لا شك في ان حرب العراق احدثت ثورة جيو - سياسية في الشرق الاوسط، وان لم يكن لها مفعول الدومينو في احداث ثورات سياسية فعلية. فللمرة الاولى منذ نيل دول المنطقة استقلالها، تقتحم قوة خارجية دولة عربية، بينما بقية دول الجوار لا دور يذكر لها، واذا فعلت اعتبرت عائقاً امام التقدم السريع لخطط الحرب الاميركية. ولو ان الوضع الجيو - سياسي وقواعد اللعبة تغيرت بشكل جذري في الواقع، لكان على الابحاث الاكاديمية ذات التوجه السياسي ان تغير هي ايضاً مقارباتها ومواضيعها. نعتقد بداية ان الولاياتالمتحدة لن تغادر العراق في وقت قريب بغض النظر عن حجم المعارضة لوجودها العسكري فيه. واذا اثبتت هذه الفرضية خطأها، فيجب ان نتوقع هزات كبيرة في المنطقة وسياسات "حماية ذاتية" صارخة ينخرط فيها الأفرقاء كافة وتبدأ بالاكراد مطالبين بالاستقلال، ولا تنتهي بايران داعمة للخيار العسكري النووي او حتى اسرائيل مقدمة تنازلات في الاراضي المحتلة. اما في المقابل اذا كانت الفرضية صحيحة، فعلينا ان نتساءل عن العواقب القصيرة والمتوسطة الامد للوجود الاميركي الذي يجعل من القوة العسكرية الاميركية الاقوى في المنطقة ليس جواً وحسب وانما على الارض ايضاً. وبالتالي تصبح حسابات الموازين العسكرية التقليدية في الشرق الاوسط كالحسابات التفصيلية الصغيرة مثل تخيل الايرانيين في مواجهة المقاتلات السعودية، او السوريين في مواجهة الدبابات الاسرائيلية، مجرد حسابات تخطاها الزمن على الاقل من حيث عواملها المفسرة للعواقب السياسية. وقد تصبح قدرة الأفرقاء الاقليميين على الانخراط في اللعبة السياسية، اكبر بكثير من همهم في تدعيم ترسانتهم العسكرية. لفهم الحقائق الجيوسياسية وتحدياتها في الشرق الاوسط بعد الحرب على العراق، لا بد للابحاث الاكاديمية السياسية من ان تنظر في امور ثلاثة اهمها: السياسات القوية اقليمياً، المؤسسات الاقليمية، القوى الخارجية والانماط الاقليمية. في ما يلي سأحاول ان اشرح كل نقطة على حدة وتحديد ما يبدو انه مسائل بحث لا يمكن التغاضي عنها. غياب هيمنة اقليمية بالنظر الى التقسيم الهيكلي للسلطة في النظام الاقليمي، فرضيتنا هي انه في المستقبل المنظور، لن يظهر او يبقى اي طرف مهيمن اقليمياً او مناطقياً. فالدول القوية المحتملة ستفكر في الوجود الاميركي بدل اداء دور شرطي واشنطن في المنطقة. اما الدول الاصغر والاضعف فستتمكن من التعامل مع الولاياتالمتحدة مباشرة وربما على قدم المساواة مع القوى الوسطى في المنطقة. ففي العقود الماضية، كانت الدول الاصغر تفكر ملياً في رغبات القوى الاقليمية واعتباراتها قبل اتخاذ اي خطوة مهمة في السياسة المحلية او الخارجية. لكن خطوات مثل اعلان حاكم البحرين نفسه ملكاً، او اتخاذ سلطان عمان قراراً باقامة انتخابات عامة، او انشاء دبي منطقة "اعلام حرة" حيث يمكن للمستثمرين أياً كانوا ان يتمتعوا بالحرية الاعلامية، كل هذه الخطوات ما كانت لتتحقق لو أُخذت في الاعتبار الحساسيات الاقليمية جميعاً. اليوم اصبحت هذه الدول تنظر الى رد فعل واشنطن وليس الى اي عاصمة اقليمية قبل الاقدام على اي خطوة. وبدل ان تجعل الدول الصغيرة تتبعها، يبدو ان القيادات الاقليمية تراقب عن كثب تطورات السياسية الداخلية للدول المجاورة. والامر سيان بالنسبة الى مصر التي يبدو دورها محدوداً اكثر فأكثر. فالقاهرة لن تضطلع بأي دور ريادي في امور الخليج الامنية، وتفضل عوضاً عن ذلك ان تكون مفيدة في جوارها القريب، اي ان تكون وسيطاً بين الاسرائيليين والفلسطينيين او حتى بين الفصائل الفلسطينية المختلفة. اما سيطرة سورية على لبنان، فمسألة وقت لا اكثر، وذلك بسبب الضغوط الاميركية والفرنسية من جهة، ولأن الاسباب التي تضفي شرعية للوجود السوري في لبنان كالحرب الاهلية والمواجهة مع اسرائيل، ما عادت مقبولة محلياً ودولياً. واذا غاب عنصر الهيمنة الاقليمية والمحلية، سيتوجب على البحث الاكاديمي السياسي ان يسأل عن نتائج التعاون الاقليمي، نظراً الى التبعات السلبية التي يتركها السعي الى الهمينة على التعاون السياسي والاقتصادي في المنطقة. وهذا السعي ليس المسؤول الوحيد عن فشل محاولات عدة لمأسسة العلاقات العربية وتأطير التعاون الاقتصادي، لكنها من دون شك عنصر مهم جداً في هذا الفشل. توجّهات مؤسساتية جديدة بدت جامعة الدول العربية غير معنّية بالاحداث الجارية، وعلى رغم ذلك، بقيت على قيد الحياة. أتت الحرب على العراق والفترة اللاحقة، لتقلّصا أكثر فأكثر شرعية الجامعة والاهمية التي توليها لها الدول الاعضاء. بالنسبة الى توقعات ظهور مؤسسات اقليمية، يتجلّى لنا جيداً انبعاث منظمات اقليمية جديدة أو منظمات فرعية ينحصر هدفها في المصلحة المشتركة العملانية بدلاً من القومية وتضع نصب عينيها أهدافاً تقتصر على المكان والفعالية والوقت بدلاً من "المهمة الابدية". يمثل جيران العراق مثالاً على ذلك، فقد قام ممثلوهم الذين يضمون الدول العربية وغير العربية ايران وتركيا المحاذية للعراق، اضافة الى مصر، بالجلوس الى الطاولة مرات عدة ناشدين هدفاً محدوداً لكن محسوساً وهو التباحث في مسألة تنسيق الساسيات في ما يتعلق بالحرب الدائرة في العراق أولاً، ولاحقاً بنتائجها الاقليمية ووضع العراق الجديد في ظل الاحتلال الاميركي. يظهر سؤال واحد ينبغي عرضه على بساط البحث، وهو احتمال أن يتطوّر تجمع مماثل ليصبح نواة بنية فرعية أكثر استمرارية تابعة لمنظمة اقليمية للامن والتعاون على غرار لجنة الامن والتعاون في اوروبا/ ومنظمة الامن والتعاون الاوروبية مع احتمال مشاركة الفاعلين الدوليين الذين يشكلون رباعية الشرق الاوسط الولاياتالمتحدة، الاتحاد الاوروبي، روسيا، الاممالمتحدة. كما أنه من المرجّح أن تطرأ تغيرات ايضاً تمسّ مجلس التعاون الخليجي، فاليمن والعراق يدقّان ابوابه، بل أهم من ذلك أنّه ينبغي اعادة النظر في هذه المنظمة التي هدفت اساساً الى تعزيز النظام الملكي الخليجي ضد التهديدات التي تشكلها ايرانوالعراق. كما أنّ تجمّعاً فرعياً توحّده المصالح المشتركة قد يتشكّل من تلك الدول العربية التي تتشارك مصالح رئيسة في الصراع العربي - الاسرائيلي وهذا مثال آخر. حالياً، تتشكّل نواتان لتجمع مماثل هما: أولاً، ما يسمّى باللجنة التابعة لجامعة الدول العربية التي تتألف بشكل رئيسي من مصر والمغرب والسعودية وسورية التي أبصرت النور لمتابعة تطبيق خطة السلام العربية التي تم اعتمادها في القمة العربية التي عقدت في بيروت عام 2002. ثانياً، مجموعة الدول التي اختارتها الولاياتالمتحدة مصر، الاردن، المغرب، السعودية، البحرين، السلطة الفلسطينية وقد اجتمع ممثلوها بالرئيس الاميركي جورج بوش في قمة شرم الشيخ التي عقدت في حزيران يوينو 2003. لن تفضيَ حداثة اطر العمل هذه الى شيء افضل مّما يوجد أصلاً. وفي الواقع، ينبغي أن يركّز البحث في توجيه السياسة الى الفرص والعوائق التي تقف امام هذه التجمعات وتحول دون تطوّرها الى عناصر دائمة لبنية امنية اقليمية واداة تسهم في الوقاية من الازمات وحلّها، والى صلة وصل بين القوى العالمية المحرّكة وتطور المؤسسات الاقليمية. القوى الخارجية والهندسات الاقليمية على صعيد النقاش حول السياسة الدولية في اعقاب الحرب على العراق، بات هناك حديث واسع حول "اعادة صنع" و"اعادة تشكيل" و"اعادة تنظيم" الشرق الاوسط. هذه هي الحال على رغم مصاعب الولاياتالمتحدة وحلفائها في العراق. وداخل هذا النقاش، تشمل المطالبة بدمقرطة "الشرق الاوسط الكبير" اجندتي دوائر المحافظين الجدد والليبراليين الاميركيين، ويراها الفريق الاول اميركية فيما يعتبرها الثاني اطلسية. على الاكاديميين ان يسألوا على الاقل، كيف يصل مثل هذا النمط الى المنطقة؟ اي ما هي الاشارات التي يتلقاها اللاعبون الاجتماعيون في المنطقة من خلال هذا النقاش؟ وما هي ردود الفعل التي ينتجها النقاش في المجتمعات الشرق اوسطية؟ وعلى رغم هذا يبدو ان هناك مفارقة مهمة بين الاصرار على هذا النقاش والحاجة الى "فرض النظام" في المنطقة، والنقص في الافكار حول الادوات المناسبة او الاساليب المقاربات الجديدة والعملية من اجل المضي قدماً في تنفيذ مثل هذه الاهداف. وتبدو المادة السهلة في استراتيجية الادارة الاميركية في الشرق الاوسط، اي ما يسمى بمبادرة الشراكة في الشرق الاوسط، كأنها نسخة من مشروع برشلونة بقيادة الاتحاد الاوروبي او الشراكة الاوروبية - الشرق اوسطية، ولكن مع امتداد جغرافي اوسع وموارد مالية اقل. يتمثل طرحنا في ان اللاعبين الاقليميين سيبقون جاهزين لتهميش مشاريع وتصاميم كبيرة يخطط لها لاعبون خارج المنطقة. ويعود السبب في ذلك الى ان اللاعبين الاقليميين، بغض النظر عن ميولهم في السياسة الخارجية او اعتمادهم على قوى خارجية، يمنحون مصالحهم الخاصة اهمية اكبر من مسائل النظام العالمي، وهم مجهزون ايضاً لتحمّل خسائر اكبر من اللاعبين الخارجيين من اجل الدفاع عن مصالحهم المركزة اقليمياً. ووفقاً للمنطق ذاته، قد تعطي التطورات في مرحلة ما بعد الحرب في العراق دليلاً جديداً الى ما شدد عليه ليونارد بايندر في مقال نشر قبل 45 عاماً، وهو ان القوة المفروضة على منطقة من الخارج س"تُحطم" من جانب ديناميكية النظام شبه الاقليمي. وفي عبارات اخرى، لا يُمكن تأكيد السيطرة في النظام العالمي عندما يتعلق الامر بمسألة النظام الاقليمي. وحتى القوة العسكرية المتفوقة، كما هي الحال في العراق، قد لا تترجم الى قوة في منطق ويبيري ماكس ويبير، اي الى القدرة على حمل الارادة على التفوق حتى على المقاومة. درس الكثير من الباحثين بالنسبة الى الشرق الاوسط الكيفية التي يهزم فيها لاعبون اقليميون تصاميم قوى خارجية داخل نظامهم الخاص. كان باحثون اكاديميون مثل ل. كارل براون وغيره اثناء الحرب الباردة فسروا في شكل عام هذه الظاهرة بالاعتماد على قدرة اللاعبين الاقليميين على ابعاد القوى الخارجية عبر زجها في صراعات مع بعضها بعضاً وسحبها نحو صراعات اقليمية مخالفة لمصالحها. وفيما الاتحاد الاوروبي والولاياتالمتحدة لن يمنحا اللاعبين الاقليميين فرصاً عدة لابعادهما، فإنهم سيحاولون على الارجح جر اي من هذين اللاعبين الى الاصطفاف الى جانبهم في صراعات اقليمية او محلية في مواجهة قوى اخرى روسيا واليابان او قوى في العالم الثالث مثل الصين والهند. وقد تتوافر مثل هذه الفرص في اطار ما يسمى بالحرب العالمية على الارهاب. وعدا عن درس الآلية التي ستُقاوم بموجبها او تُهمش، محلياً واقليمياً، التصاميم الدولية للشرق الاوسط، على الابحاث السياسية ان تركز في فرص ووسائل تدخلات بناءة لقوى العالم الثالث، سواء كان ذلك في الصراع العربي - الاسرائيلي أم في صراعات داخلية مثل تلك في السودان والجزائر، او على صعيد اقليمي في مسائل الحد من التسلح والانظمة الامنية. ولن يركز مثل هذا البحث في التعاون فقط، ولكن سيتم باسلوب متعاون ليشمل باحثين شرق اوسطيين واوروبيين واميركيين. وستشمل الاهلية المكتسبة باتباع هذا الاسلوب الجانب العلمي الى جانب السياسات. السيكولوجيا السياسية لثورة جيوسياسية وأخيراً، سيكون على هذا البحث ان ينظر في الروابط بين التغيير الجيوسياسي والديناميكية الاجتماعية، وخصوصاً يجب درس وتمحيص التأثيرات النفسية والسياسية للحرب على العراق. وعلى صعيد عالمي، يمكن مقارنة سقوط النظام السابق في بغداد بانهيار جدار برلين. ويكمن الفارق الرئيسي في ان جدار برلين والانظمة الشيوعية في وسط اوروبا وشرقها اسقطها الناس في تلك البلاد، في حين تخلص جيش اجنبي من تماثيل صدام حسين ونظامه. ولم يتضح الى الآن ماذا سيعني هذا بالنسبة الى الثقافة السياسية والنفسية في العراق خصوصاً والدول العربية عموماً. ولكن، من الواضح ان تأثيره سيكون عميقاً. * اختصاصي ألماني في شؤون الشرق الأوسط.