النتائج التي تمخضت عن الحوار الفلسطيني - الفلسطيني في القاهرة بين 24 كانون الثاني يناير الماضي و26 منه كانت متوقعة ومتواضعة، اذ برزت الاستعصاءات حول العديد من المواضيع الجوهرية الأبعد من موضوع "الهدنة الموقتة مع الاحتلال" كما طرحتها الورقة التي قدمتها القاهرة الراعية للحوار. والقضايا الأساسية والجوهرية للتباينات يتلخص فحواها في عدد من العناوين الرئيسية: الخلاف حول تشكيل قيادة وطنية موحدة تحت إدارة منظمة التحرير الفلسطينية الواحدة الموحدة وبرنامجها الائتلافي. ففي حين لا تزال السلطة الفلسطينية والجناح القيادي الضيق في حركة "فتح" بعيداً عن مطلب غالبية القوى الفلسطينية بتشكيل قيادة ائتلافية، يتكرر المنحى ذاته لدى الاتجاه الإسلامي وتحديداً عند حركة "حماس" التي ترى البرنامج الائتلافي مختصراً تحت عنوان "تقاسم السلطات مع حركة فتح" و"لي ذراع" البرنامج المشترك لصالح النزول عند الرؤية السياسية لها. إمكان دخول قوى التيار الإسلامي إلى عضوية منظمة التحرير. ففي حين تعطي حركة حماس موقفاً ملتبساً في شأن المنظمة، إلا أنها أطلقت إيماءات إيجابية استتبعتها بشروط غير مقبولة من نمط "إعادة تركيب المنظمة" وتقاسم كعكة منظمة التحرير ومؤسساتها وأطرها مع حركة فتح بنسبة 40 في المئة لكل منهما، وترك ال20 في المئة المتبقية للمستقلين وبقية القوى، فضلاً عن إعادة السجال الداخلي حول المواضيع السياسية التي أشبعت نقاشاً وتم حسمها خلال 30 عاماً من عمر المنظمة والتجربة الفلسطينية المعاصرة. إصرار التيار الإسلامي الفلسطيني على رفض البرنامج الائتلافي المستند إلى قرارات الشرعية الدولية، وما تمثله من عوامل قوة لا يستهان بها في اليد الفلسطينية والعربية. إلا أنه يمكن القول ان خطوة اجتماعات القاهرة مثلت دفعة نحو الأمام على صعيد إعادة بناء الوضع الفلسطيني وفي اتجاه إقرار البرنامج الوطني الائتلافي المشترك. وتذكرنا هذه الخطوة، مع فارق الظروف والمعطيات، بالخطوة المصرية التي تمت في شباط فبراير 1968 عندما دعت القيادة المصرية مجموع القوى الفلسطينية الناشئة آنذاك بكل تلاوينها السياسية والفكرية والأيديولوجية إلى الإلتئام في مؤتمر تنسيقي عقد في القاهرة. وعلى خلفية الاجتماع المذكور انضمت غالبية القوى الفلسطينية إلى عضوية منظمة التحرير، وما لبث الرئيس السابق لمنظمة التحرير أحمد الشقيري أن قدم استقالته طواعية ليحل مكانه ولفترة انتقالية مدتها ثلاثة أشهر المرحوم يحيى حمودة، وتسلم بعده ياسر عرفات المسؤولية، وأصبحت فصائل المقاومة الفدائية الناهضة منذذاك هي القائد العملي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وأصبح اللقاء بين التيارات السياسية والفكرية الفلسطينية قائماً على برامج القواسم المشتركة، على رغم أن هذا القاسم لم يشكل ضابطاً والتزاماً متبادلاً دقيقاً وثابتاً ومتواصلاً بين قوى الائتلاف التي يجمعها. وفي اللحظة الراهنة، وعلى رغم كل التمزقات التي تفاقمت في الخريطة الفلسطينية منذ أكثر من عقد، لا يزال التداخل قائماً بين السلطة والمعارضة في إطار مؤسسات الحركة الوطنية الفلسطينية، ومؤسسات منظمة التحرير الائتلافية. فالمجلس الوطني والمجلس المركزي لا يزالان يضمان كل فصائل منظمة التحرير، مع أن تغييب المنظمة عن موقعها ودورها الحقيقي في رسم القرار والمصير الفلسطيني ما زال قائماً أيضاً. ولا شك في أن الخطوة المصرية الأخيرة مدروسة ومحسوبة، فالقاهرة من موقعها الإقليمي تعتبر من أكثر العواصم العربية تحسساً لماهية المرحلة الراهنة والصعوبات التي تحملها مع التقيح المتواصل في الملف العراقي، والتطورات داخل الدولة العبرية مع استفحال الاتجاهات اليمينية الدموية والتراجع المتواصل في دور الشرعية الدولية وقوى السلام الإسرائيلية. والخطوة المصرية تعبر في الوقت نفسه عن التداخل الهائل بين الخريطة الفلسطينية والخريطة العربية، وما يفرضه هذا التداخل من أوجه إيجابية عندما تستقيم المعادلة على طرفيها بين الوطني والقومي، ومن أوجهه السلبية الناتجة من اختلال المعادلة المذكورة وبفعل الحال البنيوية المأزومة تاريخياً داخل الساحة الفلسطينية، حيث اليد الطولى لكل عاصمة عربية في الخريطة الفلسطينية، منذ عشرينات القرن الماضي وحتى الآن. ومع التجربة التي يفترض أنها صقلت حال الوعي الفلسطيني، من الإيجابي أن تعقد حوارات داخلية بين مختلف مكونات الخريطة السياسية الفلسطينية. والأكثر إيجابية أن يكون الحوار وطنياً شاملاً حتى تتمكن القوى الفلسطينية من مغادرة مواقع الحوارات التكتيكية الإعلامية في ما بينها، وهي الحوارات التي طالما تعودنا عليها في فترات سابقة، لمصلحة حوارات حقيقية منتجة يتم عبرها تحقيق نقلة نوعية في الوضع الفلسطيني، والوصول إلى نتائج ملموسة تقوم على إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية الموحدة، وبالتالي إعادة الاعتبار للوحدة الوطنية، ولوحدة الشعب الفلسطيني بين الداخل والشتات. وعلى هذا الأساس فالبدايات التي تمت حتى الآن في القاهرة إيجابية مع مشاركة الطيف الأوسع من التلاوين السياسية والفكرية في الساحة الفلسطينية باتجاهاته الأربعة المعروفة: الاتجاه الوطني العام بقيادة حركة فتح، والاتجاه الوطني الديموقراطي اليساري بقيادة الجبهتين الديموقراطية والشعبية لتحرير فلسطين فضلاً عن جبهة النضال الشعبي الفلسطيني وحزب فدا وحزب الشعب الفلسطيني، والاتجاه الوطني الإسلامي بقيادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، والاتجاه الوطني القومي وتمثله كل من: الجبهة الشعبية -القيادة العامة وطلائع حرب التحرير الشعبية وجبهة التحرير العربية وجبهة التحرير الفلسطينية والجبهة العربية الفلسطينية. وكل القوى المذكورة منضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية ما عدا قوى التيار الإسلامي، فيما اعتذرت جبهة التحرير العربية عن عدم المشاركة في الحوار. ولا شك في أن الجهود المصرية التي تسارعت في الشهور الأخيرة بغرض ترتيب حوارات داخلية فلسطينية كانت لافتة للانتباه، وهي تنطلق من موقع المصلحة المصرية أيضاً، خصوصاً أن التباشير السياسية للعام الجديد تحمل المزيد من التوقعات الساخنة لعام سيكون على الأرجح مليئاً بالضجيج ليس السياسي فقط، بل والدموي الذي ستصل تأثيراته إلى تخوم الجميع. وعليه فان الخطوات المصرية الأخيرة تصب في سياق العمل لإيجاد مناخ فلسطيني داخلي يؤدي إلى توحيد الخطاب والموقف الفلسطيني، وتقديم رؤية موحدة فلسطينية إلى العالم والمجتمع الدولي بعدما وصلت تسوية أوسلو إلى النفق المغلق، وبعدما استفحلت تيارات التطرف داخل الدولة العبرية حضوراً وبرنامجاً. ووفقاً لمصدر فلسطيني مشارك، فان الخطوات المصرية عملت أولاً وقبل التئام اللقاء الحواري الموسع على استكشاف القواسم المشتركة بين الفصائل الفلسطينية الأساسية فتح، الجبهة الديموقراطية، الجبهة الشعبية، حماس، حركة الجهاد الإسلامي ذات الدور والحضور، وهي القوى التي تمارس كل أشكال العمل الوطني في صفوف الانتفاضة بما في ذلك العمل المقاوم عبر أجنحتها العسكرية. وبالتالي فان الحوارات الراهنة تستهدف بالضرورة البحث في إمكان بناء برنامج سياسي مشترك بين الفصائل، وكذلك قيادة وطنية موحدة. فالأساس هو التوصل إلى برنامج سياسي موحد وقيادة وطنية موحدة تتشكل من كل قوى الانتفاضة. وعندما يتم التوصل إلى هذا البرنامج يتم طرحه على جدول الأعمال الذي سيتضمن قضايا الانتفاضة وأشكال تطويرها وسبل تجاوز السلبيات التي وقعت خلال مسيرتها الماضية. ولكن هل من متسع للتفاؤل بإمكان تحقيق التوافق الفلسطيني الداخلي في الأمد المنظور؟ سؤال مشروع تزكي الإجابة عليه وجود قواسم مشتركة بالفعل، وكل هذا لا يمكن توافره من دون الإرادة الإيجابية لدى كل الفصائل، بما في ذلك استعداد البعض لوقف معزوفة التغريد خارج سرب الائتلاف الوطني، والانصياع لبرنامج موحد يضمن رسم الاستراتيجية الفلسطينية، والخطوات السياسية العملية، وكف الأيدي الفردية التي ترسم المسار الوطني من دون عودة الى هيئات التوافق الوطني. وفيما يتحدث البعض عن لا جدوى الحوار في ظل استمرار الوضع الراهن وسياسة الاغتيالات الإسرائيلية، فان الحوار ضروري في كل الحالات، لأن الفلسطينيين مقدمون على عام جديد يحمل المزيد من الصعاب والتحديات، وللمرة الأولى سيواجه الفلسطينيون والعرب أسوأ تشكيل للكنيست في تاريخ الدولة العبرية. ومن هنا أهمية الارتقاء بالعلاقات الفلسطينية الداخلية وتجاوز الانقسامات وبلورة قيادة سياسية موحدة يمكنها الصمود أمام السياسات الإسرائيلية. * كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.