لا يستطيع قارئ "الصراع المعلوماتي... السمة الأساسية لحروب المستقبل"، لمؤلفه العماد حسن توركماني رئيس الأركان السوري، منشورات "الأولى" - دمشق ألا يفكر، وهو يقلّب صفحات الكتاب، بالحرب الأميركية المحتملة على العراق قريباً، بما هي حرب بين الدولة التي تمتلك احدث ترسانة تكنولوجية عسكرية في العالم ودولة يراد لها ان تخوض تلك الحرب مجردة من كل سلاح متقدم متطور. يتجاوز الكاتب الحال الأميركية - العراقية ليتناول فكرة الحرب المعلوماتية في منظورها المستقبلي، اي في كونها سمة للحروب المقبلة اياً كان من يخوضها. ويحاول شرح الأسس النظرية والتفاصيل العملية لهذه الحرب في شكل عام. ولكن على رغم هذا التجاوز يخصص احد فصول الكتاب لشرح "كيف تنظر الولاياتالمتحدة الى دور الصراع المعلوماتي ومكانه في القرن الحادي والعشرين"، ما يؤكد للقارئ من دون ان يتبنى الكاتب ذلك صراحة، اولاً ان عدو الشعوب والدول في القرن الحادي والعشرين هو الولاياتالمتحدة المتفوقة في مجال المعلوماتية والساعية الى فرض سيطرتها على العالم، وثانياً ان مقياس تطور هذه الدول في تسلحها وصوغ وسائل المواجهة هو مقياس اميركي، اي ما بلغته الولاياتالمتحدة من تطور عسكري - تقني. بدأت الولاياتالمتحدة الأميركية بدراسة قضية تحضير حرب المعلومات في بداية التسعينات، وكان التعريف السائد هو "التأثير المركب في منظومة القيادة الحكومية والعسكرية للطرف المقاوم وفي قيادته السياسية والعسكرية"، وهو تعريف ناقص، كما يوضح العماد توركماني، لأنه يغفل "التأثير في السكان وأفراد القوات المسلحة المعادية". لكن تحديدات اشمل ستخرج لاحقاً من البنتاغون توضح المجالات التي ستغطيها حرب المعلومات. وفي وثيقة صادرة في كانون الأول ديسمبر 1992 عن وزارة الدفاع الأميركية تحدد مستويين لخوض هذه الحرب: المستوى الحكومي وهدفه إضعاف الدول المعادية والمنافسة في كل المجالات، والمستوى العسكري وهدفه تفوق معلوماتي على العدو والخصم وتأمين القوى الصديقة. لا شك في ان السبق او التفوق المعلوماتي المطلوب اميركياً يهدف الِى تحقيق حلم راود كل عسكري خاض حرباً في التاريخ، وكان عبّر عنه المفكر والمنظّر العسكري الصيني سون زي قبل 2500 سنة بالقول: "ان افضل الأفضل هو قهر الجيش المطلوب من دون قتال". واليوم في ضوء التطور التكنولوجي الهائل الذي شهدناه خلال العقدين المنصرمين، والذي فاق ما حققته الإنسانية في قرون سبقت، اصبح من الممكن التفكير بتحقيق هذا الحلم. لقد انتقل التفكير العسكري من نظرية الحرب من دون خسائر، التي تستخدم فيها اضخم القاذفات وأثقل انواع القنابل والصواريخ لتدمير قوى العدو قبل احتلال ارضه، انتقل الى التفكير بحرب لا تخاض فعلاً، وينهزم فيها العدو قبل بدء المعركة. كيف؟ ان الشكل الأساس للصراع في الحروب كان وعلى مر تاريخ البشرية هو الصراع المسلح لتحقيق الهيمنة السياسية والاقتصادية. وفي العالم المعاصر اعطيت الأولوية للصراع الاقتصادي والديبلوماسي ولأشكال اخرى غير مرتبطة باستخدام وسائل التدمير الفيزيائي والتخريب. وظهرت اشكال جديدة للتأثير في العلاقات بين الدول مثل الحصار الاقتصادي والحرب الإيديولوجية الإعلامية والحصار المعلوماتي... وانتشار تقنية المعلومات في كل مجالات الحياة الاجتماعية والعلاقات بين الدول جعل من الممكن تحضير أو تنفيذ حرب معلوماتية يكون النوع الأساس من الصراع فيها هو الصراع المعلوماتي وتعريفه: الاستخدام المنظم من جانب الطرفين المتحاربين لقوى خاصة ووسائط وطرق التأثير المعلوماتي وتنفيذ الحماية من التأثير المعادي من اجل كسب التفوق المعلوماتي وإلحاق الأضرار الاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها بالخصم. يقوم هذا الصراع على رافعتين اثنتين هما: التأثير المعلوماتي - الفني والتأثير المعلوماتي - النفسي. يستهدف الأول: الحال النفسية للأشخاص الذين يستخدمون الحواسيب، المعلومات، العناصر المكونات المهمة للبنية التحتية المعلوماتية، الأجهزة والوسائل الفنية المعلوماتية الضخمة. ويستهدف الثاني: كبار القادة في الدولة والجيش وقادة المنظمات والأحزاب والجمعيات والقطاعات الإنتاجية والعسكرية. كذلك يستهدف بعض شرائح المجتمع المحددة طبقاً لخصائصها الاجتماعية والقومية - العرقية والدينية وغيرها، وعناصر بعض التجمعات العسكرية، اضافة طبعاً الى استهداف سكان البلد عموماً وعناصر قواته المسلحة. ومورس التأثير المعلوماتي - الإعلامي - النفسي منذ زمن بعيد باستخدام وسائل صارت اليوم تقليدية مثل التلفزيون، الراديو، الصحف، وأشرطة التسجيل المسموع والفيديو والسينما. وأضيفت إليها في السنوات الأخيرة شبكة الإنترنت والبريد الإلكتروني الذي يستهدف اشخاصاً معينين كالقادة مثلاً، وكذلك وسائل تأثير اخرى متطورة ومعقدة جداً تقوم على مبادئ فيزيائية وتقنية بيوكيمياوية جديدة تأثير الصوت والألوان في مستخدم الحاسوب. اما التأثير المعلوماتي - الفني الذي يستهدف، البنية التحتية المعلوماتية ووسائط تأمينها، فيستخدم وسائل التأثير البرمجي - الرياضي، ووسائل التأثير البرمجي - الجهازي لاختراق وسائط الحماية ومعالجة المعلومات المتوافرة لدى الخصم لتشويهها وتدمير قواعد البيانات وتخريب بعض الوثائق وإعاقة أو شل عمل اجهزة الحواسيب جعلها تتوقف. هناك خمسة انواع من الأسلحة المعلوماتية لتنفيذ التأثير المعلوماتي - الفني، وهي اسلحة رياضية خوارزمية وبرمجية وجهازية وكيماوية بيولوجية خاصة، وأخيراً اسلحة ذات ظواهر شاذة. اما السلاح الأكثر استخداماً فهو السلاح البرمجي ويضم البرامج المصنعة في الغرب طبعاً التي تحدث عند تشغيلها آثاراً وعواقب خطيرة على الموارد المعلوماتية وكذلك على حال المستخدم. ويتمتع كل من هذه البرامج بالقدرة على اخفاء العلامات التي تدل الى وجوده والقدرة على نسخ نفسه والاقتران ببرامج اخرى وتخريب كود البرامج الموجودة في الذاكرة الحية، وتشويه او استبدال البيانات، وإبطال التبادل المعلوماتي... الخ. وتقسم هذه البرامج عادة الى انواع عدة: فيروسات الحواسيب، برامج القرصنة الدخول غير المشروع الى شبكات المعلومات، الحشوات البرامج المدسوسة، برامج التأثير النفسي. من البرامج المدسوسة على سبيل المثال برنامج يسمى "القنبلة المنطقية"، وهو برنامج ينفذ اعمالاً تخريبية عند تحقق عدد من الشروط المنطقية. وكمثال على استخدام القنابل المنطقية يمكن ذكر الأجهزة التي يتم ادخالها في شكل مسبق إلى مراكز التحكم والمعلوماتية للبنية التحتية العسكرية لكي تؤدي الى تشغيلها فور صدور اشارة ما او في وقت معين. ويورد العماد توركماني مثالاً صارخاً على ذلك. فعند بداية قصف حلف الناتو ليوغوسلافيا في آذار مارس 1999 كانت منظومة السطع اللاسلكي الفني وستنكهاوس التي تم شراؤها مبرمجة، بحيث ان احدى الكتل كانت لا تنفصل ابداً حتى لو تم اغلاق المحطة بالكامل. ونتيجة لذلك كان في إمكان طائرات الناتو اكتشاف معظم المحطات من هذا النوع، وذلك بموجب اشارة محددة من الخارج، ليتم تدميرها بعد ذلك. كما يعرض الكاتب بالتفصيل لوسائل برمجية متعددة لا مجال لذكرها كلها، منها برنامج التأثير النفسي ويتم انشاؤه باستخدام البرامج التطبيقية التي يتم فيها تطبيق اساليب التأثير النفسي في وعي الإنسان باستخدام مؤثرات ضوئية وصوتية وألوان خاصة، وكذلك باستخدام تأثير ما يسمى بالكادر الرقم 25 بهدف إحداث خلل في الحال النفسية للإنسان وفي القدرة على التحكم بها. ان مثل هذه البرامج يكون مخصصاً للتأثير في مستخدمي الحواسيب الشخصية والمشتركين في الشبكة المعلوماتية مهما كان نوعها، سواء كانت حكومية او عسكرية او شبكة مخصصة لمجموعة من الأشخاص. ويورد العماد توركماني شرحاً مهماً لنوع آخر من الأسلحة المعلوماتية وهو السلاح النفسي الفيزيائي، وآلية عمله تقوم على استخدام التقنيات المتطورة والمعقدة المتوافرة في الأجهزة الإلكترونية الحديثة، ومنها الحواسيب، للتأثير الخفي والإجباري في الحال النفسية والعقلية للإنسان بهدف تغيير وعيه وسلوكه، في الاتجاه الذي يحقق مصالح الطرف المؤثر. ولا يقتصر استخدام السلاح المعلوماتي - الفني على المجال العسكري بل يتعداه الى كل مجالات الحياة. وهو ما يقتضي من الدولة المستهدفة سياسة امنية حمائية خاصة يسهب الكتاب في شرحها، لكنه يشير ايضاً الى الصعوبة التي تواجهها الدول غير المتطورة جراء منع الدول المتفوقة تكنولوجياً الآخرين من الوصول الى التقنيات المعلوماتية الحديثة وعدم التعاون على اساس المساواة والمنفعة المتبادلة في التوزيع العالمي للعمل في صناعة خدمات المعلومات ووسائط المعلومات وتبادل المعلومات والاتصالات والمنتجات المعلوماتية، وكذلك ايجاد الظروف من اجل زيادة التبعية التقنية للبلد في مجال التقنيات المعلوماتية الحديثة وافتقار هذا البلد الى مقومات انشاء أو تشغيل أو تحقيق أمن المنظومات الحاسوبية والشبكات بسبب وضع القيود على طلبات البلد لشراء الاجهزة والبرامج وتأهيل الكوادر. ان خطورة السلاح المعلوماتي - الفني تتجاوز المجال العسكري لأن المطلوب، كما سبق الذكر، هو كسب الحرب من دون خوضها، وهزيمة البلد المعني في كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية والعلمية والروحية الخ... وذلك بتخريب او اعاقة العمل في كل من المجالات المذكورة وغيرها. يستهدف التأثير المعلوماتي - الفني اذاً البنية المادية للمعلومات. اما الرافعة الاخرى في حرب المعلومات التي لا تقل خطورة، فهي التأثير المعلوماتي - النفسي في العدو، وهو ما كان يعرف بحرب الاعلام والتضليل. وهذه الحرب التي مورست في ما مضى بالوسائل التقليدية المعروفة تمارس اليوم بأشكال اكثر تطوراً وبوسائل اكثر فاعلية لتحقيق الهدف المرجو منها: تضليل سكان البلد المعادي وجيشه وإغراقهم بسيل من المعلومات الكاذبة، ما يؤدي الى تشوش كامل للرؤية والمقدرة على التحكم بمجريات الامور لدى الجيش، والى انقسامات وبلبلة واحباط في صفوف الشعب. ويلخص العماد توركماني العملية المعلوماتية - النفسية بأنها مجموعة التدابير المترابطة في ما بينها والمنسقة من حيث المكان والزمان والطرق لنشر معلومات محضرة خصيصاً وفي شكل هادف لممارسة التأثير النفسي والنفسي - الفيزيائي في الحال العاطفية والنفسية وفي اعمال قيادة البلد المعادي، والتأشير إلى قراراتها لمصلحة الطرف المؤثر. وكذلك لتهيئة الظروف الملائمة من اجل اثارة الاضطرابات في صفوف الجماعات الدينية او العرقية او القومية في صفوف الشعب، ودفعها للانتفاض على الدولة. وقد تمت فعلاً دراسة الآثار النفسية ومدى فاعلياتها ونذكر منها: "ِأثر الخبر الاول" حول اي حدث والذي يؤثر عادة تأثيراً قوياً في الانسان اكثر من الاخبار الاخرى اللاحقة التي قد تكون تكذيباً له. و"أثر موثوقية المصدر" حيث تبث معلومات تضليلية من خلال عملية طويلة الامد تبدأ ببث معلومات صحيحة يمكن التأكد منها ومن ثم الانتقال بعد اثبات موثوقية المصدر، الى بث الاضاليل و"أثر التنبؤ" لأن سمعة أو هيبة المصدر ترتفع كثيراً اذا كان هذا المصدر يمتلك المقدرة العالية على التنبؤ. لذا يجب صوغ مضمون المعلومات حيث تظهر الحقائق الموجودة فيها كما تم التنبؤ بها، و"أثر التكرار" باستخدام آلية نفسية لتكرار المعلومات للفت انتباه الانسان رغماً عنه وإدراكه الى المعلومات المقدمة اليه. ان مسرح عمليات الحرب المعلوماتية يمتد من المكتب السري المخصص لاجتماعات القيادات السياسية والعسكرية الى الحاسوب المنزلي الخاص، مروراً بكل وسائل الاتصال والبث ذوات الاستعمال المدني او العسكري. والصراع هو صراع من اجل امتلاك المعلومات والحفاظ على سريتها ومن اجل بثها مغلوطة للطرف الآخر بعد العبث باجراءاته الامنية الحمائية. وهو صراع خفي دائم في زمن السلم وعلني صارخ في زمن الحرب. وفي السباق المحموم لامتلاك المعلومة وحرمان الآخر منها، وفي السياق الى تحقيق التفوق التقني الكامل على قطاع الاتصال والتحكم المعلوماتي الذي صار جزءاً بنيوياً مهماً من جميع انظمة الاسلحة. في هذا السباق اعلن الاميركيون عن اختراع جديد من شأنه ان يحسم السباق والى الأبد!؟ وذلك بتعطيل جميع اجهزة العدو الالكترونية والكهربائية بواسطة القنبلة الكهرطيسية. وهي قنبلة تطلق لدى تفجيرها موجات نبضية كهرطيسية تحدث حقلاً كهرطيسياً عالي الشدة مشابهاً لما يحدث عند التفجيرات النووية التجريبية. ومن شأن هذا الحقل إحداث جهد عابر قصير الاجل يبلغ آلاف الفولتات على نواقل كهربائية مكشوفة، ما يسبب اضراراً غير قابلة للاصلاح لعدد كبير من التجهيزات الالكترونية لا سيما العسكرية، خصوصاً الحواسيب وأجهزة اللاسلكي والرادارات وأنظمة توجيه الصواريخ الخ. ان الحماية من هذا السلاح الجهنمي ممكنة كما يوضح العماد توركماني. ولكن وسائل الحماية ما زالت نظرية لم تطبق لأن السلاح الكهرطيسي نفسه لم يستخدم... ولعل للإصرار الاميركي على ضرب العراق الآن اسباباً تكنولوجية تتمثل في تجريب اسلحة جديدة مثل القنبلة الكهرطيسية، إضافة طبعاً الى الاسباب السياسية والاقتصادية للحرب. الكاتب لا يتعرض لهذه الفرضية بل يكتفي بالاشارة الى ان خطر حرب المعلومات على العرب جاثم منذ الآن وهو مرشح للتفاقم في المستقبل. وهو يخصص جزءاً من الفصل المتعلق بالولاياتالمتحدة الاميركية وخططها المستقبلية لحرب المعلومات، للحديث عما تمتلكه اسرائىل من اجل خوض الحروب المعلوماتية ويخلص الى النتائج الآتية: تقوم اسرائىل وفي شكل مكثف باعتماد احدث تقنيات المعلومات في جميع مجالات الحياة بما في ذلك المجال العسكري. وخلاصة القول ان العرب خسروا معركة التفوق العسكري التقليدي ثم التفوق النووي وغيره من اسلحة الدمار الشامل. واليوم... يبدو انهم خسروا معركة حرب المعلومات منذ بدايتها. لا يخلص العماد توركماني الى هذه النتيجة، انما يؤكد ان اسرائىل تمتلك الامكان لتعزيز تفوقها السياسي والاقتصادي والعسكري على الدول العربية، بإضافة تفوقها في المعلوماتية. ويخلص الى ان احدى طرق مقاومة الخطر المعلوماتي الاسرائىلي والاميركي هي تشكيل مجال معلوماتي موحد لجميع او معظم الدول العربية، إضافة الى تشكيل منظومة معلوماتية حكومية في كل دولة. * كاتب لبناني.