خلال الحرب الباردة كان معظم المساعدات المادية الغربية للدول العربية ذا طابع سياسي ومحصوراً بالهيئات والمؤسسات الحكومية ذات الصلة، واستهدف محاصرة التغلغل السوفياتي في المنطقة بتعزيز مظاهر أو آليات المقاومة الداخلية بطابعها الثقافي والديني. لكن العقد الماضي شهد تحولاً مهماً في هذا المجال. فمع انهيار الاتحاد السوفياتي وتلاشي حدة التنافس القطبي الثنائي على النفوذ في المنطقة ازدادت نسبة الأموال المتدفقة الى هيئات غير حكومية كما تغير هدفها. فبعد أن كانت المساعدات تهدف الى صد مؤثرات فكرية وأيديولوجية خارجية المنشأ الشيوعية أصبح الغرض منها مواجهة تحديات فكرية، ثقافية وسياسية محلية المنشأ الإسلام السياسي. تكاثرت في العقد الماضي المؤسسات العربية المعتمدة في شكل كبير على المساعدات الخارجية كمراكز الأبحاث الاجتماعية ومنظمات حقوق الإنسان، والمؤسسات الأكاديمية وغيرها. واشتمل الدعم الخارجي الى جانب الإعانات العينية على تقديم الاستشارات والخبرات في إطار التحول نحو فكر أكثر ليبرالية وإعادة صوغ الرأي العام. ومن الدول العربية التي تعرضت لمثل هذه النشاطات في شكل مكثف: مصر، المغرب، تونس، الجزائر، الأردن، لبنان، اليمن وأراضي الحكم الذاتي الفلسطيني. فيما كانت أوروبا، والولاياتالمتحدة واليابان وكندا واستراليا الجهات الرئيسة المانحة للمساعدة. ويتم ضخ أكثر هذه الإعانات من طريق هيئات حكومية غربية، كالمنح والمساعدات التي تشرف على تقديمها وزارتا الخارجية البريطانية والهولندية، أو عبر منظمات ووكالات شبه حكومية مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID ونظيرتها الكندية CIDA، أو عبر وكالات مرتبطة بأحزاب سياسية مهمة. وتعتبر مؤسسة شتافتنغن الألمانية رائدة في هذا المجال، وعلى شاكلتها ظههرت هيئات مماثلة في أوروبا والولاياتالمتحدة وكندا. وفي أوائل الثمانينات من القرن الماضي أقر الكونغرس الأميركي إنشاء الوكالة القومية لترويج الديموقراطية The National Endowment For Democracy وهي هيئة غير حكومية تعتمد في شكل رئيس على دعم الحزبين الكبيرين في الولاياتالمتحدة، فيما أقر البرلمان البريطاني إنشاء هيئة مشابهة عام 1992 أطلق عليها اسم Westminster Foundation For Democracy وهناك أيضاً مركز أولف بالمه الدولي التابع لحزب العمال السويدي، ومؤسسة جان جوريه المرتبطة بالحزب الاشتراكي الفرنسي، ومنتدى برونو كرايسكي النمسوي وغيرها الكثير. وهناك مؤسسات خاصة أيضاً لا تتبع جهة حكومية معينة، مثل مؤسسة فورد الأميركية، وحديثاً دخلت على الخط مؤسسة جورج سوروس الهنغاري الأصل، الأميركي الجنسية، فيما ترتبط مؤسسات أخرى بشركات كبرى عالمية ذات مصالح في المنطقة مثل شركات النفط. وتحظى جميع هذه المؤسسات بتسهيلات كبيرة من الحكومات الراعية، فهي مثلاً معفاة من الضريبة ومسجلة تحت بند المؤسسات غير الريعية، كما أنها تنسق في شكل كامل مع الوزارات المختصة في بلدانها، ويتمتع بعضها بالحصانة الديبلوماسية بسبب تداخل عملها مع الأقسام الثقافية التابعة للسفارات الغربية. وعلى رغم اختلاف أساليب عمل هذه الهيئات ووسائل تمويلها وتابعيتها، إلا أنها جميعها مرتبطة في شكل أو بآخر بالسياسة الخارجية للدول التي تعمل تحت علمها. وفيما كانت الولاياتالمتحدة حتى عهد قريب أكبر المساهمين في تمويل الهيئات غير الحكومية في المنطقة العربية، إلا أن النصف الثاني من التسعينات شهد نشاطاً أوروبياً ملحوظاً في هذا المجال. إذ تم إطلاق أكثر من 170 مشروعاً لتعزيز الديموقراطية في دول حوض البحر المتوسط بين عامي 1995 و2001 وذلك من إجمالي 600 مشروع تمولها دول غربية في شكل كلي أو جزئي، وتتراوح نشاطاتها بين عقد مؤتمرات حول الديموقراطية، تنظيم ندوات لرجال الأعمال، تقديم منح دراسية تتراوح مدتها بين سنتين وأسبوعين، تنظيم زيارات لمراكز بحث أوروبية، توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، إجراء استطلاعات رأي عام، مراقبة انتخابات، دعم إجراء أو نشر دراسات اجتماعية، تعليم لغات أجنبية، ترجمة أعمال في الأدب والسياسة، وانتهاء بتقديم هدايا عينية. أما هدف هذه المشاريع فهو مزدوج: الأول: العمل على إنشاء أو تطوير مؤسسات أهلية مستقلة تقع خارج سيطرة الدولة وتكون مهمتها التحضير لمرحلة انتقالية تدريجية تنتهي باستبدال القيم، النظم، والثقافة الليبرالية الغربية بالقيم التقليدية السائدة في المنطقة العربية. وتنطوي عملية التحول هذه، حيث تضطلع النخب والمؤسسات القضائية والتعليمية والإعلامية بدور قيادي، على إضعاف قبضة الدولة على المجتمع بالتوازي مع تخفيف حدة الاستقطاب الأهلي الناجم في شكل رئيس عن الانقسام الطبقي الحاد، والضغط باتجاه إصلاح تدريجي يحول دون الوصول الى نقطة الانفجار باتجاه عمل ثوري يضر بالمصالح الغربية كما حدث في إيران. أما الهدف الثاني لمشاريع التمويل الغربي فهو خلق نموذج ثقافي بديل يساهم في إضعاف نفوذ الحركات الراديكالية - الإسلام السياسي تحديداً - الذي تنامت قوته بشدة بعد انتهاء الحرب الباردة، مستفيداً من حال العجز العربي العام، تدهور الوضع الاقتصادي، انتشار البطالة، استحكام الفساد المؤسساتي واستهلاك النخب الحاكمة لخطابها الثوري وافتقارها الى فكر سياسي أو ايديولوجي مضاد. وفي تفسير ذلك تعتقد الدوائر الفكرية والسياسية في الغرب، كما يرى انطوني ليك مستشار الأمن القومي السابق في إدارة بيل كلينتون، ان التغيير في المنطقة العربية يكاد يكون حتمياً، ولما كان من غير الممكن منعه فإن أقصى ما تستطيعه الولاياتالمتحدة هو محاولة السيطرة على إيقاعه وجعله يتم في شكل هادئ وتدريجي، بما يحول دون حدوث ثورات او اضطرابات اجتماعية قد تؤذي المصالح الغربية او تدفع الى السلطة بأنظمة غير صديقة. وفي سعيها للسيطرة على إيقاع التغيير المرتقب في المنطقة العربية يلاحظ تأثر سياسات الدول الغربية بمصالحها القومية، حيث يجرى التركيز على التطورات الداخلية في دول عربية معينة اكثر من اخرى بما يتوافق مع مصالح كل دولة غربية واهتماماتها. ففي حين تركز فرنسا وإسبانيا وإيطاليا اهتمامها على منطقة شمال افريقيا القريبة خوفاً من وصول الإسلاميين الى السلطة او تدهور الأوضاع الى درجة تدفع بموجات هجرة جماعية نحو الشمال، كما حدث في الجزائر خلال النصف الأول من التسعينات، تركز الولاياتالمتحدة على دول الشرق العربية بما يعكس هاجس الأميركيين في تأمين منابع النفط، وحماية أمن اسرائيل التي تعتبر حجر الزاوية في السياسة الأميركية منذ نحو نصف قرن. سياسة الاهتمام الانتقائي التي تتبناها الدول الغربية في تمويلها مشاريع "ترويج الديموقراطية" تدل الى ان الديموقراطية ليست هدفاً بحد ذاتها، انما وسيلة لإحباط اي تغيير معاد للمصالح الغربية. ولم تقتصر الانتقائية على عامل القرب او البعد الجغرافي بل تجاوزته لتشمل التيارات الفكرية المشمولة بالرعاية. ليس غريباً إذاً ان يتم استبعاد المراكز ذات الطابع الإسلامي او اليساري او القومي من مشاريع دمقرطة المنطقة والتي تعد بالمئات كما أشرنا. الانتقائية كانت واضحة ايضاً في طبيعة نشاطات هذه المشاريع التي تركزت على ثلاثة مجالات اساسية: القطاع الانتخابي - التمثيلي، قطاع حقوق الإنسان، المرأة وصوغ رأي عام صديق للغرب، وأخيراً تشجيع الحوار العربي - الإسرائيلي. اي ان معظم القضايا التي انشغلت بها المشاريع الغربية هي قضايا سياسية وذات طابع نخبوي، في حين جرى تجاهل قضايا اقتصادية واجتماعية ذات مردود اشمل، ولا تقل اهمية اذا اريد للتجربة الديموقراطية ان تنمو وتتقدم، من مثل محو الأمية ومحاربة الفقر وإنشاء مشاريع بنية تحتية... الخ. لكي تكتمل الصورة لا بد من استكشاف ردود افعال الدول المتلقية للأموال. فقد رأى معظم الدول العربية في مشاريع ترويج الديموقراطية وتقديم إعانات خارج القنوات الرسمية خرقاً للمفهوم التقليدي للسيادة الوطنية وتدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية، وتجاوزاً لدورها في علاقتها بمجتمعها وبمنظمات تعمل ضمن حدودها الوطنية وتؤثر نشاطاتها في شكل مباشر في سلطتها وتأثيرها بالتالي في مواطنيها. وتراوح رد الفعل العربي بين الاحتواء والمواجهة، ففي حين سلك بعض الدول العربية طريق المهادنة وراح يرسل إشارات ايجابية عبر دعوة مراقبين اجانب للوقوف على نزاهة الانتخابات، كما اليمن عام 1997، ذهبت حكومات عربية اخرى الى حد مصادرة الأموال الممنوحة وإغلاق مكاتب المنظمات غير الحكومية واعتقال القائمين عليها. فعلى سبيل المثال ثارت في مصر موجة من الغضب الحكومي حول النشاط الاستخباري والغزو الثقافي والفكري والأجنبي، عندما رعت USAID ندوة عن دور الهيئات التشريعية في تطوير التجربة الديموقراطية وضمت مجموعة مهمة من اعضاء البرلمان المصري. وفي اعقاب الهزة الأرضية التي ضربت القاهرة عام 1992 اقرت الحكومة المصرية قانوناً بموجب حال الطوارئ، يحظر اي دعم مالي اجنبي لأي وكالات او هيئات اهلية مصرية. كما قامت السلطة الفلسطينية - ايام قوتها - بمصادرة ملايين الدولارات من اموال منظمات اجنبية اشرفت على برامج رأت فيها السلطة الفلسطينية تهديداً لسلطتها. وكمؤشر على الخطر الذي شعرت به الدول العربية من نفوذ المنظمات الأجنبية أُدرجت هذه المسألة على جدول اعمال مؤتمر وزراء الداخلية العرب في تونس عام 1996 حيث تم الاتفاق على حظر اي تمويل اجنبي لا يمر عبر القنوات الحكومية ذات الصلة. وتبقى قضية سعد الدين ابراهيم مدير مركز ابن خلدون للدراسات ابرز القضايا في هذا المجال. ففي مطلع العام 2000 اعتقل ابراهيم بعد اتهامه بخرق قانون العام 1992 وتسريب معلومات تضر بأمن الدولة الى جهات اجنبية والإساءة لسمعة مصر في الدوائر العالمية. اما السبب الحقيقي في القضية فهو إعداد تحقيق مصور موِّل من الاتحاد الأوروبي وتناول بعض مظاهر التزوير الانتخابي في مصر. وكان ابراهيم أثار امتعاض السلطات في مرات سابقة عندما تحدث عن وضع الأقباط خلال ندوة نظمتها مؤسسة فورد الأميركية ومولتها حول الأقليات الدينية والعرقية في العالم العربي. على ان قضية ابراهيم لم تكن وحيدة في هذا المجال، إذ اتهم الأمين العام لمنظمة حقوق الإنسان في مصر بالحصول على 25 ألف دولار من بريطانيا في اوائل العام 2000 لإعداد تقرير عن ظروف اعتقال سجناء سياسيين وتعذيبهم. قضية ابراهيم والمنظمة المصرية لحقوق الإنسان لن تكون آخر جولات الصراع الدائر على التحكم في مجرى التغيير بين الغرب والدول العربية. فمع تنامي التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول العربية بعد احداث ايلول سبتمبر 2001 يبدو ان مشكلة التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية في العالم العربي مرشحة للتصعيد. ويبدو ان الطريقة الوحيدة للحد من سيطرة المال والنفوذ الأجنبيين على المنظمات الأهلية العربية هي انفتاح الدولة العربية على هذه الهيئات والسماح لها بإيجاد بدائل تمويل محلي، كأن تقوم الدولة نفسها بتوفير مخصصات ثابتة، بشرط ان لا يؤثر ذلك في استقلالية هذه المنظمات وفي الوقت نفسه يحررها من شبهة التبعية وخدمة اغراض الأجنبي. * باحث عربي مقيم في بريطانيا.