من الأعمال المحلية القليلة التي تثير الانتباه على شاشاتنا الصغيرة مسلسل "صدفة" الذي كتبه أنطوان غندور وأخرجه شربل كامل وتعرضه شاشة تلفزيون الجديد. ويتناول المسلسل مراحل من حياة مشاهير العالم العربي من أهل الفكر والفن والأدب أمثال إلياس أبو شبكة، عمر أبو ريشة، نزار قباني وغيرهم الكثير انطلاقاً من صدفة تترك أثرها في الشخصية المتناولة في كل مرة. وعرضت أخيراً حلقة تناولت الأديبة مي زيادة وشكلت مناسبة لعودة الممثلة آمال عفيش مجسدة لشخصية مي بعد غربة دامت سنوات طويلة. واطلالة آمال عفيش في "صقيع المشاعر: مي زيادة" كأول إطلالة لها بعد انقطاع عن الشاشة جاء محبباً إذ جسدت شخصية هذه الأديبة اللبنانية في فترة من أصعب فترات حياتها بكل خيباتها ووجعها، بكل شوقها وأحلامها، وبالتحديد إثر عودتها من القاهرة الى بيروت حيث كانت الوحدة تتآكلها على رغم ذيوع صيتها ونيلها أمجاداً وشهرة لم يسبق أن نالتها إمرأة من قبل في مصر كما جاء على لسان صديقها أحمد لطفي السيد. إلا أن بيروت لم تكن لتبدد شيئاً من ظلمات نفسها لا بل على العكس تدهورت صحتها وتناقلت الصحف أخبار تصرفاتها الغريبة وإصابتها بمرض عصبي. في "العصفورية" وإضافة الى تهمة الجنون التي لحقت "شاعرة الوطن والحب"، عاودتها أزمة النفس وتسببت في إدخالها الى "مصح العصفورية"، بعد ما عانته من وساوس عائلية مع الأقارب، قيل في ما بعد أنها كانت صحيحة الى حد بعيد. وأحدث دخولها "المصح" ضجة في الأوساط الأدبية، فزارها أمين الريحاني وأقنعها بالانتقال الى بلدته الفريكة حيث عاشت فترة من الهدوء والاستجمام اختتمتها بالرحيل الى القاهرة. إلا أن المرض والوساوس عاودتها من جديد الى أن ارتمت على سريرها وهي في الخامسة والخمسين من عمرها من دون أن تقوى على الحراك، فأسلمت الروح من غير أن يعرف بها أحد. ويصور المسلسل مي في لبنان تمضي العطلة الصيفية في فندق القاصوف في ضهور الشوير بعد أن عرّجت على قريتها شحتول الواقعة في أعلى غزير ولقيت هناك ترحيباً من أهلها الذين أقاموا حفلة رقص ودبكة خصيصاً لمناسبة عودة "فيلسوفة ضيعتهم" كما يطلقون عليها الى رحاب الوطن، هم أنفسهم الذين راحوا يتناقلون عنها الأخبار في ما بعد ويشيرون الى إصابتها بسوء ما، ويعبر غندور عن الانقلاب المفاجئ في موقف الأهالي على لسان إحدى قريباتها: "بدلاً من تبذير أموالها كيفما كان على المطاعم والسيارات والأوتيلات، فلتفكر أن لأقربائها حقاً في ثرائها". ومن يعرف حياة مي يدرك دور كبار المفكرين العرب في حياتها هي التي حولت منزلها في القاهرة الى صالون أدبي يلتقي فيه هؤلاء بانتظام ويتباحثون في شؤون الأدب على اختلافها، فكتب طه حسين في ذلك قائلاً: "كان صالون مي ديموقراطياً، أو قلْ انه كان مفتوحاً لا يرد عنه الذين لم يبلغوا المقام الممتاز في الحياة المصرية، وأنا أذكر انني انما اتصلت بصالون مي بعد أن نوقشت رسالتي في أبي العلاء. وشهدت مي هذه المناقشة، وشهدت في ما يظهر بعض الحفلات التي أقامها لي الزملاء حينئذ. وطلبت الى استاذها واستاذي لطفي السيد أن يظهرني في صالونها. وكذلك عرفتها في هذا الصالون، وترددت عليها أيام الثلثاء الى أن سافرت الى أوروبا". وبالتالي كان لا بد في المسلسل من سماع أسماء لامعة في عالم الثقافة والفكر بعد أن طبع هذا النشاط الثقافي المميز مي بطابع الفرادة. فها هي تذكر في سياق حديثها عن الوحدة والحرمان من الحب والاهتمام أصدقاءها الذين لم تسمع صوتهم منذ فترة أمثال عباس محمود العقاد وأحمد لطفي السيد وفرح أنطون وداوود بركات وأنطون جميل وإسماعيل صبري وأمين الريحاني وغيرهم الكثير ممن تركوا أثراً في حياتها. وفي بيروت تتعجب من عدم سؤال أحدهم عنها على رغم ان الصحف والمجلات تناقلت بقوة خبر عودتها الى الوطن. وحده أحمد لطفي السيد قصدها الى قريتها للاطمئنان إليها من دون أن يراها كونها كانت قد انتقلت الى ضهور الشوير علماً أنها تركت له عنوانها مدركة انه سيأتي حتماً ويسأل عنها. غير أن الأيام مرت ولم تسمع خبراً منه ما أثار تعجبها الى أن كان اللقاء في بيروت أثناء محاضرة لداوود بركات في الجامعة الأميركية جمعتها من جديد بعالمها الفكري والثقافي. وكان لقاؤها بالكثير أمثال عباس محمود العقاد، أمين الريحاني وأحد لطفي السيد الذي بادرت الى معاتبته فشرح لها على الفور ما حدث معه وأن المسافة هي التي منعته من زيارتها في ضهور الشوير وإذ بها تقاطعه قائلة: "متى كانت المسافات تمنع اجتماعنا". علاقة مشوشة وعلى هذا تبدو العلاقة التي تجمع مي زيادة ولطفي السيد في البداية مشوشة. فهل يجمعهما الحب ما يبرر شوقه لرؤيتها ولهفتها لسماع صوته؟ وإذا كان كذلك فما سبب رفضها الزواج منه؟ وها هي مي تحدد العلاقة بينهما بأنها: "علاقة تتفجر بألف سؤال وسؤال، وشظية تطرح ألف علامة استفهام". ثم لا تلبث أن تتضح الصورة أكثر إذ بعد حين يقصدان معاً الأماكن التي تركت أثراً في نفسها. وهل يوجد أفضل من لطفي ليشاركها ذلك؟ معاً في شحتول يتمتعان بجمال الطبيعة ومناظرها الخلابة ما يضطر لطفي لتلاوة صلاة شكر لرب الجمال. وها هي مي تكشف له أنها حملت معها من ضيعتها الأفق والضباب ومشهد الجراد الذي ينقر وجه الشمس لتبقى الذكريات خالدة في جرح الحكاية. ومن القرية ينتقلان الى مدرسة عينطورة، مدرسة مي حيث تميزت حياتها بالانزواء والانطواء على النفس، إذ لم تكن تشارك جيلها في تساليه واهتماماته مكتفية بممارسة هوايتها المفضلة: العزف على البيانو. وسرعان ما نصل معهما في جولتهما الى المكان الذي ترك الأثر الأكبر في قلبها: منزل جبران خليل جبران في بشري. وأمام صورته تدمع عيناها وتستعيد بعضاً من كلماته: "أنت تحيين فيّ وأنا أحيا فيك، أنت تعلمين ذلك وأنا أعلم ذلك". ثم لا تلبث أن تردد: "في هذه اللحظة بالذات رأيت وحدتي السابقة ووحدتي الآتية". وهنا تنقشع الغيوم التي لفّت علاقتها بالرجال وبلطفي تحديداً وبالتالي يتبين رفضها الاقتران به كغيره من الذين طلبوا يدها للزواج من أهل الفكر والمعرفة. ويرد غندور السبب الى حبها لذلك الرجل المجهول الذي ما هو إلا جبران. والغريب في الأمر هو أنهما لم يريا بعضهما إطلاقاً ولم يلتقيا يوماً، مكتفيين بتبادل الرسائل طوال عشرين عاماً، في علاقة اتسمت بالتعاطف الودي والروحي، وحب "أسمى وأكبر من الجسد" وإذ بها تقول: "كان حباً صافياً مثل الماء المقطرة، إذ تفتح قلبي له مثل زهرة الفجر وكنا دائماً على موعد لكن الموت منعنا من اللقاء، والنجوم التي حلمنا أن نصل إليها معاً، ماتت على شاطئ بعيد، أما الفكر فلا يموت". وبهذا نراها مقتنعة بأن حب رجال الفكر والأدب كان حباً مظهرياً فقط. وتتابع: "جمالي مظهري، مكانتي هي التي جذبتهم إليّ، إلا أنها أمور زائلة. فما كنت أبحث عنه طوال حياتي هو حب الروح، وهذا الحب يمكن أن أكون وجدته في جبران خليل جبران. أما لطفي السيد فمجرد إنسان طيب ترمل ولم يتزوج بعدها وفاء لحبه. هو يعترف أنه يحبني وأنا بدوري أعزه كثيراً ويا للفارق الكبير بين المعزّة والحب". وهكذا بعد زيارتها لقريتها ومدرستها وبيت جبران يصوّرها غندور سجينة في منفى، منفى الذكريات القديمة التي باتت من الماضي في ظل حاضر قاتم. وتعود الصدفة لتجمع من جديد مي زيادة بعباس محمود العقاد بعد أن خذلته تلميذته سارة التي كان يرى فيها مشروع أديبة كبيرة بعدما أغراها المخرج محمد كريم في دخول السينما، ولطفي السيد ذلك العاشق الكبير وأمين الريحاني "فيلسوف الفريكة" الذي جاء ليطمئن الى صحتها بعد ما سمعه من أخبار حول تأزم وضعها. وما كان من مي زيادة إلا أن أثبتت له أنها في كامل صحتها وأن "نهر عمرها لم ينته بعد إلا أنه في حال مناورة مستمرة وأمنيته الرجوع غديراً صغيراً". هذه الصدفة التي دفعتهم الى الاحتفال وعزف مي على البيانو ما اضطر أمين الريحاني الى القول: "صالونك الأدبي توقف في مصر ليعود ويستعيد مجده في لبنان". "صدفة" انتاج محلي يسرد حقبة من تاريخ كبار غابوا، بأسلوب مشوق بسيط، محاكياً الفكر والروح على طريقة القصة الشعبية.