1 هناك. في العالم العربي ما يُبعدنا عن الاختزال. عالمٌ بأكمله يحثنا على التأمل. مع التخلّي عن الندم كما عن التشفي. لا هذا ولا ذاك بإمكانه أن يجعلنا نرى. في النّهار واللّيْل. ما نحنُ عليه. ما هي عليه ثقافةٌ عربيةٌ. في عموم العالم العربيّ. مع الأيّام المُتتاليات يتأكّدُ الجمع. الذي يأكل من لحمنا ويهرسُ العظام. وليس لنا غير أن نتفرسَ في الوقائع. مُتجرِّدين من عواطفَ لا تنفع. لأن الوقائعَ أكبرُ من العواطف. وهي أكثرُ من ذلك تستعصي على تقديم نفسها هَدياً للعَواطف. وقائعُ تطوّقُنا. تُرغِمُ على التراجع عما كانت الثقافةُ العربية الحديثةُ انطلقت مِنه. ومن أجله كات مُفتتحاً لزمنٍ ولوعدٍ كانا مُشتركين. رغمَ كل العوائِق. التي كان الاستعمارُ أعْتاهَا. لم يكن الحلمُ بعالمٍ عربيٍّ حديثٍ ممنُوعاً عن الخيال الجماعي. تلك الشعلةُ المباركةُ التي كانت. قد اتقدت. لم تكُنْ خادعة. ولا اصطناعية. فيها ما لم يكُنْ ينتظر الإِذنَ. والأمرَ. كان التوحد. بها وفيها. طبيعيّاً. تلقائيّاً. من جميع البلاد. العربية. كما كانت عليه مبادئ الحداثةِ الغربيةِ ذاتِها. في أراضيها التي نشأت فيها. وضعيةُ الانضمام الى التحرر. الحريّة. كانت التعبير عن الأعمق. في كلِّ واحدٍ منا. حتى الذين كانوا يُنازِعونَ لم يقدِروا على منع ما كان ينتقلُ شيئاً. فشيئاً. بين النّاس. وهم يتوقعون من مستقبلهم أن يكونَ لهُمْ. والبعيدُ الذي كان هوَ ما يدعُو اليومَ الى تأمُّلٍ. بعد أن أصبحتِ الثقافة العربيةُ الحديثة محتضرةً في هذا العالم الذي كُنّا سميناهُ عربيّاً. ثمَّ لم نعُدْ نعرف بمَ يمكنُنَا اليوم تسميتُه. بل تلكَ تسميةٌ صارت مرفوضة بالعُتُوِّ الذي علينا استكشافه. بدون انفعال. في خطابٍ أو سلوك. فالانفعالُ لا ينفعُ في شجاعةٍ ولا في رأي. هُو الرّمادُ الذي لا يحتضِنُ جمراً. رمادٌ تحتَ رمَاد. هل هذا صوابُكَ. أيها السيدُ. أيتُها السيدةُ؟ أسأل نفساً لربّما كانت اليوم تندبُ ما نحن عليه. لستُ أدري هل ثمة نفسٌ نادبةٌ. لكنه افتراضٌ لإبطال الانفعال. أقبلُ بالافتراض في التأمُّل. كلما قلت رُبما بادرتني حالةُ التوقف قليلاً. والجلوسِ. قبالةَ نفسِي. قبالةَ زمنٍ. وثقافةٍ وعالمٍ عربيّ. 2 بلعنة الحداثة أصفُ ما أصبحتْ عليه الثقافة العربيّة الحديثة. في مجتمعها. وبين عشيرتِها. فهي ليست فقط. الغربةَ عن مجتمعٍ وعن قِيمٍ. بل هي اللعنةُ. الطردُ والإبعادُ. لا المجتمعُ يسمحُ لها بالإقامةِ. ولا القيمُ تتخلّى لها عن مكانِهَا حتى تتبدّلَ الرؤيةُ والعلاقات والأحكام. أكثرُ من قرنٍ مرَّ على الأصوات الأولى التي أقدمت على الانفتاحِ على العالَم الأوروبيِّ. معتقدةً أن المستقبلَ هو قبْلَ كلِّ شيءٍ الانخراطُ في العالم الحَدِيث. حتّى المناطقُ الأبعدُ عن ظهور الحركات المؤثّرة في عُموم العالم العربي. كالمغرب. كان التوجهُ فيها نحو أوروبا بقصد التعلّم واضحاً. والبعثةُ المغربيةُ الأولى التي سافرت في القرن التاسِع عشَر الى أوروبا لتعلُّم المعارف العلمية والتقنية. الحديثة. عادت الى المغرب لتجدَ الأبوابَ مُغلقة. ظلّ أفراد البعثة موقوفين وراء الأسْوار. تلعنهُم العامةُ بقدر اللعنة التي طاردتهم النخبةُ بها. لم يكن أفرادُ هذه البعثةِ تعلموا فكراً أوروبياً. ولا أدباً. التقنيةُ بمفردها. مع ذلك كان مآلُهُم الطردَ والإبعَاد. والحركاتُ المؤثّرة في عُموم العالم العربيِّ. المصريّةُ والشاميّة. هي التي كانت بدأَت بالدّفاع عن نمطٍ جديدٍ من التفكير والمعاملات والتنظيم والعلاقَات. وهي التي كانت رُؤيتُهَا اشملَ في التحديث. محرّضةً على إبدال الأنظمةِ. في جميع الحقول. استجلاباً لمعارف وقيمٍ. من ثم كانت الحداثةُ العربيةُ صدرت عن فكرة. وعن مواقف. لي أن أبدأ بالمواقف. هذا أيسرُ للتأمل. أعنِي أكثرَ بياناً. وظهُوراً. لعِيَاننا، عُيونِنا. اللعنةُ والمواقفُ حتى لا يتبدّد التعارضُ. الذي نعيشه في مُجتمع وفي ثقافة. تأملٌ يمكن حصرُه في حقولٍ دالّة لها الصلاحيةُ الإجرائيّة. إنّها الحقولُ التي نلمسُها في أقربِ ما نصطدِمُ به. 3 اعتقدتِ الحداثةُ في إنشاء عربيّةٍ لزمنِنَا. إنّه الاعتقاد الذي كان المشجّعَ على اختيار مسلكٍ مُغاير للمُعجم والتّراكيب والقواعد أيضاً. هذه العربيّةُ هي التي عمِلت على إشاعتها وتعميمِهَا في خطابات. ولكن العربيةَ اليوم مُحاصرةٌ. في جمهرةٍ من الخراب. لقد أعطَى الأدباءُ والصحافيونَ والمفكّرون والباحثُون والعُلَماء هذه اللغةَ شرعية التحديث. حتى تصبحَ مرحةً. خفيفَةً. طائرةً في الأجواء المُشتركَة مع العالم. لكنّ ذلك لم يتعدّ النخبةَ التي اشتغلَتْ. واهتدت. ثم هي اليوم في صمتِها تنظرُ الى عربيتهَا تئِنُّ. تُحتضَرُ. على مرأىً منْهَا. وجاءتِ الحداثةُ بالدّعوة الى تحرير المرأة. كان التعلّمُ. المدرسةُ. رفعُ الحجَاب. الحياةُ العامة. وفي حياتنا اليومَ تختار المرأةُ ما لم يكُن على بالِ الحديثِين. هي اليوم تتنافسُ في إسدال الحُجُبِ. لا إسدال حجابٍ واحد. على جسَدِها. وفعلِهَا. تتخلّى المرأةُ. المتعلمةُ. التقنيةُ. الإداريةُ. الفنانةُ. عن هذه الحُرية. تكفّنُ جسَدها بطبقاتٍ من السّواد. قِطعٌ سوداءُ تحشُر الجسَد في كفن. حتّى العينان تكادان تُصبحان ثقبتيْن محشوَّتيْن بالسّوَاد. ودعتِ الحداثةُ في الجَامعة الى الفصل بين العقيدة والمنهجَ. لكن جامعاتِنا اليوم عبارةٌ عن مرستانات. على المداخِل أشرطةٌ ترددُ كلها الدعوة الى التوبة من كل فكر وإبْدَاع. على مداخل الجامعات. صفوفٌ من المجلّدات التي هي نقيضُ المعرفة الحديثة. كتبُ الدعوات الدينية الجاهرة بمنطق التكفِير. هذه الجامعات التي كان الحديثون أنشَأُوهَا لتهبَّ عاصفةُ العقل والنقد والسؤال تتحوّل الى أقبيةٍ فيهَا يتباهَى الجاهِلُون بالجهل. طوائفُ متلاحقةٌ تمنع الجامعةَ عن الجامعة. تمنعُ الفكر عن الفكر. تمنعُ الإبدَاع عن الإبْدَاع. وفي وسط ساحاتِ الجامعات مقاصلُ تقطعُ الرؤوسَ كلَّ ثانية. ليرتفعَ التهليلُ بالجَهْل وحدَه. والحداثةُ انتقدتِ الاستبداد. مطالبةً بالثّورة عليه. ومطالبةً بحياة انسانية. يتسَاوى فيها أبناءُ المجتمع الواحد. ونحنُ اليوم ننعم باستبدادٍ لا يشيخ. واحديةٌ بجَواسيسها ومُعتقلاتها وجلاَّديها. أين أنتِ أيتُها الحريةُ. التي من أجلِها ضحّينا. بالنفس. قبل المال؟ أسمعُ الحديثين الأولين يصرخون في أحفادِهِم وفي حُكام بلدانِهم. لم يمُت أحدٌ منهُم. وهم في منزلةِ العَذاب يُشاهدون ما حلّ بأفكارِهِم. وبالحياة التي قضوهَا مُدافعين عن فكرةِ الحرية. من سُلطةٍ ومن استبداد. وكذلك كانت الحداثةُ في الثقافة. في بداية الفكرة كانت الرؤيةُ واضحةً. لا بُدَّ من استقلال المثقف عن السلطة السياسية. حتى يتمكّن من انتاج ثقافةٍ نقديّةٍ. حُرة. مبدعَة. لا تستجدي ولا تخضع. تلك الرؤيةُ التنويريةُ المتألّقةُ هيَ اليوم صيحةٌ في وَاد. لم يعُد للثقافةِ هذا الوعدُ بالاستقلال عن السُّلطة السياسيّة. مثقفون حديثُون نادِمُون علَى فكرة استقلاليتهم عن أصحاب السُّلطة السياسيّة. هي لم تتبدّل فيما هم يقبَلُون التنازُل عن الخطوة الأولى التي بها أصبحوا مُثقفين. يثِقُ فيهم مجتمعٌ. كما يحلمُ بتحقيق ما كانوا يكتُبون. في السياسة. والمُجتمع. والاقتِصاد. والعدالَة. والحَياة. ظلامٌ يُبعدنا عن تلك الجمرة الأولى. التوقد الخلاّق. الذي كان صورةً ممكنةً لشُعوب ولحياة. ولك أن تتأمّل هذا التبرير الذي يتعاظمُ. من بلدٍ الى بلدٍ. لكي لا يبقى مُتنطعٌ يقول "لا" لهذا الخُضُوع لسلطةٍ سياسيةٍ لن تتنازل من تلقاءِ نفسهَا عن استبدادِهَا. وكانت الحداثةُ إعلاناً عن حوارٍ مع الثقافة الحديثة. في الغرب أولاً. ثم في كل مكان من العالَم. حيث الانتقال من عهدٍ الى عهدٍ. وفي واقع ما تعيشُ. في المكتبات. في النّدوات. في المجلات. في معارض الكِتَاب. في الجامِعات. لك أن ترى ما يُناقض الذي انطلقَت منهُ هذه الثقافةُ العربيةُ الحديثة. والمراحلُ التي رسمتِ الحدود بين ما كان جفاءً وبين ما بادرت به ثقافةٌ وما سَعَت إليْه. الفلسفةُ وجهُ الحداثة الغربيّة الكُبرى التي أعطتِ النقد قوةَ الحضور في حياة الثقافة وفي حياة المُجتمَع ومؤسساته. هذه الفلسفةُ التي تغذّينا منها. جيلَ النقد. منزوعةُ السلاح اليوم في حياتنا الثقافية. كانت البداية تنتظر استمراريةً في الترجمة والتأليف والتبليغ. وها هي الفلسفة بيننا ذبيحةً. تتحوّلُ الى أنقاض. في مجتمع ثقافيٍّ لم يعد يفهمُ من الفلسفة إلا الكُفرَ. ولا يعاملُ أهلَها إلا بالتكفِير. 4 كيف لك أن تنظُرَ الى هذه المواقف من خلال الوقائع ثم تظلُّ بعيداً عن الوصْف. على الأقل؟ لعنة الحداثة تسأل. هل هي الحداثةُ لعنةٌ في مُجتمع عربي وفي حياةٍ ثقافيّة عربية تشمل بلاداً رغم كل اللوينات. التي نتشبثُ بها أحياناً كي نُبرّر واقعاً ليس هو الواقع. العميق؟ منذُ البدءِ. البدءِ في مشروع التحديث. اتضحَ أن هناك حداثتين. حداثةٌ معزولةٌ وحداثة معطوبة. تمييزٌ يتأكدُ اليوم. ولكن بدرجة أعلى من حيثُ سيادة الحداثة المعطوبَة. بها تكتملُ شروط لعنة الحداثة. أو هيَ اللعنةُ ذاتُها. بعد مضيِّ قرنٍ أو يزيد. ولا شفاءَ من هذا الواقع القاسيّ الذي لا يلينُ من أجل حياةٍ حُرّة. نتساوى فيها مع سِوَانا في العالم. لا يهمُّ أن نسأل عن سبب انتصارِ الحداثة المعطوبَة. لعنةِ الحداثة. طردِها وإبعادها. فالتحليلات والتفسيرات موجودةٌ. وهي لا تُضيف شيئاً بالنسبة لما نحنُ عليه. ما قبل التحليلات والتفسيرات وما بعدها هو اللعنَة. عندما تنتصرُ الحداثةُ المعطوبة في مجتمع عربيّ بأكمله. فالتأويلاتُ التي تُهيمن على الحداثة تنزعُ الحداثةَ من الحداثة. النقديةِ. المُنفتحةِ. المتفاعلة مع العالم. وأنت لا تستطيعُ التراجع عن تأمل مشهد أصوليّ يُتقِنُ التقنيات المعلوماتية. أو محجبَة تحمل نقّالاً وتسوق سيّارة. أو حاكِماً يعتمدُ دستوراً وبرلماناً ثم هُوَ في الوقت نفسه يقرّر شخصيّاً في مصير الصّلاحيات والحقوق وتطبيق القوانين. هذه الحداثة المستترة هي الحداثة المعطوبة. اللغةُ العربيةُ. المرأةُ. الجامعةُ. السلطة السياسية. استقلاليةُ المثقف. حقولٌ لا تغطِّي جميعَ العلاقات والمحسوسات. مع ذلك صارت كلها رهينةَ هذه الحداثة المعطوبة. اللعنة. الطردِ والإبعاد. عن مُجتمع وعن قيمٍ. حتّى التمييزُ صار صعباً داخلَ المؤسّسة الواحدة. أو العائلة الواحِدة. أو الشخص الواحِد. والدخيلةُ جرداء. لا تقترب من هذه المنطقة الأشدِّ إيلاماً لهؤُلاء الذين يرتضون تكفيرَ الحداثة. إنّها المُبعدة الطريدةُ. بأوقيةٍ من الجهل يُجيبك المسؤول. وفي نفسه نفورٌ منك. ومن سؤالك. لا تقترب منها. هي التي يَئِدُهَا. يخشَى أن تتفتّح زهرتُها. فينهدم الجهلُ على الجاهل. لا تقترب. 5 انتصارُ الحداثة المعطوبة هو اللعنة. لعنةُ الحداثة. في الثقافة العربية. وفي مجتمع وحياةٍ سياسيّة. والجهل هو العنوانُ الذي يلخصُ اللعنَة. لكأنّنا سعداءُ بالجهل. مفتونون بالخُضُوع. مستبشرون بالجفاء. راغبُون في القبر. مبتهجون بالقُبح. مطمئنون للخوف. لعنةٌ تشاهدها في الشوارع كما تلاحِظُها في الأوساط العائلية والحياة العملية والسياسيّة. لعنتُكَ ولعنتِي. والأرديةُ السوداء. تتبدّل أشكالُها حتّى لا حقّ لي إلاّ في تأمُّل لعنَة. فمن منا سينجُو من هذه اللعنَة؟