هل يمكن الجمع بين جان بول سارتر ومارغريت دوراس في عمل مسرحي واحد؟ لا شك في أن الأمر يتطلّب الكثير من الجرأة: مزاوجة نصّ للفيلسوف الوجودي مع آخر لزعيمة "الرواية الجديدة"، كما تفعل سهام ناصر في عملها الجديد "No? No Exit" لا خلاص الذي يقدّم حالياً على خشبة "مسرح المدينة" في بيروت. أو بالأحرى تطعيم مسرحيّة سارتر Huis Clos "جلسة سريّة" "لا مفرّ" حسب اجتهاد آخر بملامح وأصداء ومناخات وصور من نصّ دوراس "هيروشيما... يا حبي" الذي نقله السينمائي ألان رينيه إلى الشاشة، ليصبح الفيلم أحد مراجع السينما الفرنسيّة الحديثة، في عزّ صعود الموجة الجديدة مع فرنسوا تروفو وجان لوك غودار واخرين... ولا تخلو رهانات سهام ناصر الفنيّة من الجرأة، منذ اكتشفها الجمهور على نطاق عربي، مع مسرحيّة "الجيب السرّي" التي تعتبر احدى المحطات المرجعيّة في الحركة المسرحيّة اللبنانيّة بعد الحرب الأهليّة. فمن تعاملها مع نصّ "الحلزون العنيد" للكاتب الجزائري رشيد بوجدرة... إلى تعاملها مع دوستويفسكي نفسه في "جاز"، وقبله مع التراث المسرحي الاغريقي كما أعاد قراءته جان آنوي في "ميديا"، نلاحظ دائماً لدى هذه المخرجة المسرحية اللبنانية سعياً إلى الابحار عكس تيّار النصّ الأصلي، أو لنقل إلى تحويله وتحويره والكتابة فوقه مشهدياً، وتقطيعه بصرياً وحركياً بصفته مقطوعة مشهديّة، واحتفالاً متعدد المستويات. لكنّ الجرأة وحدها لا تكفي طبعاً، والتوصّل إلى عمل فنّي متماسك جمالياً، مقروء على مستوى الرؤيا والخطاب، يفترض وجود مجموعة من المقوّمات والعناصر المترابطة، القادرة على الوصول إلى المشاهد، واقناعه، وتوريطه في هذه اللعبة القائمة على المجازي والغيبي والمجرّد. مشروع سهام ناصر هو خلق علاقة تجاذب وتواتر بين مسرحيّة "جلسة سريّة" التي يعبّر فيها الفيلسوف الوجودي عن نظرته المتشائمة إلى المجتمع البشري، حيث كلّ منّا جلاد الآخر وضحيّته، ونصّ لدوراس عن الحرب وويلاتها، عن "هيروشيما" والقنبلة الذريّة، نصّ يقوم على السرد والتداعيات و"الفلاشباك"، من خلال حواريّة طويلة بين حبيبين في غرفة مقفلة، تكتسي طابعاً حسياً وحميماً عناق الجسدين، ليضع الحياة "إروس" في مواجهة الموت "تاناتوس". وتغامر ناصر في تقديم نصّ سارتري صعب، يستعصي على المسرحة، ويتطلب ربّما كثيراً من التقشّف في الاخراج والبساطة في الاداء... فكلّ من قرأ مسرحيّة "جلسة سريّة" أو شاهدها يعرف أنّها صعبة التجسيد على المسرح، نظراً لطغيان "الفكرة" على "الحدث"، والبعد الذهني على النبض الحيّ. وقد لا يكون فن الكتابة للمسرح أكثر المجالات التي تجلّى فيها صاحب "الكائن والعدم"، في رأي كثير من الباحثين والمؤرخين والنقاد. ومن المعروف أن أكثر من مخرج قدّم هذا النص، لجأ إلى اعتماد الواقعيّة - بل الطبيعيّة - أسلوباً، لايصال كلمات سارتر وأفكاره، وخلق التوازن مع الجانب المجرّد: إمرأتان ورجل انتقلوا إلى "الحياة الأخرى"، وشاءت المصادفات أن يلتقوا في غرفة واحدة، وأن يجدوا نفسهم مجبرين على التعايش في هذه "الجحيم"... إذ ليس أمامهم أي ملاذ أو خلاص أو وسيلة للإفلات من هذه ال"إقامة جبريّة". وهكذا نكتشف تدريجاً كيف ينغلق الفخّ على الأفراد: من جهة يواجه كلّ منهم حياته الماضية ويحاول متابعة تطوّراتها بعد "غيابه"، تلاحقه الأخطاء والاساءات والدناءات التي ارتكبها... ومن جهة أخرى يدخل في صراعات جديدة، ويستسلم لمجموعة علاقات قائمة على استعمال الآخر وتلقّي اساءاته. يكشف سارتر الجانب الأسود من الوجود، ويبعث الجلاد القابع في ذواتنا... ويقحمنا في هذه "الجحيم" التي يصنعها الآخرون، ف "الجحيم" السارترية هي الآخرون. لكنّ سهام ناصر تسعى إلى فتحها على جحيم أخرى، أكثر واقعيّة... إنطلاقاً من كارثة هيروشيما في الحرب العالميّة الثانية. تريد للجحيم الوجودية... أن تتقاطع مع حجيم تتهدد الحضارة البشريّة، عشيّة حرب يخيّم شبحها بإلحاح على المنطقة العربيّة والعالم. ويبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن هذه المزاوجة أن تكون موفّقة ومقنعة؟ يبدأ عرض "No? No Exit" بمشاهد من فيلم ألان رينيه، قبل أن تتوافد الشخصيات الثلاث، إلى تلك الغرفة - "الزنزانة الميتافيزيقيّة" حيث يستقبلها سجّان جنيد سري الدين دائم الحضور. ويجمع الديكور بين غرائبيّة الاطار الذي تدور فيه المسرحية، وواقعيّة المشهد العربي اليومي، من خلال جدار مغطّى بالشعارات، يعيدنا إلى الراهن. لكن المشاهد لا يشعر بالاختناق، أو بالضيق والحصار، كما تقتضي اللعبة. ويأتي الاداء المؤسلب للثلاثي جوليا قصار، جوزيف بو نصار، تقلا شمعون، ليخلق مناخات غرائبيّة سرعان ما تفلت منّا، بسبب اصرار سهام ناصر على مراكمة المؤثرات والعناصر الاحتفاليّة. ولا بدّ من التوقّف عند استعمال "الكورس" الذي يتألف من أربعة كائنات غريبة بالملابس البيضاء دانيا حمّود، مايا زبيب، يارا بوحيدر، داليا نعوس، تجوب الصالة ثم الخشبة... كأنّها أطياف خارجة من ضمائرنا، تحوم حول الحدث، تؤدي حركات تعبيريّة تصميم لافت للنظر يحمل توقيع الراقصة الجزائريّة كريمة نون، وتردد نثاراً من حوار الشخصيات الثلاث، ومن نصّ دوراس... وهذا الاستعمال المستحدث للجوقة الاغريقية لا يساهم في تطوّر الايقاع الدرامي، بقدر ما يشوّش الاحتفال الذي يرزح تحت عبء تلك الابتكارات الزائدة. تعمد سهام ناصر إلى خلق حالة شعوريّة وتأثيريّة، من خلال استعادة مكررة للصور والكلمات، في حركة دائريّة مقفلة... لكن تقنية التداعي هذه لا تؤدّي وظيفتها هنا، كما في أدب مارغريت دوراس. هذا العنصر يبقى منفصلاً عن سياق المسرحية الأساسيّة، ولا ينجح في مواكبته ونقله من مستوى إلى آخر. ونلمس نزعة المخرجة اللبنانيّة إلى الابتكار الحركي، وإلى استعمال عناصر مختلفة الصورة، الفيديو، الحركة، الجسد... لصوغ احتفالها المشهدي. غير أن نقطة الضعف الأساسيّة في عملها الجديد هي عدم السيطرة على الخطاب، وعدم التحكم في الرؤيا. هكذا تبدو قراءتها لسارتر غير مكتملة، وتعاملها مع دوراس مقحماً في بعض الاحيان... أما صور الشخصيات السياسية والفنية التي تتوالى في نهاية العرض على شكل ديابورما، فتزيد الخطاب بلبلة، والرؤيا تشوشاً وادعاء. ذلك أن الشرح الاضافي يثقل كاهل العرض، بدلاً من أن يخلق حالة التجاذب التي تسعى إليها سهام ناصر، بين أقطاب ومحاور مختلفة لخلق معنى جديد. ويخرج المشاهد بمجموعة من الصور والحالات والمناخات الجميلة التي تفتقر إلى رابط عضوي يجعل منها عرضاَ مسرحياً ناجحاً. وهذه الاضافات اللافتة، والابتكارات المهدورة، تميّز أسلوب سهام ناصر... وارثة حداثة السبعينات، أو يتيمة العصر الذهبي للمسرح اللبناني، إذ تبدو ضائعة بين جيل الرواد، وجيل المسرحيين الشباب الذي يعيد النظر بكلّ المفردات والأسس والمسلمات، بل بالعرض المسرحي من أساسه.