السلطات الجديدة في سوريا تطلق عملية بطرطوس لملاحقة «فلول النظام المخلوع»    غوارديولا راضٍ عن أداء مانشستر سيتي رغم استمرار نزيف النقاط    طارق السعيد يكتب..من المسؤول عن تخبطات هيرفي؟    عمومية كأس الخليج العربي تعتمد استضافة السعودية ل"خليجي 27″    وزارة الثقافة تُطلق المهرجان الختامي لعام الإبل 2024 في الرياض    السعودية: نستنكر الانتهاكات الإسرائيلية واقتحام باحة المسجد الأقصى والتوغل جنوب سورية    الجيش اللبناني يتهم الاحتلال الإسرائيلي بخرق الاتفاق والتوغل في مناطق جنوب البلاد    "رينارد" يستبعد "الشهراني" من معسكر الأخضر في الكويت    بموافقة الملك.. منح وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الثالثة ل 200 متبرع ومتبرعة بالأعضاء    أسبوع أبوظبي للاستدامة: منصة عالمية لبناء مستقبل أكثر استدامة    مدرب قطر يُبرر الاعتماد على الشباب    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي كبار ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة    تدخل جراحي عاجل ينقذ مريضاً من شلل دائم في عنيزة    الإحصاء: إيرادات القطاع غير الربحي في السعودية بلغت 54.4 مليار ريال لعام 2023م    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بمنطقة تبوك    السعودية رئيسًا للمنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة "الأرابوساي" للفترة ( 2025 - 2028 )    الذهب يرتفع بفضل ضعف الدولار والاضطرابات الجيوسياسية    استمرار هطول أمطار رعدية على عدد من مناطق المملكة    الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    «الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    وطن الأفراح    المملكة ترحب بالعالم    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    مسابقة المهارات    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الذكرى ال45 للوحدة المصرية - السورية . خلافات العسكريين السوريين عجلت في إقامة الوحدة وضعف المشاركة الشعبية فك عراها
نشر في الحياة يوم 10 - 02 - 2003

وافق مطلع شباط فبراير الجاري الذكرى ال45 لإعلان الوحدة المصرية - السورية التي اعتبرت تتويجاً للمد القومي العربي الذي تبنى المدخل الاندماجي السياسي للوحدة. إلا أن انهيارها بعد نحو ثلاث سنوات ونصف سنة أيلول/ سبتمبر 1961 اعتبر نكسة لهذا التيار. كما ان ما تلاها من أحداث ومواجهات عربية - عربية أحدثت انقساماً شاملاً في "الكيان العربي" بما يتجاوز محدودية الانفصال. اذ عانى الوطن العربي طوال اكثر من اربعة عقود - ولا يزال - من تآكل روابط التضامن العربي على مختلف المستويات، وشهدت الساحة العربية حروباً ساخنة وباردة حتى وصل الأمر حد قيام دولة عربية بغزو دولة عربية أخرى.
ان واقع الأمس والحاضر هو صورة المستقبل، وما يجري اليوم في الوطن العربي هو النتيجة المنطقية لما جرى بالأمس. ومن هنا تأتي أهمية محاولة استعادة الماضي لمعرفة حقيقة الاخطاء في هذه التجربة الوحدوية، بهدف فهم خلفياتها في شكل موضوعي أفضل.
ترى غالبية المفكرين السوريين أن الدوافع القومية كانت المحرك الأساس للتهيئة لمشروع الوحدة. اذ تغلغلت الفكرة القومية في وجدان الشعب السوري وأصبح يشعر أن كيانه الذاتي لا يكتمل إلا بالاندماج في اطار عربي اوسع نطاقاً خصوصاً مع مصر. "وسورية - كما يعبر أحد الكتاب السوريين - كان هواها مصرياً، فلم تكن ترى الوحدة إنثناء إلى وراء، إلى الشرق، أي في اتجاه العراق، بل تفهمها دافعاً للطرف المشرقي باتجاه الغرب مصر".
واذا كان البعض يرى في المقابل أن الفكر القومي العربي بمدلوله السياسي دخل مصر متأخراً نسبياً، ولم يظهر كأحد التيارات المحسوسة على الساحتين الفكرية والسياسية فيها إلا بعد اكثر من عقد من تبلوره في الشرق العربي، ويرى البعض الآخر أن تعريب مصر سياسياً تم على يد جمال عبدالناصر، فإن في هذه الآراء شيئاً من الصحة لكنها تحمل ايضاً جانباً كبيراً من التجني على الواقع.
فقد تفاعلت شخصية عبدالناصر ومقومات القيادة فيه مع وزن مصر العربي والدولي وامكاناتها المتعددة وموقعها المتوسط، وتعمق التزامها بالقضية العربية بعد حرب 1948. كل ذلك وغيره جعل مصر، منذ زمن بعيد، وقبل ظهور عبدالناصر، القطر العربي الذي تهيئه ظروفه الموضوعية لدور قيادي في المحيط العربي. صحيح أن لدى مصر شعوراً بالاكتفاء المغني عن الالتزام العربي مقارنة بأقطار عربية أخرى، كما أن من الطبيعي أن يشكل التعلق بمصر بالنسبة للمصري وطنية بالمعنى الصحيح، فيما لا تستطيع سورية، مثلاً، في تقدير منح الصلح، أن تكون وطنية إلا من خلال العروبة والعروبة وحدها.
ومن جهة أخرى، يعتبر ارتباط مصر بالعروبة مقوماً اساسياً راسخاً في شخصيتها الوطنية، وسنداً اساسياً ومهماً لشرعية أي نظام حاكم في مصر، ومحاولات التقليل من عروبة مصر هدفها ضرب الرباط بين مصر والعرب، أي ضرب المفصل الأساس للجسم العربي. فالتعريب هو نصف القومية والتمصير نصفها الآخر. وقبول الطرفين بجزئي الحقيقة الواحدة هو التصحيح في الفكر والعمل. ومن هنا كانت استجابة مصر - عبدالناصر لنداء الوحدة مع سورية مزيجاً وتفاعلاً بين رؤية قيادة عبدالناصر الدافعة، كظاهرة متقدمة في الوطن العربي، وقاعدة مصرية تعيش، بعمق، عروبتها وتتفاعل بحماسة مع أحداث منطقتها.
وشهدت السنوات القليلة السابقة للوحدة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ووقائع مصير مشترك بين مصر وسورية اخذت معالمه تزداد رسوخاً، لا سيما بعدما أقدمت سورية على نسف أنابيب النفط المارة عبر اراضيها تضامناً مع مصر. ثم جاء إعلان "مبدأ ايزنهاور" في نهاية 1957 لملء ما سمي ب"الفراغ في الشرق الأوسط" والضغوط المتزايدة التي تعرضت لها سورية من دول الجوار، خصوصاً إسرائيل وتركيا والعراق. وبادرت القاهرة إلى الوقوف بحزم الى جانب دمشق ووصلت وحدات من القوات المسلحة المصرية إلى ميناء اللاذقية في تشرين الاول اكتوبر 1957 لمجابهة الخطر والأطماع الخارجية التي تتهددها.
وأسهمت المخاطر الخارجية بالتعجيل في اتخاذ قرار الوحدة وأبرزت لحظة قومية جعلت الوحدة بين البلدين تبدو تحقيقاً لآمل طال انتظاره. كما كان للعسكريين السوريين، الذين كانوا يستشعرون حدة المخاطر التي تحيط ببلدهم، دوراً محركاً ومؤثراً في التعجيل في إقامة الوحدة. اذ اشتدت الخلافات بين الكتل العسكرية السورية، ولم يجد قادة هذه الكتل حلاً لمنع انشقاق الجيش إلا بالإسراع في إعلان قيام الوحدة وتسليم القيادة لعبدالناصر، الذي وجد نفسه فجأة أمام هذا الوضع، فلم تتح له الفرصة لمناقشة توقيت قيام الدولة الموحدة أو شكلها.
تبنت مصر - عبدالناصر سياسة عربية مستقلة، ودعت الى تفعيل مبادئ ميثاق الضمان الجماعي العربي، وعارضت سياسة الأحلاف، خصوصاً حلف بغداد الذي شعرت أنه موجه ضدها خصوصاً مع تكثيف جهود الحلف لضم سورية التي مثلت مفتاح النصر أو الهزيمة في معركته. وعاشت سورية هذه الفترة جواً مشحوناً بالخوف من احتمال هجوم تركي مدعوم من هذا الحلف ومن جارات سورية العربيات في آن. وكان من الممكن أن تندفع دمشق الى الارتماء في أحضان الاتحاد السوفياتي، لكنها رأت، استجابة للشعور الوحدوي الطاغي، الاندفاع نحو الاتحاد مع مصر - عبدالناصر.
انهيار الوحدة
يأتي في مقدم الاسباب الرئيسية لانهيار الوحدة ضعف المشاركة الشعبية والسياسية. ففي مقابل التجربة الناصرية التي اتبعت نظام الحزب الواحد، كانت سورية تتبع نظام التعددية الحزبية، وكان للأحزاب صوتها ودورها السياسي على رغم سطوة المؤسسة العسكرية السورية.
وجاء قرار الوحدة الاندماجية بين البلدين بما انطوى عليه من تفويض عبدالناصر بتعديل النظام السياسي في البلدين، فقام بإلغاء الأحزاب السورية، وعكس ذلك أسلوبه في حكمه لمصر اكثر مما عكس القدرة على تفهمه للواقع السوري وتناقضاته. اذ اعتمد عبدالناصر على شعبيته كبديل للمرجعية الحزبية وأمّنت له الأجهزة البيروقراطية الرسمية الاستمرارية في الحكم، لكنها خسرت معركته مع البعثيين ثم الانفصاليين في ما بعد. وبررت اختيار هذه الصيغة بالرغبة في تركيز السلطة في يد قوية في مرحلة الانتقال الصعبة والحرجة، وإعطاء الأولوية للنواحي الوقائية السياسية لمواجهة أعداء الوحدة في الداخل والخارج على التفاعل الديموقراطي الذي يمكنه الانتظار.
وتفاقمت الخلافات بين عمادي الوحدة ووتديها. فعبدالناصر وحزب البعث لم يستطيعا ان يتكاملا وسعى كل منهما الى احتواء الآخر، ما جعل الصراع بينهما يتجاوز عداوة الإخوان وظلم ذوي القربى. ووصل الخلاف حد القطيعة وتبادل الاتهامات الخطيرة وكان من نتيجتها ان بعض أقطاب هذا الحزب كأكرم الحوراني وصلاح البيطار وغيرهما وقّعوا في ما بعد بيان الانفصال. وعبّر محمد حسنين هيكل عن هذا الواقع بقوله "لو أردنا أن نعدد مآسي التاريخ العربي الحديث لوجدنا أن الخلاف بين الحركة الناصرية وحزب البعث هو أحد أبرز هذه المآسي. اذ أنه لو حدث أن هاتين القوتين تعاونتا لكانت الصورة مختلفة في العالم العربي. لكن الذي حدث أن هاتين القوتين التقدميتين القوميتين اصطدمتا بعنف".
وفي الواقع كان عبدالناصر، بحكم تكوينه الشخصي وتجربته في الحكم باعتماده أسلوب إزالة التسيس الحزبي الحاد الذي كان يرى انه يمزق المجتمع المصري، واتباعه سياسة تركيز السلطة، كان يضيق بالجدل السياسي خصوصاً انه كان لا يجيد اسلوب السياسة المتحزبة، والمناكفة البعثية الايديولوجية. كما أن تعقيدات ظروف نشوء التجربتين البعثية والناصرية ساهمت ايضاً في تضييق مجرى التفاعل بينهما خلال المرحلة الايجابية للوحدة. وفشلت محاولة بعثية لإحداث شراكة مصرية - سورية في تغيير طريقة تسيير دولة الوحدة واخرى مصرية عكسية لإعادة توجيه حزب البعث في خط أقرب الى الناصرية، فانعدم الحوار بينهما ووصلا إلى طريق مسدود، دفعت الوحدة ثمنه غالياً.
وما عجّل في الصدام أن السند العسكري للوحدة شهد شرخاً في الاقليم السوري. اذ ان عدداً من كبار الضباط الذين شاركوا في صنع الوحدة كانوا يأملون أن يثابوا على مبادرتهم وان يكافئوا عليها. ولكن لم ينطبق حساب الحقل على حساب البيدر، فعبدالناصر كان عانى من مشاكل ابعاد العسكريين المصريين عن العمل السياسي، إلا انه وجد ان هذه المهمة اكثر صعوبة في سورية. فخلفية تدخل الضباط السوريين في العمل السياسي طويلة حدث اول انقلاب عسكري في المنطقة العربية في سورية عام 1948 على يدي حسني الزعيم.
من هنا جاء قرار عبدالناصر بإبعاد الجيش السوري عن الساحة السياسية وحصره في ثكناته. فقام بتسريح البعض ونقل البعض الآخر وهم الأكثرية إلى مصر ومن بينهم الطيار - وقتئذ - والرئيس في ما بعد حافظ الأسد، ما ادى إلى بروز الخلافات بين عبدالناصر وحزب البعث وأجنحته. كما ان عبدالحكيم عامر الذي اصبح على قمة القوات المسلحة في البلدين، لم يلحظ تسرب بعض العناصر المعادية للوحدة إلى مكتبه، اذ تزايد الضباط المعروفون بصلاتهم بهذه القوى، والذين كان يطلق عليهم اسم "الضباط الشوام" أو "الدمشقيين". وكشفت وقائع الانفصال عن مشاركة ضباط من أركان قيادة عامر في الحركة الانفصالية.
تغييب المشاركة الشعبية
ارتكزت الوحدة بصفة اساسية على كاريزما ذات تأثير عالٍ تمثلت في شخصية عبدالناصر المعززة بآمال شعبية عريضة في مستقبل أفضل. وبحسب احد الباحثين "تسيست الجماهير على يدي عبدالناصر ومن خلال خطبه. لكن الجماهير العفوية لا تقوم إلا بعمل عفوي، هذا إذا قامت به. وان جل ما يمكن أن تقوم به ينحصر في التلقي أو المشاركة السلبية".
وهكذا تمت الوحدة بين القطرين تلبية لمطلب جماهيري عربي، لقي استجابة شرائح عدة في مصر، وبمبادرتين شعبية وحزبية في سورية. ولكن ما إن وقعت اتفاقية الوحدة، حتى بدأت خطوات تغييب المشاركة الشعبية الفعلية التي ادت إلى ولادتها. ولذا عندما قامت مجموعة الانفصال السورية، الهزيلة، بالانقلاب، قابلها الشعب المصري بعدم الاكتراث واللامبالاة، وأصابت الشعب السوري بالذهول والصدمة. ولكن ذلك لم يعبر عن ذاته بمقاومة حركة الانفصال والتصدي لها. اذ أن أي وحدة قممية عندما تنهار لا تستطيع المؤسسات الشعبية المغيبة مواجهتها.
حرق المراحل
وتشير غالبية الدراسات والوثائق إلى أن الوحدة تمت في شكل متسرع من دون ترتيبات وتهيئة مسبقة كافية. فالقيادات العامة للجيش السوري صاحبة الكلمة الفاعلة في سورية اندفعت كغيرها في تيار الموجة القومية الجارفة. وتردد عبدالناصر في البداية، لأنه كان يرغب في أن تتم هذه الوحدة على مراحل، أو تأخذ شكلاً فيديرالياً كما صرح في ما بعد. إلا أن السوريين، خصوصاً الجناح العسكري، أصروا على الوحدة الاندماجية الفورية بين البلدين.
وبطبيعة الحال كان منطق الواقع يعزز الرأي القائل بأن تتم هذه الوحدة بالتدرج، لما بين مصر وسورية من تباينات وفوارق طبيعية سياسية واقتصادية واجتماعية عبّر عنها ياسين الحافظ بقوله "ان من السذاجة والتبسيط انكار ما كان يمايز بينهما. من ذلك أن في سورية ضرباً من تناثر، أما في مصر فضرب من اندماج، وهذا ما يجعل النزوع إلى المركزية ودور السلطة أقوى في مصر منه في سورية، ومن هنا فإن الروح الامتثالية أوضح في مصر، في حين أن روح المنازعة والمناكفة أوضح في سورية".
وبيّنت تجربة الوحدة المصرية - السورية ان اسلوب حرق المراحل لا يوفر وقتاً بل على العكس يبدده. والاستعجال في الوحدة الاندماجية الفورية وعدم التحضير الجيد لمراحلها افقدها القدرة على العيش والصمود والاستمرار.
ويميل التفكير العربي عادة إلى اعتبار مجرد التوقيع على اتفاقية للوحدة أو التكامل انجازاً كبيراً، وسرعان ما تصطدم هذه العقلية الاستسهالية وتفاجأ بالمشكلات المعقدة في التطبيق، لأنها لم تتوقع أن عملية دمج نظامين سياسيين واجتماعيين مختلفين في نظام موحد، تحتاج الى جهد متواصل وعمل شاق، لاختيار المداخل والمراحل المناسبة لتحقيق الاندماج واستيعاب الحساسيات وإزالة الفروق الاجتماعية والاقتصادية تدريجاً حتى يمكن تجنب انهيار البناء الوحدوي لا سيما في مراحله الهشة الأولى.
فالقرار المتخذ باتمام الوحدة كان قراراً سياسياً فوقياً. وفي وقت نجد ان تجربة الاتحاد الأوروبي ركزت منذ البداية على البعد الاقتصادي، فإن تجارب الوحدة العربية كانت تبدأ بالسياسة وببيان سياسي يصدر عن القادة الرؤساء لأسباب تتعلق بتوازنات سياسية يقدرونها، ثم عندما تتغير هذه التوازنات تتغير نظرتهم الى الوحدة. ومن الأمور اللافتة، مثلاً، ان وضع العامل الاقتصادي أو دوره كحافز للوحدة لم يكن واضحاً ولم يلق الاهتمام اللازم. فلم يؤخذ في الاعتبار تباين الاوضاع الاقتصادية واختلاف الاوضاع وطبيعة الملكية الزراعية في البلدين فامتدت قوانين التأميم والانظمة الاشتراكية المصرية إلى الاقليم السوري من دون مراعاة للخصوصية السورية، فضلاً عن فترة الجفاف الممتدة طوال فترة الوحدة، ما أحدث ثغرات داخلية نفذ منها اعداء الوحدة.
وفي الواقع فإن ما وصفت به وحدة 1958 من أنها وحدة "اندماجية" لم يكن حقيقياً، فهي لم تكن وحدة بل كانت دولتين في دولة ليس لها إلا وحدة العلم والاسم والقائد والتمثيل الخارجي، وفي ما عدا ذلك ظلت الدولتان قائمتين عملاً. ولم يتم طوال اكثر من ثلاث سنوات ونصف سنة تحقيق الاندماج الحقيقي بين القطرين، فتولدت ثغرة واسعة بين مدخل الوحدة الاندماجي المعلن وواقع التجزئة المستمر، استغله اعداء الوحدة وسهل مهمتهم الانفصالية، التي كشفت عن مدى ضعف البناء الوحدوي الذي اقيم وفقاً لنموذج الهرم المقلوب. لذا كانت مهمة الانفصاليين يسيرة، فنفضوا، في ساعة الصفر، الغبار عن العلم السوري، وأعادوا عزف نشيد "حماة الديار"، وأعلنوا قيام دولتهم.
التآمر الخارجي
لعب التآمر دوراً فاعلاً في تشجيع الانفصال مستغلاً ثغرات دولة الوحدة. وتلاقت مصالح الانفصاليين مع مصالح بعض الاطراف الإقليمية العربية وغير العربية، فضلاً عن سعي بعض القوى الدولية لاسقاط هذه الوحدة بأي ثمن.
فقد جاء ميلاد الجمهورية العربية تطبيقاً للمشروع القومي العربي القائم على الايديولوجية القومية في شكل رئيسي، والمبشر بتحقيق انجازات اجتماعية حقيقية ورفع رايات التحرر الوطني في العالم، والاقدام على تأميم الممتلكات الاجنبية وغير ذلك من توجهات وسياسات شكلت تهديداً حقيقياً للكثير من المصالح الدولية والانظمة العربية الموالية للغرب في ذلك الوقت. ولعب التحريض الخارجي الاقليمي والدولي دوره في دعم قوى الانفصال. وكشفت الوثائق البريطانية المفرج عنها أخيراً حجم هذا التآمر ومداه، من ذلك انه تم التخطيط لقيام اصدقاء الغرب من العرب فيها للتصدي لهذه الوحدة والنهوض بمسؤولية مواجهتها وامساك الولايات المتحدة وبريطانيا بخيوط التآمر من وراء ستار، حتى يبدو الصراع ضد الوحدة صراعاً اقليمياً بين الاطراف العربية المعنية. وفي هذا الاطار تم اعداد عراق - نوري السعيد العضو في حلف بغداد لمحاربة الوحدة بين مصر وسورية، والتلويح له بزعامة المنطقة العربية. وتم وضع مخطط مشترك يقضي بأن يبادر العراق باحتلال المناطق الشمالية الشرقية من سورية لإفساد مناخ الوحدة قبل قيامها ويعصف بها. ودعا جون فوستر دالاس نوري السعيد في توجيهات محددة، إلى القيام بهذا الغزو الذي سيحظى بدعم الولايات المتحدة وبريطانيا.
غير أن الولايات المتحدة وبريطانيا تراجعتا في اللحظة الاخيرة عن هذه الخطة لخشيتهما من أن تؤدي إلى تعزيز وضع عبدالناصر والوجود السوفياتي في المنطقة. وتم وضع خطة بديلة بأساليب أخرى كإعلان الاتحاد العراقي - الاردني في 14 شباط فبراير 1958 لمناوءة الوحدة السورية المصرية.
هذا العرض يقود الى مجموعة من الملاحظات للتأمل:
1- لم يكن العيب في فكرة الوحدة في حد ذاته وانما في التطبيق. اذ تم إعلان قيام الوحدة المصرية - السورية، من دون ان تكون أساليب التطبيق واضحة. وجاءت الممارسة العملية قاصرة. فبناء الكيان الوحدوي لا تكفيه العاطفة الجياشة، بل يحتاج إلى مراعاة توازن المصالح وزيادة فرصة تكاملها، وجعل هذه المصالح صيغة عملية يستشعرها الناس لتضمن سنداً شعبياً مؤازراً، ويلاحظ من مطالعة أدبيات الوحدة العربية والتكامل العربي أنها ظلت لفترة طويلة حافلة بدراسات التنظير إلى حد الافراط، وفي المقابل لم يكن هناك اهتمام كافٍ بالجوانب التطبيقية والعملية على اهميتها القصوى. غير أن فشل الوحدة المصرية - السورية وما تلاها من تداعيات جعل العرب يهتمون - في وقت متأخر - بالمدخل التكاملي الوظيفي المتدرج سواء من ناحية الفكر أو التطبيق.
2- أوضحت تجربة الوحدة خطأ أسلوب حرق المراحل. فبناء الوحدة أو التكامل لا يمكن أن يكون راسخاً إلا إذا قام مهندسو الوحدة أو التكامل بسبر غور الأرض العربية التي يراد البناء فوقها. ويبدو أننا حتى الآن لم نسبر غور مجتمعاتنا العربية في شكل كافٍ، وما زالت أفكارنا طوباوية تستدرج للبناء ليس في الواقع بل بدلاً من هذا الواقع، من دون ادراك كافٍ لخطورة ذلك وتداعياته على مجمل المصالح العربية الكلية.
3- سبّب انهيار دولة الوحدة عام 1961 ألماً نفسياً حاداً للرئيس جمال عبدالناصر، بعد كل ما شاهده من استقبالات شعبية اسطورية في سورية، ما دفعه لأن يكون اكثر تشدداً في الداخل والخارج. فأصدر مجموعة من القرارات الاشتراكية الراديكالية في مصر.
وفي الخارج اتخذ قراراً بإرسال قوات مصرية إلى اليمن عام 1962 لمساندة ثورة اليمن كرد فعل تعويضي سياسي على الانفصال. واستغلت إسرائيل الانغماس العسكري المصري في جبال اليمن، ثم تداعيات غلق خليج العقبة امام السفن الاسرائيلية، لتنفيذ مخططها، المعد سلفاً، لشن أحدى حروبها الموسمية. فقامت بالهجوم على مصر في 5/6/1967، الذي أسفر عما عرف ب"نكسة يونيو".
4- كان لدور التآمر الخارجي في انهيار الوحدة المصرية - السورية تأثيره القوي. هذا التآمر الذي استثمر ثغرات البناء الوحدوي والتناحر العربي - العربي واعتمد اسلوب التلاعب بالأنظمة العربية، وتحريض كل منهما على الآخر. واذا كانوا قد استندوا في أحد مخططاتهم على عراق - نوري السعيد، نجد أن المخطط الاميركي - بعد عقود تالية - يساند عراق - صدام في المواجهة مع ايران ثم يستدرجه لغزو الكويت مقابلة السفيرة جلاسبي الشهيرة مع الرئيس صدام. وما زال المسلسل مستمراً.
* مساعد وزير الخارجية المصري سابقاً، وسفير مصري سابق في دمشق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.