مع عقد القمة العربية الشهر المقبل إذا عقدت تمضي سنتان على اعتماد الدورية السنوية لهذه القمة، وكان الأمر سابقاً متروكاً للأزمات. نتابع في ما يلي تحقيقاً عن ثلاث قمم عربية أجلت المعركة مع إسرائيل وانصرفت الى حل المشكلات العربية - العربية. نشرنا أمس وصفاً للاجتماعات العربية التي تستجيب لأزمات محددة ما قبل العام 1964، حينما عقد في القاهرة في مطلع ذلك العام أول اجتماع يستحق أن يسمى قمة عربية. مفاجأة القمة كانت ظهور احمد الشقيري جالساً بين الملوك والرؤساء وراء لافتة كتب عليها "مندوب فلسطين في الجامعة العربية"، ووراء هذا الظهور قصة لافتة: في الأسبوع الأول من شهر ايلول سبتمبر 1963 تلقى الشقيري الذي كان يتخذ من مصيف كيفون في لبنان برقية من امين عام الجامعة العربية تطلب منه السفر فوراً الى القاهرة، بينما نقل إليه عبدالحميد غالب سفير الجمهورية العربية المتحدة في بيروت رسالة شفوية من عبدالناصر تطلب منه ترشيح نفسه لمنصب ممثل فلسطين لدى الجامعة العربية بعد وفاة احمد باشا رئيس حكومة عموم فلسطين واعداً إياه بكل دعم وتأييد. وعُقد مجلس الجامعة العربية في 19 ايلول من العام نفسه لبحث موضوع تمثيل فلسطين في الجامعة العربية، فأيد ترشيح الشقيري بمعارضة وفدي السعودية والأردن اللذين طلبا ايضاً اثبات معارضتهما في المحضر. اول ظهور للشقيري في قمة عربية ظهور الشقيري في الجلسات بين الملوك والرؤساء أثار بلبلة وكاد يثير ازمة فشخص الشقيري كان مرفوضاً من السعودية التي تعتبر ان الحاج امين الحسيني هو الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، بينما كانت الحكومة السورية تواجهه ب"الفيتو" معتبرة اياه صنيعة ناصرية. اما الملك حسين فقدم اعتراضاً شديداً على وجوده في الجلسات مهدداً بالانسحاب منها. فنصح عبدالناصر الشقيري باسترضاء الملك حسين، فزاره في جناحه ليلاً مؤكداً ان الكيان الفلسطيني الذي يسعى لإقامته لا يعني إطلاقاً فصل الضفة الغربية عن الأردن. ولان الملك حسين، وتمكن الشقيري من الاستمرار في الجلوس بين الملوك والرؤساء، ونشط في اتصالاته الشخصية معهم فردياً حتى توصل الى جعل الموضوع الفلسطيني البند الأول في المؤتمر، لكنه لم يستطع الحصول من المؤتمر إلا على قرار ضعيف وملتبس بعد إصرار الملك حسين على عدم تضمين القرار أي ذكر للكيان الفلسطيني. ونص القرار على التالي: "قرر المؤتمر ان يستمر السيد احمد الشقيري ممثل فلسطين لدى الجامعة العربية في اتصالاته بالدول الأعضاء والشعب الفلسطيني بنية الوصول الى إقامة القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني وتمكينه من القيام بدوره في تحرير وطنه وتقرير مصيره". وأصر الملك حسين ايضاً على ان تسبق عبارة "تحرير وطنه" عبارة "تقرير مصيره". الحافظ يطلب السلاح لتحرير فلسطين انصرف المجتمعون بعد ذلك الى بحث الموضوع الرئيس في جدول الأعمال: منع اسرائيل من استغلال مياه نهر الأردن، واستثمارها في مشاريع عربية... فبادر الخبير المصري المهندس احمد محمد سليم الى تعليق خرائطه على جدار القاعة وشرح جغرافية المشروع الإسرائيلي والنقاط الرئيسة لمشروع عربي يحرم اسرائيل من مقدار كبير من مياه النهر. واقترح تنفيذ المشروع على مرحلتين: الأولى تقتصر على تحويل مجرى النهر وتتكلف ستة ملايين جنيه استرليني، والثانية تتضمن مشروعات للتخزين وإقامة السدود وبناء الأحواض ومحطات الكهرباء ويستغرق تنفيذها بين 8 الى 12 عاماً وبتكلفة قدّرها المهندس سليم ب70 مليون جنيه استرليني بأسعار تلك الأيام، ولاحقاً سُمّيَ هذا المشروع بالمشروع العربي. لكن شرحات الخبير المصري أثارت ازمة في المؤتمر وكادت تفجره. احمد الشقيري باسم فلسطين عارض المشروع مؤكداً انه سيحصر قضية فلسطين في موضوع روافد الأردن ويحيل امر تحريرها الى زاوية النسيان. وأضاف انه على ثقة بأن اسرائيل تستطيع ايقاف عملية التحويل بقنبلة واحدة. اما اللواء امين الحافظ فقد انفجر بكلام قاس يؤكد فيه ان تحويل الروافد لا يحل المشكلة، وأنه لا يمكن الوقوف في وجه اسرائيل إلا بعمل عسكري عربي مشترك ضدها، وكرر اقتراحه بأنه يمكن للمؤتمر ان يمدد جلساته ثلاثة ايام يجري خلالها إعداد خطة لإمداد الجيوش العربية بأعداد كبيرة من الطائرات المقاتلة والدبابات وسائر العديد تجعلها قادرة على منع اسرائيل من تحويل الأردن وبالتالي تحرير فلسطين. ووجم الملوك والرؤساء إثر سماعهم هذا الاقتراح بينما دخل معه عبدالناصر في جدال قاس لظنه ان هذا الكلام هو نوع من المزايدة عليه. عبدالناصر: لسنا قادرين على حرب اسرائيل لكن هذا الحديث فتح البحث في القدرات العسكرية للجيوش العربية كلها، وشهدت قاعة المؤتمر صورة تاريخية معبرة للواقع العربي، عندما شهد جميع الحضور ملوكاً ورؤساء بعدم قدرة جيوش دولهم على الدخول في قتال مع اسرائيل. وظهرت علامات الدهشة على جميع الحضور عندما شارك عبدالناصر ايضاً في الإعلان ان الجيش المصري غير مستعد لقتال اسرائيل في الوقت الحاضر. ولم يخرج اللواء الحافظ عن هذه الأوركسترا، إنما اعتبر هذا العجز العربي حجة له لتسليح الجيوش العربية والمبادرة الى فتح معركة شاملة مع اسرائيل. ولوحظ ان عبدالناصر ابدى برودة اعصاب غير اعتيادية في نقاشه مع الحافظ - كان واضحاً انه ما زال ماضياً في خطته لاستيعاب المؤتمر الوضع العربي كله - وضمن هذا الهدف طرحت خطة مبتكرة لتنفيس هذا الاحتقان، فبادر الفريق علي علي عامر الى طرح موضوع القيادة العربية المشتركة، مقترحاً خطة طويلة المدى لتسليح الجيوش العربية تستمر لمدة عشر سنوات. ... موضوع هذه القيادة كان بالفعل ضمن جدول اعمال المؤتمر، إذ سبق واتخذ به قرار مبدئي في مجلس الدفاع العربي. وتخلل هذه النقاشات الكثير من المناورات والإيحاءات من مثل الإعلان عن رسالة تلقاها عبدالناصر من الرئيس الأميركي جونسون يطلب فيها الموافقة على مشروع جونستون، ومن مثل التحذيرات الموحى بها من امكان تدخل عسكري غربي او بواسطة مجلس الأمن الى جانب اسرائيل في حال المبادرة الى عمل عسكري عربي ضدها. عشر سنوات من الاستعداد لمحاربة اسرائيل طالت ابحاث المؤتمر حتى 17 من الشهر نفسه وانتهت بسلسلة قرارات اعتبرت مرضية للرأي العالم العربي ايامها خصوصاً انها احيطت بحملة إعلامية كبيرة تولاها الإعلام المصري بشكل اساس، كما نجحت هذه القرارات في تنفيس موقت للاحتقان والحدة التي سادت مناقشات الملوك والرؤساء. وبشكل عام احدث هذا المؤتمر حالاً من ارتخاء وانحسار في معظم خلافات الدول العربية ببعضها فيما عدا خلاف القاهرة مع كل من دمشق والرياض الذي بقي محتدماً. اهم تلك المقررات كانت التالية: 1- الموافقة على المشروع العربي لاستثمار روافد الأردن وإنشاء هيئة عربية لتنفيذ المشروع برئاسة المهندس صبحي كحالة وتخصيص ستة ملايين وربع مليون جنيه استرليني لتمويل المرحلة الأولى المتعلقة بالتحويل. 2- إنشاء قيادة عسكرية عربية موحدة برئاسة الفريق علي علي عامر وتخصيص 176 مليون جنيه لتعزيز التسلح يقسط معظمها على عشر سنوات وتخصص لدول الطوق، وبرر تأجيل المعركة عشر سنوات بالنص على التالي: "إن الاستعداد العسكري العربي الجماعي بعد استكماله، هو الوسيلة الأخيرة العملية للقضاء على إسرائيل نهائياً، وإن قيام اسرائيل هو الخطر الأساس الذي اجتمعت الأمة العربية بأسرها على دفعه". واضح ان هذا التبرير القصد منه الرد او إرضاء المنادين بالفتح الفوري للمعركة من ناحية ومن ناحية اخرى ارضاء الرأي العام العربي الذي كان في تلك المرحلة يغلي حماساً ويدفع باتجاه العمل العسكري ضد اسرائيل. 3- مبدئية هذه القرارات على ان يصار الى درسها بالتفصيل والإقرار النهائي لها في قمة عربية ثانية تعقد في الخامس من ايلول عام 1964 اي في العام نفسه. سهرة مع شارل حلو في الباخرة عند حلول موعد قمة الاسكندرية كان شارل حلو الذي انتخب رئيساً للجمهورية اللبنانية في 17 آب اغسطس من العام 1964 ما زال رئيساً منتخباً لأن التقليد الدستوري في لبنان يفرض تسلمه منصبه عند نهاية المهلة الدستورية لسلفه في 23 ايلول، لكن الرئيس فؤاد شهاب بادر الى حل هذا الإشكال بتكليف الرئيس حلو برئاسة الوفد اللبناني حرصاً منه على ان يكون رئيس الجمهورية الجديد في الصورة لمقررات سيكون مسؤولاً عنها خلال عهده. الى الآن لا أدري من اين اتت للرئيس حلو فكرة السفر بحراً الى الاسكندرية وجاراه الرأي الحاج حسين العويني رئيس الحكومة يومذاك. وعندما أفادتني معلومات صحافية ان الوفد اللبناني الى المؤتمر حجز للسفر على الباخرة الإيطالية الفخمة "اسبيريا" التي كانت في تلك الأيام وزميلتها الباخرة "ازونيا" تقومان برحلات دورية بين بيروتوالاسكندرية. حجزت لي المؤسسة الصحافية التي اعمل فيها مكاناً في الموعد نفسه على تلك الباخرة. ظُهر الثالث من ايلول وصلتُ الى الباخرة وبعد قليل وصل الرئيس حلو وسائر اعضاء الوفد اللبناني في مقدمهم الحاج حسين وفؤاد عمون والياس سركيس الذي كان ما زال اميناً عاماً لرئاسة الجمهورية ومعهم نقيب الصحافة عفيف الطيبي، وانضم الى الرحلة ايضاً عدد من الزملاء الصحافيين لتغطية المؤتمر. وفي المساء، كان الطقس صافياً ومياه المتوسط هادئة، شهد صالون الباخرة سهرة بيضاء فريدة من نوعها استمرت حتى ساعات الفجر، فقد التقى نقيب الصحافة وسائر الصحافيين على مائدة مستطيلة حول الرئيسين حلو والعويني وسائر اعضاء الوفد. معروف عن الرئيس حلو انه فارس كلمة، لكنه عندما يبدأ الحديث لا يترك مجال الكلام لمحادثيه، وهكذا كان فاستلم الحديث معظم السهرة، وتنوعت الأحاديث من روايته لآخر ايام انتخابه الى الوضع العام في لبنان، وإلى ما ينتظره في الحكم من مهام ومسؤوليات، وبالطبع الى ما ينتظره في المؤتمر من ابحاث وأجواء جديدة عليه. لكن ظهر من سياق الحديث ان الرئيس اللبناني الجديد كان دارساً جيداً لجدول اعمال المؤتمر ومستوعباً ما جرى في قمة القاهرة من ابحاث، ومتحسباً للإشكالات التي تنتظر الوفد اللبناني في قمة الاسكندرية. ناصر - شارلي شارلي - ناصر امضينا ليلتنا في الباخرة وبعد ظهر الرابع من ايلول وصلنا الى ميناء الاسكندرية. عبدالناصر استقبل الرئيس اللبناني على ظهر الباخرة يرافقه امين عام الجامعة العربية وبعض كبار المسؤولين المصريين، وكان استقباله له دافئاً وحاراً وتبادل معه الأحاديث الودية، إنما لفت نظري نوعية الاستقبال الشعبي الذي اعد للرئيس حلو، فقد كان بانتظار الوفد في الميناء جمهور كبير ممن يسمونهم في مصر "الهتيفة" وهؤلاء يعدون سلفاً لمثل هذه المناسبات، ويلقّنونهم الهتافات المطلوب ان يرددونها، وبالفعل صمّت آذاننا أصواتهم وهم يصرخون: ناصر شارلي، شارلي ناصر، ويظهر ان عبارة "شارل" لم تستقم على ألسنتهم، وبقيت هذه الهتافات تتعالى الى ان غادر الرئيسان الميناء مصطحباً عبدالناصر ضيفه الى فندق فلسطين الذي خصص لإقامة جميع الوفود المشاركة في المؤتمر بينما توجهت مع سائر الزملاء نبحث عن فنادق تؤوينا، فالفنادق في الاسكندرية كانت محدودة العدد، ومعظمها كان قديماً ولا تتوافر فيه وسائل الراحة. اما فندق فلسطين فقد بني على عجل خلال بضعة شهور لأنه عندما تقرر عقد المؤتمر في الاسكندرية لم يكن يتوافر في العاصمة الثانية لمصر، اي فندق يصلح لإقامتهم. اقيم فندق فلسطين على مقربة من قصر المنتزه، سراي الملك فاروق، الذي اعد لاجتماعات قمة الاسكندرية من اجل تسهيل تنقل الملوك والرؤساء بينه وبين مكان اقامتهم. صباح الخامس من ايلول التأم المؤتمر في جلسة علنية في احد اجنحة القصر تحت اضواء مصوري الصحف والتلفزيون وبعدها تحول الى اجتماع سري، ترأس جلساته الملك فيصل مكان الملك سعود الذي حضر مؤتمر القاهرة، ولوحظت تبدلات بين من حضروا مؤتمر القاهرة، فغاب الملك الحسن الثاني، وناب عنه شقيقه ولي عهد المغرب ايامها الأمير عبدالله ولم يحضر بورقيبة منيباً عنه الباهي الأدغم. انشاء منظمة التحرير الفلسطينية وجيشها القضايا المدرجة على جدول اعمال المؤتمر، كانت نفسها التي اقرتها مبدئياً قمة القاهرة، ودخل البحث مباشرة في موضوع الكيان الفلسطيني وانتصب احمد الشقيري المعروف ببلاغته الخطابية يقرع آذان الملوك والرؤساء بنتائج المباحثات التي اجراها مع ممثلي الشعب الفلسطيني وخلص بنتيجتها الى اقتراح انشاء منظمة التحرير الفلسطينية بذراع عسكري يتمثل بكتائب فدائية مسلحة. واصطدم الاقتراح بالتحفظات والاعتراضات من الدول نفسها التي عارضت شخص ومشاريع الشقيري في قمة القاهرة. الملك فيصل اشار الى العرائض الواردة الى المؤتمر من الحاج امين الحسيني والموقعة من عدد كبير من زعماء فلسطين والمطالبة بإجراء انتخابات بين الفلسطينيين لاختيار قياداتهم، وقال ايضاً: "ان الشقيري تجاوز قرار قمة القاهرة بتكليفه ببحث القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني، ولم يكلفه بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وكان معروفاً ان السعودية تقف الى جانب الحاج امين، وضمن هذا الموقف رفض الملك فيصل مراراً استقبال الشقيري، لذلك لم تكن هذه السلبية التي برزت في مداخلته من اقتراحات الشقيري مفاجئة، لكنها لم تلق تجاوباً من المجتمعين، خصوصاً ان وفدي الدولتين المعترضتين على الشقيري وهما الأردن وسورية صمتتا عن المشاركة في هذا النقاش بينما بادر بن بيلا الى مناشدة الملك فيصل وسائر المشاركين الموافقة على انشاء الكيان الفلسطيني بشكل منظمة التحرير الفلسطينية. فمرت الموافقة عليه بينما بقي الملك فيصل صامتاً. وعندما انتقل البحث الى الجانب العسكري للمنظمة لم يلق اقتراح انشاء كتائب فدائية فلسطينية مسلحة قبولاً من الملوك والرؤساء. وفاجأ اللواء الحافظ المجتمعين باقتراح انشاء جيش وليس مجرد كتائب مسلحة وأن يعطى الفلسطينيون ارضهم ليقيموا عليها الجيش الفلسطيني ويستعدوا لتحرير فلسطين. وهلع الملك حسين من عبارة "إعطائهم ارضهم" لأن ذلك يعني إعطاء الضفة الغربية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وأدرك عبدالناصر مدى الإحراج للأردن ودول اخرى من هذا الاقتراح، فبادر الى القول ان مصر مستعدة لإنشاء الجيش الفلسطيني في سيناء وغزة، ورد الحافظ بالاستعداد لقيام الجيش الفلسطيني على الأرض السورية، وجاراه عبدالسلام عارف في تأييد إقامته في العراق، بينما صمت الملك حسين ولم يعلق بشيء. وبنتيجة البحث أقر المؤتمر انشاء جيش التحرير الفلسطيني على ارض الدول القابلة بذلك، مع الحرص على ان تتم جميع مهماته ونشاطاته وتسليحه بالتنسيق مع الجيوش العربية التي سيوجد بجانبها. وأدى تنفيذ هذا التنسيق، كما ثبت لاحقاً، الى إجهاض هدف التحرير المقصود من هذا الجيش وتحويله الى ما يشبه فرق غير مستقلة من الجيوش العربية يأتمر بأوامرها، وبالفعل ما زالت بعض قواته موجودة الى الآن في مصر وسورية والأردن. وكذلك لم يفز الشقيري بتمويل عربي ثابت لمنظمته الجديدة، واكتفت الدول النفطية بتبرعات مبدئية بلغت خمسة ملايين ونصف مليون دينار بينما جرى اقتطاع ثلاثة ملايين جنيه استرليني من موازنة القيادة الموحدة لجيش التحرير الفلسطيني. مشادة بين عبدالناصر والحافظ بعد ان ارتاح الملوك والرؤساء من هم الكيان الفلسطيني بإلباسه هذه الصيغة الملتبسة التي أسقطتها منظمة "فتح" لاحقاً وأسقطت معها الشقيري مستولية على منظمة التحرير، الى ان اختير ياسر عرفات رئيساً لها عام 1969، انما لهذا الأمر قصة أخرى؟؟! وبعد ذلك انتقل المؤتمر الى الهم الأكثر ازعاجاً، والهم الذي كان السبب الأساس لانعقاده، أي هم استثمار روافد الأردن؟ فاتحة بحث هذا الموضوع كان تقرير الفريق علي علي عامر عن اعداد التجهيزات للتحويل وتباطؤ الدول العربية في الاجابة على تعليماته العسكرية وشكواه من أن ال150 مليون جنيه التي رصدتها القمة الأولى للدول الثلاث: الأردن وسورية ولبنان تجب مضاعفتها ثلاث مرات في حال اعتماد المقاييس المحلية بدل جداول الجيش المصري ومقاييسه. وبعد نقاش قصير للتقرير انتقل المؤتمر لبحث صلب الموضوع: الأشغال والتسلح ففاجأ اللواء الحافظ المجتمعين بمداخلة جديدة - قديمة في المحتوى لكنها كانت أشبه بقنبلة انفجرت في سماء الاجتماع، بخاصة عند قوله: ان الأشغال على مياه الأردن ليست سوى جزء من مخطط أميركي لتوزيع المياه بين اسرائيل والدول العربية، مضيفاً "ما معنى هذا الدوران وهذه الخزعبلات؟ لو كنا أكثر رصانة للجأنا حتماً الى وضع مخطط في سبيل استعادة فلسطين لا لتحويل مياه الأردن، وقوبل هذا الكلام بالضجيج وخبط الطاولات وأقوال من مثل: ما معنى اننا أضفنا سنة كاملة للتحضير لاستراتيجية دفاعية ضد اسرائيل، وأصوات أخرى تقول: ما زلنا عاجزين حتى عن حماية الأشغال؟ لكن اللواء الحافظ أجاب بتحد لا مثيل له بما معناه: لنجلس لمدة ثلاث ساعات ونضع مخططاً شاملاً مع جداول تسلح عربي عام، فنستطيع ان نتخلص من اسرائيل ولا نعود نسمع بها. تطور النقاش على هذا الشكل أحدث ما يشبه الفوضى بين المجتمعين، فالردود على الحافظ جاءت معترضة من مختلف الوفود، ولم يستطع الملك فيصل رئيس الجلسة فضها ازاء عناد الحافظ واستمراره في القول: هل تحتاج قضية تافهة كتحويل روافد الأردن الى اجتماع قمة بينما الأفضل وضع مخطط دفاعي كامل. وبالنتيجة حسم عبدالناصر النقاش بالقول: ان تحويل روافد الأردن ما هو إلا مرحلة أولى في الرد العربي على التحدي الاسرائيلي، والقائد الأعلى مولج بحماية الأشغال في المرحلة الأولى كما هو مكلف بوضع خطة شاملة خلال سنة من أجل شن عملية واسعة النطاق! أزمة مع الوفد اللبناني تأجيل الإشكال مع اللواء الحافظ لم ينه أزمات المؤتمر فقد أعقبته أزمة أخرى حادة كان طرفها هذه المرة الوفد اللبناني، فقد لاحظ الرئيس حلو أن المشروع العربي لتحويل الأردن يقضي بالتنفيذ في لبنان على مرحلتين: الأولى تتمثل بإقامة سد على مجرى نهر الحاصباني وتركيب مضخة على نهر الوزاني والمطلوب التنفيذ العاجل وربما الفوري لهذه المرحلة، أما مرحلة استغلال المياه فهي مؤجلة ولسنوات عديدة تصل الى عشر سنوات بسبب عدم جهوز المشاريع والتمويل، والأغرب منه أن الخارجية اللبنانية كانت قد تلقت منتصف العام 1964 برقية من الفريق علي علي عامر يستغرب تأخر لبنان ببدء التنفيذ وقبل تأمين الحماية العسكرية له. ولاحظ الرئيس اللبناني أيضاً أن الفريق عامر طلب في تقريره اعطاء القائد العام صلاحية نقل القوات من بلد عربي الى آخر وفق ما يراه مناسباً لاستراتيجيته، ورغبته أيضاً في دعم القدرات العسكرية للبنانوالأردن بقوات عربية تدخل كلا البلدين قبل أن تكون جميع الدول العربية قد أصبحت مستعدة لخوض المعركة على جميع الجهات، وكان الأردن قد بعث بمذكرة الى القائد العام يرفض فيها اقتراحه دخول قوات عراقية الى أراضيه. هذه الوقائع أقلقت كثيراً الرئيس حلو فحرص قبل بدء المؤتمر على عقد اجتماع مصارحة مع عبدالناصر أبدى له فيه هواجسه وملاحظاته ومما قاله له: ان بدء التحويل قبل مشاريع الاستثمار يعني ذهاب المياه الى البحر الأمر غير المقبول عالمياً مقترحاً اقامة سد لتجميع هذه المياه في النبطية!؟ ومضيفاً: ان التنفيذ قبل تأمين الحماية العسكرية غير عملي لأن اسرائيل قادرة على قصف المشروع مع احتمال قيامها بالعدوان على لبنان؟! واستمر بالمصارحة بالقول: ان النظم الدستورية في لبنان لا تسمح بدخول أية قوات أخرى الى أراضيه إلا بموافقة المؤسسات اللبنانية ذات العلاقة، ولا يمكن لهذا السبب أن يوافق لبنان على اعطاء القائد العام صلاحية تحريك قواته أو ادخال قوات أخرى الى أراضيه! وأثناء النقاش دخل عليهما المشير عبدالحكيم عامر وبادر الرئيس حلو بقوله: يمكنكم الاتكال على القوات العسكرية المصرية، وسيقوم الطيران الحربي المصري بتأمين الحماية العسكرية لأعمال التحويل! وزاد كلام المشير من هواجس الرئيس حلو، لأنه كان يدرك ان تدخلاً للطيران المصري في لبنان سيؤدي حتماً الى قيام حرب شاملة مع إسرائيل، بينما لم يكن قد جف بعد حبر قول عبدالناصر المسجل في قمة القاهرة حول عدم استعداد الجيش المصري لدخول الحرب مع إسرائيل، ما يعني أن وعود المشير غير واقعية وغير قابلة للتنفيذ، وربما وهمية أيضاً... * كاتب وصحافي لبناني والنص فصل من كتابه "سنوات الجمر" الذي سيصدر قريباً كجزء ثانٍ من كتابه "ذكريات من الصحافة والسياسة".