في عرض للأزياء أقيم في برشلونة، رفضت لورين بوش عارضة الأزياء وابنة شقيق الرئيس الأميركي جورج بوش، ارتداء أزياء ذات ملامح عربية. وبررت العارضة رفضها بقولها: "إنها أزياء عربية للغاية"، الأمر الذي دفع بمصمم الأزياء جورج جالينان إلى المطالبة علناً بعدم تسييس عروض الأزياء... إلا ان "تسييس الأزياء" ليس بالأمر الحديث، أو ظاهرة فرضتها سياسة العولمة أو صراع الحضارات. فتداخل الأزياء بالسياسة ظاهرة قديمة تعود إلى العهود الأولى لنشوء الموضة، في وقت بدأ فيه اللباس يحمل أبعاداً نفسية واجتماعية واقتصادية. ويجمع العلماء على ان اللباس لم يأت في الأصل وليد حاجة إنسانية للحماية من العوامل الطبيعية أو لستر الأجساد، وإنما لأسباب تتعلق بالزينة. خرجت الأزياء من مفهوم الإثارة الضيق، ولفت الانتباه، لتشكل أداة تعبير عن وضع الفرد النفسي ومزاجه، وأداة تشير إلى مكانته الاجتماعية. تطور الأزياء جعلها تحمل دلالات عدة، وتكوّن علاقة متينة بمفهوم الإنسانية، وتتأثر بثقافات الشعوب وتطورها. كل تلك العوامل تدفع إلى تصنيف الملابس كواحدة من ابرز العناصر المعبرة عن تكوين المجتمعات وإحدى أهم علامات التطور أو التخلف فيها. وعليه، باتت الأزياء بمثابة وسيلة تواصل لا تقل أهمية عن الرسائل التي تخرج من الكلمات والإشارات والحركات... اكتسبت وظيفة الأزياء الجديدة أيضا بعداً سياسياً. فشكلت مرآة تعكس دور الفرد في المجتمع، وأحد أهم العوامل التي ترتبط بهويته وثقافته ومعتقداته. كما تلعب دوراً في تحديد دوره ووظيفته في المجتمع، والواجبات المطلوبة منه: ألوان ثياب الشرطي القاتمة تعكس دور الشرطة والمسؤولية الملقاة على عاتقها، وثوب الممرضة الأبيض يعكس أهمية المهنة ونبلها... وأفرز تطور الأزياء معادلة جديدة: قل لي ماذا تلبس، أقل لك من أنت. و"من أنت" ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلطة التي يملكها الفرد، والسياسة التي يتخذها هذا المجتمع أو الأيديولوجية التي تعتنقها تلك الفئة، أو النظام السياسي التي تختاره تلك الدولة. فتأخذ السياسة الملابس وسيلة تعبّر فيها عن موقفها تجاه قضايا معينة، فتفعل الرسالة أحيانا كثيرة فعلا اكبر من الخطابات السياسية والتظاهرات وردود الفعل الدولية... حينما خرج غاندي من السجن في أيار مايو 1931 قاد حملة مقاطعة الملابس الأجنبية من أجل تحرير الاقتصاد الوطني. وخصص أربع ساعات يومياً لينسج بنفسه قماشاً على مغزل يدويليقتدي به الناس، ويستخدموا القماش البسيط المغزول داخل البلاد وبأيدي أبنائها بدلاً من شرائهم القماش البريطاني الذي أودى بحياة صناعة النسيج في الهند. وبالفعل جاء الهنود والأغنياء والتجار بما كان لديهم من المنسوجات المستوردة من الخارج. وبطبيعة الحال لم يكن غاندي يقصد بذلك أن الهنود بمقدورهم أن يفقروا المستعمر ويحطموا اقتصاده إن قاطعوا بضائعه، وإنما كانت المقاطعة بالنسبة إليه عملاً رمزياً يشير إلى امتلاك الهنود للإرادة والعزيمة. وهكذا دارت مغازل القطن اليدوية في كل بيت وقرية ومدينة على امتداد مساحة الهند، لتوفر البديل للمنتجات الأجنبية. وكانت المحصلة أن اكتسبت الملابس بعداً سياسياً جديداً. تاريخ الشعوب والأمم، والتغيرات التي طرأت على بعض الدول، حافلة بالشواهد التي تؤكد مدى ارتباط الملابس بالسياسة والدور الذي يمكن ان تلعبه، إما كمعارض أو كداعم أو كعنصر تغيير أساسي. حينما وصل كمال اتاتورك إلى السلطة في تركيا في مطلع القرن الماضي، أراد ان يعصرن بلده ويدخلها "الحضارة". وأول خطوة أقدم عليها كانت اللباس، فاستورد الطاقية بدلا من الطربوش والبنطال بدلاً من "الشروال". أما في بلاد الصين، فارتأت الدولة في تلك الأيام ان الثورة، كي يكتمل مفعولها، لا بد من ان يرتدي المواطنون لبسا موحداً مؤلفاً من بنطال وسترة كالتي يلبسها ماو تسي تونغ. وأيضاً كوريا كانت ثورتها تفضل اللباس الموّحد لإخفاء الفوارق الطبقية وتحقيق المساواة الاجتماعية. ولما كانت الثورة الشيوعية اصطفت اللون الأحمر رمزا وأطلقته على اسم جيشها، حرص أنصار الشيوعيين في بلادنا على ارتداء ربطات عنق حمراء معلنين عبر لباسهم انتمائهم لتلك العقيدة وذلك النظام. كثيرة هي المعايير التي تدفع بالطالب والطالبة اليوم إلى اختيار نوع معين من اللباس، ويلعب الانتماء السياسي دوراً كبيراً في اختيارهم. فالكوفية السوداء والبيضاء ارتبطت لدى الكثيرين من الشباب بالانتفاضة الفلسطينية، واختارها الكثيرون منهم، أداة بسيطة يعبرون فيها عن سخطهم ضد الاحتلال، أو قطعة إكسسوار يؤكدون فيها، على فعاليتها المحدودة، دعمهم للقضية الفلسطينية. تجدر الإشارة إلى ان الأزياء الجديدة التي تفرض نفسها على دور أزياء الأطفال والمراهقين - وهي أزياء تحاكي إلى حد كبير ملابس الكبار - تفترض ايضاً بعداً سياسياً. وما الهدف منها إلا توليد شعور بالنضج لدى الأطفال والمراهقين، تجعلهم يطالبون بالحرية الفردية حسب القيم الأميركية وسياستها الرأسمالية. وتأخذ الملابس في بعض الأحيان بعداً قومياً، وهذا ما دفع بعض طالبات المغرب إلى التأثر بمواطنتهم الفنانة نعيمة سميح التي تحرص في الغالب على ارتداء اللباس التقليدي المغربي. في الجهة المقابلة، يكتسب عدم مجاراة الموضة أيضاً بعداً سياسياً... فنابليون مثلاً حرص عند تطبيق النظام الجديد على إبقاء الملابس التقليدية دلالة على ارتباط نظامه بالأصالة وعظمتها. كما ان اللباس التراثي التقليدي الذي ترتديه ملكة بريطانيا لدى تتويجها شأنها في ذلك شأن معظم الملوك والملكات في المناسبات الرسمية، يعتبر دلالة على تمسكها بنظام حكم بلادها وتقاليد العرش. هذا فضلاً عن كون الملابس التي يرتديها مناهضو العولمة مثلاً، تعتبر أداة يعبرون من خلالها عن موقفهم المعادي للنموذج الذي تفرضه الانظمة الاستهلاكية السائدة.