يوماً بعد يوم يبدو الاعتدال العربي بغير معنى، لا أحداً يطلبه، وليس خياراً، بل كأنه مجرد حالة مفروضة على هذا الطرف العربي أو ذاك. وفي هذا السياق لا تبدو الدعوة، مثلاً، لاختيار محمود عباس أبو مازن لمنصب رئيس حكومة مستحدث في السلطة الوطنية الفلسطينية الرد المناسب على المكافأة التي قدمها الناخب الإسرائيلي مرتين حتى الآن لخط التشدد الذي مثله ارييل شارون. فكأن "المنطق" الذي يُفترض أن يكون معمولا به يقول بأن الرد الموازي لا يكون إلا بانتخاب مروان البرغوثي في سجنه رئيساً لحكومة فلسطينية. هذا إذا لم نقل الشيخ أحمد ياسين أو خالد مشعل. وذلك، طبعاً، على فرض إمكان حدوث مثل هذه الانتخابات في ظل العدوان المكثف المستمر على الضفة الغربية وقطاع غزة. والمجال لا يبدو مفتوحاً أمام موقف معتدل من خطاب الحرب في الخارج والوعد بالرفاه في الداخل الذي ضمّنه جورج دبليو بوش تقريره السنوي عن حال الاتحاد الأميركي. وقد تضمن الخطاب دعوتين بالغتي الدلالة، وذلك عندما خاطب بوش العراقيين قائلاً إن العدو هو الذي يحكمكم في الداخل وليس ذلك الذي يطوّق بلدكم من الخارج. ومثل هذه الصورة تحتمل القبول من بعض العرب ومن جل العراقيين. لكنها عندما ترتبط بالشعار الآخر الذي تضمنته عبارة بوش الوحيدة حول الصراع العربي - الإسرائيلي، والذي لخصه بفلسطين ديموقراطية وإسرائيل آمنة، فقد ينقلب الأمر وتظهر ازدواجية المعايير الأميركية مرة جديدة بأجلى صورها. فليس في خطاب الرئيس الأميركي ما يوضح ما اذا كان شعاره الجديد رسالة أم التزاماً، والفارق كبير. فإذا كان الأمر رسالة أخرى الى الجانب العربي، وهذا ما توحي به أجواء الخطاب وسياقات الأحداث على الأرض، فالمعنى أن أمن إسرائيل وديموقراطية فلسطين مرتبطان بالتصرف العربي، وان النقد الإسرائيلي مبرر لغياب الديموقراطية الفلسطينية ولفقدان الأمن الإسرائيلي، فيما على الفلسطينيين أن يروا عدوّهم في حاكمهم وليس في قاتلهم. أما إذا كان الأمر التزاماً أميركياً في تحقيق هذه المعادلة، وهذا ما لا تشير إليه الوقائع الجارية، فإن الأمر يتطلب خطوات تنفيذية مباشرة، أكثرها إلحاحاً وقف العدوان والانسحاب إلى نقاط 28/9/2000. وفي هذا المجال يكون بوش قد استجاب، ولو استجابة متأخرة، للمبادرات العربية، ابتداءً من مبادرة الأمير عبدالله ولي العهد السعودي التي تحولت إلى مبادرة عربية لقمة بيروت آذار/ مارس 2002، وانتهاء بالمبادرة المصرية التي جمعت، وللمرة الأولى منذ أوسلو، مجمل الفصائل الفلسطينية، التي أظهرت استعداداً كبيراً للافساح في المجال لقنوات الديبلوماسية أن تعمل، إذا ما توافرت شروط أقلها وقف الاغتيالات للناشطين الفلسطينيين ووقف الاعتداءات على المدنيين. إن الاعتدال العربي، الذي يبدو هذه المرة مبالغاً فيه بعض الشيء، قد يكون أتى متأخراً ولم يعد يستجلب الثمن السياسي الذي يستحقه. وفي المقابل، فان التشدد سيوفّر المزيد والمزيد من الفرص لاستمرار السياسة الشارونية إسرائيلياً ولاستمرار الشلل العربي والتجاهل الدولي. ومن الواضح أن لعبة الاعتدال والتطرف العربية قد تخرج القضية الفلسطينية عن مسارها لتتحول إلى مجرد قضية من قضايا الإرهاب الدولي. وهذا هو المقتل الذي أدى إليه بعض العمليات التي تخللت شهور الانتفاضة الثلاثين الماضية. فعلى امتدادها ظل توحيد الرؤية لمهام المرحلة بين الفصائل الفلسطينية الفاعلة هو الغائب الأكبر مع ما في ذلك من اضرار لا تقل عن همجية العدوان والسكوت الدولي عنه. وأمام الاعتدال العربي بعامة، والفلسطيني بخاصة، فرصة كبيرة لتوظيف تصاعد المواقف الشعبية عالمياً ضد الحرب، ولوضع الأمر في نصابه بما يكشف العدوانية الإسرائيلية ويسقط كل الذرائع التي تتلطى وراءها من كونها رداً على أعمال عنف فلسطينية. وإذا ما توافرت أجواء الاعتدال وسلوكياته فلا شك ستلوح الفرصة ضعيفة أمام شارون كي يستفيد من التطورات المرتقبة في المنطقة، حال وصول الوضع في العراق إلى حالة حرب تضع المنطقة كلها على حافة مخاطر غير محدودة العواقب. فبوش الذي يطالب العرب بالاعتدال وبتوسيع مساحات التعددية الديموقراطية يشكل بموقفه الساكت، وأغلب الأحيان الداعم للسياسة الشارونية، السد الأكبر أمام هذا التوسيع، جاعلا من كل اعتدال حالة غير مقبولة. مع ذلك نقول انهم بتشددهم يريدون أن يقتلوا اعتدالنا، وهو ليس فقط أبلغ معبّر عن واقعنا حضارةً وهويةً، بل هو أقوى أسلحتنا ضد تطرفهم وتشددهم.