لا يحتاج شارون الى دليل واحد بعد الألف ليظهر ان احتمالات التفاهم وليس السلام بينه وبين الفلسطينيين لا تتعدى واحداً في المليون. حتى التفاهم على الاعتراف له بكسب جولة كبرى على الانتفاضة، أقل بكثير من مشروعه لتصفية قضية فلسطين، ولا يعني سوى قبوله هدنة، يرفضها كما تتحداها "حماس" و"الجهاد". أي هدنة يقبل بها شارون، زعيم ليكود الفائز بغالبية التطرف، ليكمل ما بدأ، وهدنة مع من؟ وهو لا يرى انه لا تزال هناك سلطة يتفاوض معها في الضفة الغربية وغزة، ولا يواجه سوى ذلك "القلق" الاميركي، حين يواصل تحت ضجيج طبول الحرب على العراق حرب إبادة الفلسطينيين، وخنق الحياة وراء الخط الاخضر، لأن الخط الاحمر الاميركي سقط مع انهيار برجي مركز التجارة في نيويورك. أليست ذروة الاستهزاء بالفلسطينيين، والعرب واللجنة الرباعية ذاتها، بما فيها الطرف الاميركي، محاولة رئيس الوزراء الاسرائيلي الايهام بأنه لا يزال يقبل التفاوض على "خريطة الطريق" لتطبيقها بشرط واحد، هو إدخال مئة تعديل عليها؟!… على رغم مساوئها، نسبياً، بالأحرى يقول شارون ان الطريق الوحيدة المباحة لمن يبقى في الضفة وغزة بعد الحرب "الزلزال" على العراق، هي خريطة "ليكود" لدفن القضية الفلسطينية. وبعيداً من كل الصفات التي استحقها بجدارة، متواطئاً مع الحملة الاميركية الكبرى، وملوّحاً بسيفها للبنان وسورية وحتى ايران، متلهفاً على كارثة العراق، من يصدق ان حال الفلسطينيين ستكون أفضل حين تهبّ رياح الحرب من الشرق، او قبول شارون اي هدنة تفقده رصيده وهو لم يزل في بداية حكومته الثانية؟ الأكيد ان القيادة الفلسطينية التي لم تنجح في إقناع فصائل مثل حركتي "حماس" و"الجهاد الاسلامي" بالورقة المصرية لهدنة السنة، تجاوزت هذه الهدنة بقرارها نزع عسكرة الانتفاضة، ولو للفترة ذاتها. فالفارق شاسع في الظروف المتبدِّلة سريعاً، وفي الوسيلة، وشتان بين قبول الفصائل المعارضة وقف العمليات طوعاً واستخدام الصواريخ، وبين قرار للقيادة الأرجح أن يؤدي تنفيذه قسراً الى ما راهنت عليه اسرائيل منذ ما قبل الاجتياح: حمام دم فلسطيني مجاني. وتعقيدات المرحلة تقتضي البحث عما تسعى اليه السلطة، عشية الحرب على العراق: انتزاع الذرائع من يد شارون لئلا يستغل دخانها وبارودها في حملة تهجير واسعة من الضفة وغزة للرد على أي عملية تنفّذها الفصائل المعارضة. سبب آخر، يقول "ابو مازن" لقرار القيادة الفلسطينية الذي اعلنه من موسكو، هو تقديم ورقة تجميد العمليات المسلحة في مقابل فتح سكة "خريطة الطريق". وواضح ان رئيس الوزراء الاسرائيلي اختار التوقيت المناسب، اي يوم كشف "ابو مازن" القرار، ليسرّب معلومات عن المئة تعديل على الخريطة… اي ببساطة خلق المبرر الكافي للصدام بين القيادة والفصائل التي تسأل عن ثمن "تدجين" الانتفاضة. والوجه الثاني لما قاله امين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، أبرز الاسماء المرشحة لمنصب رئيس الوزراء، ان السلطة نفضت يدها من حوار القاهرة، ما دامت ثماره عصية، لن تنضج، بعدما تأخرت كثيراً، وعصيت شوكة "حماس" و"الجهاد" على مشاريع "خريطة الطريق". لكن الواقع يقتضي ايضاً التساؤل عما اذا كان قرار القيادة الفلسطينية تأخر الى الحد الذي يجعله من دون قيمة عملية لدى شارون، او مفاعيل لتعطيل خططه. ولا تتحمّل السلطة وحدها المسؤلية، بل كذلك خصوصاً الفصائل المعارضة التي تعاملت معها عبر حوار القاهرة، وكأنها مجرد فصيل آخر، عليه ان يستسلم لمنطق المواجهة وحده… على رغم الثمن الباهظ الذي دفعه المدنيون الفلسطينيون اضعافاً مضاعفة لخسائر الاسرائيليين من العمليات، و"صواريخ القسّام". ان افتراض احتمال لجوء السلطة الى القوة لتنفيذ قرارها، في غياب وسيلة أخرى بعدما فشل الحوار مع المعارضين يثير شكوكاً في الثمن السياسي المطلوب اميركياً واسرائيلياً، لا لتعويم قيادة الرئيس ياسر عرفات، بل للاعتراف بالهيكلية الجديدة للسلطة التي تسعى اليها واشنطن، لتواكب مرحلة ما بعد الحرب على العراق… او ببساطة الشرق الاوسط "الجديد" بعد الحملة العسكرية الاميركية. أليس الحديث عن قبول الفصائل الهدنة شرطاً لمعاودة الحوار في القاهرة، نعياً له؟ المؤسف ان يكون حمام الدم بين الفلسطينيين افضل وسيلة تمكّن شارون من الانصراف الى المهمة الكبرى التي لم تعد سراً: جبهتي لبنان وسورية، لفتح معركة تجريد "حزب الله" من سلاحه، وإسكات صوت "الجهاد" و"حماس" في الخارج… فحرب "العراق الجديد" فرصة ذهبية لاسرائيل، وحرب الطعن بالنيّات بين القيادة الفلسطينية ومعارضيها تجاوزت ربع الساعة الاخير في زمن خريطة ليكود.