تلك المعاناة، وإيقاف الفظاعات كانا وما زالا أكثر إلحاحاً. وإذا كان لا بد من تسجيل موقف لا لبس فيه فإن ديكتاتورية النظام في العراق مدانة بالفم الملآن، ومطلوب تغييرها. لكن في الوقت ذاته فإنه من المشروع، بل والضروري، ممارسة الشك العميق تجاه كل النوايا والمخططات الأميركية تجاه المنطقة. وهو شك لا يستند فقط الى التجربة التاريخية المرة التي مرت بها بلداننا في العقود الماضية مع السياسة الأميركية عموماً، بل وأيضاً الى الوحشية العلنية لهذه السياسة في الوقت الراهن، في ظل الادارة اليمينية المتطرفة الحالية في واشنطن. التلاعب بالدول العربية ضد بعضها البعض شرق أوسط ما بعد غزو العراق يتضمن أيضاً إعادة توزيع أوزان الأدوار والنفوذ الاقليمي بشكل مخل ولا يتناسب مع الوزن الجغرافي أو السياسي للدول العربية. ومثل هذا التوزيع المخل يماثل مخاطر التقسيم الذي تلوح به بعض الأصوات الأميركية تجاه بعض الدول العربية الكبرى، ولا سيما العربية السعودية. وعلى رغم ان خطر التقسيم يظل قائماً في حالتي العراق والسعودية، إلا أنه ليس عملياً، من ناحية المصالح الأميركية قبل أي شيء آخر. فهو يعني صداعاً أكبر لواشنطن. ففصم المنطقة الشرقية من السعودية قد يعني احتمالات سيطرة مستقبلية شيعية عليها، مجاورة لايران، وهو آخر كابوس تحلم به واشنطن. وكذا الأمر في شأن تقسيم العراق. فلا الدولة الكردية في الشمال، ولا الشيعية في الجنوب تصب في مصالح الولاياتالمتحدة. الذي يراد ويخطط له هو عراق فيديرالي "سلامي" سقفه السياسي منخفض، وتابع للسياسة الاميركية في المنطقة. العراق "منزوع الارادة السياسية والسيادة"، زائد الدول الخليجية الصغرى، سيتم اقحامها في لعبة تنافس مع مصر والسعودية وسورية على النفوذ الاقليمي من خلال اعطائها وزناً ودوراً أكبر من حجمها. كل ذلك على حساب العلاقات الاقليمية البينية، ولو كانت ضعيفة أصلاً كما هي الآن، ومن أجل إبقاء التوتر قائماً في العواصم العربية الكبرى خشية التهميش والخسارة والتجاوز. ستدفع تلك الخشية تلك الدول في زاوية الادراك الى محاولة تفادي التهميش والخسارة والتجاوز عن طريق واحد هو: تلقي الاملاءات الاميركية والأجندات المتلاحقة والسعي للتبشير بها في المنطقة والحرص على تطبيقها. وهكذا فإن توزيع شهادات حسن السلوك، ومقدار النفوذ الاقليمي، سيكونان وفق النجاح في اختبار "الرضى الأميركي"، وفي فوضى التنافس على تلك الشهادات تكون الأرض الاقليمية قد مهدت لأية أجندة أميركية أو اسرائيلية. * كاتب وإعلامي، كامبردج بريطانيا.