يشكل التراث السردي العربي معيناً لا تزال الاعمال السردية تمتح منه وتستوحيه، سواء على مستوى المضمون او اللغة او البنى الفنية. فعلى رغم مرور اكثر من احد عشر قرناً على ولادة "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة"، لا تزال هاتان القمتان في جغرافيا السرد العربي تشكلان مصدر إلهام وتأثير في المنتَج الروائي. وعلى رغم ان الرواية العربية كفن ادبي حديثة العهد نسبياً ولا تتجاوز في نشأتها بدايات القرن العشرين، فإن هذه النشأة المتأخرة للرواية لم تحل دون العودة قروناً الى الوراء والمتح من معين التراث السردي العربي، لا سيما بمعلَمَيْه البارزين "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة". وهذا ما يطالعنا في رواية "توبة وسليّ" المؤسسة العربية للدراسات والنشر - 2003 للكاتبة السعودية مها محمد الفيصل، فالحكايات الاسطورية التي تزخر بها الرواية، وتحويل النباتات الى شخصيات روائية، وتعدد الرواة، وتناسل الحكايات بعضها من بعض، وتداخل البنى الفنية، والاستشهاد وبالشعر، والمغامرات، وامتزاج الواقع بالخيال، كلها تومئ الى ان هذه الرواية هي بنت ذلك التراث، تنتمي اليه، ولكنها تتميز عنه، في الوقت نفسه، بلغتها وسردها وحوارها. ثمة مساران متداخلان يتخذهما السرد في الرواية، احدهما واقعي، والآخر اسطوري. والغريب ان بعض شخصيات الواقع قد تلتقي بعض شخصيات الاسطورة. وينجم عن هذين المسارين المتوازيين حيناً، المتداخلين حيناً آخر، اثر روائي مختلف، لا هو بالواقعي ولا بالأسطوري، بل هو مزيج من الاثنين. فعلى المسار الاول، تقول الرواية حكاية فارس آل رضوان الذي يخرجه حلم من بيته، في رحلة سندبادية طويلة، يواجه فيها كثيراً من المغامرات والاخطار، ويحدوه البحث عن شيء مفقود، ويقع احياناً على بعض المسرّات لا سيما في نهايات الرحلة. وهذه الشخصية تتقاطع مع شخصية السندباد في "ألف ليلة وليلة"، من حيث الرحلات والمغامرات، وتفترق عنها في غلبة الجانب الواقعي على الخيالي، ففارس يخرج من بيته إثر حلم يحذره من طول اجتراحه السيئات، وربما كان خروجه تكفيراً عن سيئات لم يرتكبها او طلباً لخلاص ما، تقوده خطاه الى مركب العطاء والقبطان مراد. وهناك يتعرّف الى سليّ الجارية التي تنسج سجادة تسجن فيها الاحياء. وهنا يختلط الواقع بالأسطورة، ويعثر في جيب ستار على كتاب أحمر يحتوي على مجموعة من الاساطير تشكل المسار الاسطوري في الرواية، تأخذه القراءة الى عوالم غريبة عجيبة او بينما هو مستغرق في تلك العوالم يدهم المركب قراصنة يسلبون فارس رداءه والكتاب فيه، ويرحلون. مدفوعاً بفضول متابعة القراءة، وبواجب اعادة الكتاب الى صاحبته سليّ التي لم تعرف باختفاء الكتاب، يقرر فارس النزول في المدينة بحثاً عن القراصنة. وبعد مروره على قصر السماء والاستماع الى حكايات سيدته التسعينية، يصل الى القرصان سفان الاعرج وينجح في استعادة الكتاب، ويقرر العودة به الى صاحبته. يمتطي بعيراً من الميناء قاصداً المدينة القريبة بحثاً عن القبطان، وفي الطريق يصادف رجلاً قوياً يدفن الجثث هو توبة بن علي الساطي الذي تحمل الرواية اسمه معطوفاً عليه اسم سليّ، يساعده على النهوض من اغماءة ألمّت به ويعلم منه فيما بعد سبب المعركة وصلة القتلى به، ثم تلقي مجموعة من اللئام القبض على فارس وينتهي به المطاف عاملاً في منجم للذهب مع العبيد. واذ يفر بمساعدة احدهم، يقوده قدره الى سلوان الرجل الزاهد الذي اعتزل الملك، فيحسن الى فارس ويعطيه عصا تحتوي على جوهرة يبيعها وتكون له تجارة تزدهر على الايام. وحين يعود الى سليّ ليعطيها الكتاب، يُفاجأ ان الكتاب عاد اليها ولا تزال تنسج سجادتها، ويكتشف ان ما بذله من جهد لا طائل تحته. هذه الحكاية يمتزج فيها الواقع بالأسطورة، وينفتح فيها المألوف على الغريب، فتختلط الحقيقة بالخيال، وتلعب الاقدار والمصادفات دوراً كبيراً في ربط الاحداث بعضها ببعض، وتنتهي فيها مغامرات فارس/ السندباد التي قام بها مختاراً او مضطراً الى نهاية سعيدة/ حزينة في آن يكتشف في نهايتها ان صروف الزمان "ما هي إلا أيام تمضي، وأحلام تفنى، وأجساد تبلى" ص204. ولعل حكاية فارس التي بدأت بحلم، واستمرت في مطاردة الاحلام ليكتشف فناء الاحلام في النهاية، تحيل على حياة الانسان في رحلته السندبادية عبر الزمان والمكان، وفي مواجهته الحلو والمر، وفي اتباعه قدراً مرسوماً له. تقول سليّ مخاطبة فارس حين عاد بالكتاب: "أحسبتَ انك خرجت من اجل كتاب؟ لا بل خروجك كان من اجل نفسك، وكلانا وجد ما كان مقسوماً له من غير زيادة ولا نقصان" ص189. واذا كانت احداث هذه الحكاية قابلة بمعظمها للحصول في عالم الواقع، فإن انواعاً اخرى من الحكايات تتفرع عنها لتشكل المسار الاسطوري في الرواية، ذاك الذي ينطوي عليه الكتاب الاحمر، وفقده فارس في هجوم القراصنة، وأمضى عمره في البحث عنه، حتى اذا ما عاد به وجد ان الكتاب سبقه الى العودة، وان الجهد الذي بذله ذهب هباء. فهل تريد الكاتبة ان تقول ان العمر ما هو الا مطاردة للأسطورة او ركض وراء الحلم حتى اذا ما وصل المطارد الراكض يكون الوقت قد فات؟ على اية حال، تشكل السجادة التي تسجن الاحياء رأس الخيط في المسار الاسطوري في الرواية، فمن تلك السجادة تطلع الوردة كل ليلة لتحكي لسارة البنت الصغيرة الحكايات التي يتوالد بعضها من بعض، ثم تطبق نفسها داخل السجادة لتكمل الحكاية في الليلة التالية. وهنا، تتقاطع الرواية، في نقاط عدة، مع "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة"، فالوردة/ الراوية تحيل الى "كليلة ودمنة" التي كان الحكي فيها يتم على ألسنة الحيوانات مع فارق انه يتم هنا على لسان النبات، وانفتاح الحكايات بعضها على بعض يستحضر البناء الفني في الكتاب نفسه. ومن جهة ثانية، فإن قيام الوردة بحكاية الحكايات كل ليلة الى سارة الطفلة ما يدغدغ خيالها وينمي طفولتها يتقاطع مع قيام شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" بالدور نفسه لترويض شهريار وشفائه من مرضه النفسي. وهكذا، فوظيفة الحكي في "توبة وسليّ" بنائية، فيما هي في "ألف ليلة وليلة" علاجية. مثل آخر على هذا التقاطع نقع عليه في حكاية "الملك الذي احب نفسه" التي تحكيها الوردة لسارة، فهذا الملك المغرور الذي يقيم عيداً سنوياً لنفسه، يأمر فيه ان تجمع الورود الكثيرة في مملكته لتلقى على رؤوس المحتفلين وتسقط على الارض فتدوسها الاقدام ويذوي الجمال ارضاء لغروره، انما يذكرنا بشهريار في "ألف ليلة وليلة" الذي كان يتخذ كل ليلة حسناء يتزوجها ويقتلها انتقاماً من بنات جنسها. هنا ملك يقتل الورد ارضاء لغروره، وهناك ملك يقتل النساء انتقاماً لشرفه. الفعل في الحالين واحد وان اختلف القتيل والدافع. والى هذه الحكاية، في الرواية اساطير اخرى تؤلف المسار الاسطوري فيها، ففتاة الشوك، والراعي الشاب، والعجوز الذي احب الصمت، هي بعض هذه الاساطير. غير ان الحكاية الاطول التي تنتظم الحكايات الاخرى هي حكاية الفتاة والراعي. فالراعي الذي يبحث عن دواء لحبيبته نوران يباشر رحلة اسطورية يلتقي خلالها بفتاة الشوك التي تسببت في مرض حبيبته وتسعى للتكفير عن ذنبها، وينطلقان معاً، هي تبحث عما يخلصها من ثوب الشوك الذي لزمها عقاباً لها، وهو يبحث عن الدواء. وتقودهما الرحلة عبر مجموعة من الاماكن والشخصيات الاسطورية، يمران ب: حقل البلور، سيدة الظلال، سيدة الاصوات، الواحة الغريبة، القرد صاحب الرحى، صاحب الموازين، بستان الكلمات، وصولاً الى البحيرة عاشقة القمر. وبنتيجة الرحلة، تموت الفتاة في بستان الكلمات حين تسقط ورقة رائعة الجمال من الجنة في حجرها فتنخطف معها، ويعود الراعي بعبق القمر وعبير الابصار دواء يمسح به جبهة حبيبته، فتشفى. واذا كان فارس هو سندباد المسار الواقعي في الرواية، فإن الراعي هو سندباد المسار الاسطوري الذي يواجه مغامرات كثيرة، غير ان اصراره على تحقيق هدفه يوصله الى الغاية المنشودة. ولعل المسار الاسطوري يقول، في جملة ما يقول، ان من مسار على الدرب وصل. وهنا، يتقاطع مسارا الرواية في الوصول الى نهاية "سعيدة" لبطليهما. بينما يفترقان في الاماكن والاسماء، ففي حين يبدو المكان الروائي في المسار الاول واقعياً مألوفاً، سواء كان ميناء او مدينة او مركباً او بحراً او قصراً او منجماً... فإن المكان الروائي في المسار الثاني اسطوري غرائبي كبستان الكلمات أو الكهف أو القلعة الغريبة أو البحيرة بين الجبال الشاهقة. وفي حين تطلق الكاتبة على شخصيات المسار الاول اسماء علم كفارس ومراد وسليّ وتوبة وسلوان وحسين... فإن اسماء المسار الثاني ليست اسماء علم كسيدة الظلال وسيدة الاصوات وصاحب الرحى وصاحب الموازين، ما يتناسب مع الفضاء الاسطوري. وبعيداً من الفصل النظري بين مساري الرواية، فإنهما يشتركان في: تعدد الرواة، انفتاح الحكايات بعضها على بعض، سلاسة اللغة، الاستشهاد بالشعر، المزج بين الواقع والاسطورة، المتح من التراث شكلاً ومضموناً، انسنة الاسطورة. وبهذا المشترك تكون الكاتبة قدمت لنا اثراً روائىاً يفرد بين ثناياه حيزاً واسعاً للمتعة والجمال كما يوسع للحكمة الانسانية سواء كان مصدرها الواقع او الاسطورة. وعليه، فرواية "توبة وسليّ" جديرة بالقراءة.