تلقى مبادرة جنيف التي أطلقها يوسي بيلين وياسر عبد ربه الاهتمام الدولي لاستيضاح معالم حل الدولتين في النزاع الفلسطيني الاسرائيلي، فيما بدأ حديث ملفت داخل الأوساط اليهودية، يكسر في جزء منه محرمات التحدث عن دولة فلسطينية اسرائيلية ديموقراطية تحل مكان اسرائيل كدولة يهودية. ويتناول الجزء الآخر منه مسببات الكراهية لليهود في معظم أنحاء العالم وكون فورة العداء للسامية عنصرية محضة أو ان احد أهم أسبابها السياسة الاسرائيلية. في الوقت ذاته، يدور حديث وطني من نوع آخر بين اليهود داخل اسرائيل وخارجها، فحواه ان امام استحالة حل الدولتين واستحالة دولة واحدة ذات قوميتين، لا مفر من الخيار الثالث وهو الدولة الواحدة ذات القومية الواحدة، لا تهددها التوقعات الديموغرافية أو الديموقراطية، دولة تقتضي مصلحتها ان تكون يهودية صرفة خالية من أي فلسطيني. الخروج من الركود ومن الاكتفاء بالتفرج عن المأساة الفلسطينية الاسرائيلية أمر جيد. والحوار الدائر في الساحات العربية والاسرائيلية والدولية قد يخرج بجديد غير معتاد في الملف العربي الاسرائيلي. هناك بعض احياء للأمل بحل تفاوضي سلمي في الآونة الأخيرة. انما هناك قدر أكبر من التشاؤم بمثل هذا الحل نتيجة خيبة الأمل بالمبادرات السلمية واعتبار القاعدة الشعبية لها بدعاً تحايلت على التفاؤل. فالحلول الخلاقة تغامر بالتحول الى مجرد بدع، عندما تتصادم الوعود الزاهرة بالواقع في منطقة الشرق الأوسط. المبادرة التي تفاوض عليها بيلين وعبد ربه والتي تصورت قيام دولتين يمكن لها ان تتجنب سقوطها الى مجرد بدعة فقط، اذا أسفرت عن قيام أول حزب اسرائيلي فلسطيني له برنامج واضح يهزم المتطرفين. فالعبء يقع على القاعدتين الشعبيتين الاسرائيلية والفلسطينية، إذ ان كلا منهما تجنب الحسم في الخيارات. تارة يدعي التعلق بحل الدولتين، وتارة يمكّن عملياً تيارات التطرف الرافضة قطعاً لهذا الحل. محتوى وثيقة جنيف ليس مهماً. المهم هو ان هذه المبادرة تتحدى القاعدتين الفلسطينية والاسرائيلية الى ايضاح مواقفها الحقيقية من حل الدولتين. تفاصيل فحوى الوثيقة مليئة بالافتراضات الخطيرة، أبرزها، الاقتراح بأن على 6.3 مليون لاجئ فلسطيني التخلي عن حق العودة في الوقت الذي يعطى 75 في المئة من المستوطنين الاسرائيليين حق البقاء في الأراضي الفلسطينية تحت حماية اسرائيلية. لو وافق الفلسطينيون على الغاء حق العودة، لكان أقل ما يمكن أن يتوقعوه هو الغاء حق البقاء للمستوطنين في المستعمرات. مثل هذه المعادلة ليست سوى مثال واحد على أخطاء كبيرة في وثيقة جنيف. وعلى رغم ذلك، ان المبادرة تمتحن الفلسطينيين والاسرائيليين الذين يزعمون أنهم يدعمون حل الدولتين. فليس واضحاً ان كان هؤلاء أقلية أو أكثرية. كلامهم غزير، انما أفعالهم تناقض مزاعمهم في كثير من الأحيان المعارضون لحل الدولتين هم المتطرفون في المعسكرين: الحكومة الاسرائيلية التي يرأسها ارييل شارون والفصائل الفلسطينية التي ترفض قيام دولة فلسطين على أساس حدود 1967، أي على مجرد 22 في المئة من مساحة فلسطين تحت الانتداب. كلاهما يعارض وثيقة جنيف. كلاهما لم يتقدم بمشروع بديل عن حل الدولتين. وليس لدى أي منهما برنامج للتعايش. كل منهما يخدم الآخر ويحتاج الى الآخر في مسيرته ضد الحلول السلمية السياسية. ولكل منهما قاعدة شعبية هائلة لا يستهان بها. ما يسمى بالمعتدلين ينقسمون الى فئات. منها فئة سئمت وعود التسوية السلمية من مؤتمر مدريد، الى عملية أوسلو، الى جهود بيل كلينتون في كامب ديفيد، الى مفاوضات طابا. والآن، خريطة الطريق ووثيقة جنيف غير الرسمية. وهذه الفئة باتت لا تثق بالعمليات السلمية. في هذا المنعطف بالذات، يبدو وعد حل الدولتين مجرد بدعة تحايل لكثيرين. فالأمل والثقة بمثل هذا الحل يزولان مما يعزز الخوف من تحرك الطرفين نحو حل الدولة ذات القومية الواحدة المستبعدة لقومية أخرى فيها. فليس واضحاً كم من الاسرائيليين يعارض فكرة طرد الفلسطينيين في عملية "ترانسفير" لضمان بقاء واستمرار دولة اسرائيل كدولة يهودية. الواضح ان حل "الترانسفير"، منطقياً، هو الحل الثالث للمعارضين لحل الدولتين وحل الدولة الديموقراطية الفلسطينية الاسرائيلية. وفي الأحاديث القومية اليهودية على نسق "ما بيننا"، ليس مستبعداً الخيار الثالث، علماً ان الخوف عميق من البعد الديموغرافي الذي يهدد الأكثرية اليهودية داخل اسرائيل، وان اسرائيل غير قادرة على ان تصبح دولة ديموقراطية مع الاحتفاظ بهويتها كدولة يهودية. والحديث القومي العربي على نسق "بين بعضنا" بدوره ليس أقل بغضاً لليهود من حديث البغض اليهودي للفلسطينيين والعرب. فمساحة التعايش تضيق في النفوس العربية. وهناك اقتناع ضمني بأن اسرائيل ستزول بصورة أو بأخرى، ديموغرافياً أو تقوقعاً أو بسحر ما. هناك أيضاً من يعارض قطعاً التفاوض السلمي باعتباره يشكل انقاذاً لشارون وحماية للاسرائيليين واليهود من ضيق العالم بهم، نتيجة الممارسات الاسرائيلية القمعية. وهناك من هو مقتنع بأن العمليات الانتحارية وحدها هي التي ستؤدي الى نتيجة وليس المفاوضات. هذا حديث قومي دائر في البيوت المغلقة، العربية واليهودية، في أكثر من مكان. لكنه ليس الحديث الوحيد. فهناك فئة عربية ويهود تتوق الى انهاء النزاع العربي الاسرائيلي الذي ارتهن حاضرها ومستقبلها وحولها الى كائن غير طبيعي. جزء منها فقد الأمل بحل الدولتين وبدأ يتوجه الى حل دولة القوميتين الفلسطينية الاسرائيلية. في الآونة الأخيرة، تزايد عدد المثقفين والأكاديميين اليهود والمسؤولين السابقين الاسرائيليين الذين كسروا حلقة "المحرمات" وبدأوا البحث العلني في ما كان يسمى "غير وارد حتى في الخاطر". هذا الممنوع حتى في الخواطر هو امكان، أو ضرورة، استبدال الدولة اليهودية بدولة القوميتين الواحدة. قبل ذلك، ومن جهة الفلسطينيين، تمسك الراحل ادوارد سعيد بحل الدولة الواحدة ذات القوميتين لسنوات عدة وعارض دائماً حل الدولتين. وفي الفترة الأخيرة كتب عدد من العرب ان حل الدولتين فات عهده بعدما اثبت فشله، أو افشاله، وان الحل السلمي الوحيد هو الدولة الديموقراطية ذات القوميتين، اذ ان الخيار الثالث، خيار تدمير أو اقصاء الآخر، خيار استهلاك وهلاك. الشهر الماضي، كتب ادوارد روشتاين في صحيفة "نيويورك تايمز" ملخصاً لمواقف يهودية مهمة في مسألة الدولة الواحدة ذات القوميتين. أشار إلى المؤرخ المميز توني جادت، الذي أعلن في صفحات "نيويورك ريفيو اوف بوكس" أنه حان الوقت للتفكير بالممنوع في الخواطر، مقترحاً أن "لا مكان في عالم اليوم لدولة يهودية"، وان الصهيونية الآن باتت "عقيدة عدم التسامح والعداء". مقالته أدت بعدد من الأساتذة في الجامعات الأميركية إلى إلغاء الاشتراكات في المجلة، لكن الكاتب الإسرائيلي أموس ايلون مدح المؤرخ جادت واعتبر اقتراحه "فوق المهاترات". عدد من اليساريين الإسرائيليين وافق وزاد. هاييم هانبغي قال إن "لا مجال لبقاء دولة يهودية الآن"، وميرون بنغنتسي قال: "لقد انتهت الثورة الصهيونية"، رئيس البرلمان الإسرائيلي السابق ابراهام بورغ كتب ان "الثورة الصهيونية ماتت، وان إسرائيل يخنقها الفساد وأصبحت ركينة الاضطهاد واللاعدالة". غلاف مجلة "نيويورك" الشهيرة حمل هذا الأسبوع عنواناً ملفتاً: "الوجه الجديد للعداء للسامية"، وعنواناً آخر: "في معظم العالم، أصبحت الكراهية لليهود سراطاً مستقيماً سياسياً، فكيف حدث ذلك؟". استهل الكاتب كريغ هوروتز، المقال المطوّل بالاشارة إلى اجتماع لحوالى 400 شخص يمثل "رابطة منع التشهير" باليهود، تحدث فيه جون اشكروفت وتوماس فريدمان والسفير الإسرائيلي دان غيلرمان. وصف فيه رئيس الرابطة ابراهام فوكسمان "الخطر" على سلامة الشعب اليهودي وأمنه، بأنه "عظيم، بل أعظم مما واجهناه في الثلاثينات"، في اشارة إلى المحرقة. أسباب الكراهية، كما جاء في المقال، تدخل في خانة "اللاسامية"، لكن، "اللاسامية الجديدة" ذات علاقة بالسياسات الإسرائيلية وبمعاملة ارييل شارون للفلسطينيين. جورج سوروس أثار الغضب عندما لام سياسات جورج دبليو بوش وارييل شارون على ارتفاع نسبة "اللاسامية". والبروفسور زئيف سترنهل قال: "من دون شك، ان الاحتلال وسياساتنا ومعاملتنا للفلسطينيين جزء لا يتجزأ من عودة اللاسامية". بالطبع، هناك من يعارض قطعاً هذه المواقف، ويعتبر العداء "عداء لمجرد وجود إسرائيل" مثل مالكولم هونلاين ومورث زكرمان. لكن تحول الرأي العام العالمي مع الفلسطينيين وضد الدولة اليهودية أثار الهلع... وأثار الحوار والاختلاف. هناك فئة تعتقد بأن "تغيير الصورة" كافٍ لوضع حد لما تعتبره انتصاراً فلسطينياً موقتاً في "حرب الانطباع". فئة أخرى ترى أنه حان الوقت لليهود الأميركيين أن يتوقفوا عن سياسة الدعم الأعمى لأية سياسة إسرائيلية، لأن في ذلك هزيمة لإسرائيل. هناك من يتمسك ويعمل بإصرار على تمكين إسرائيل من الحل الثالث، أي تنفيذ استراتيجية "الترانسفير". وما زالت هناك فئة تؤمن بإمكان احياء حل الدولتين، ثم هناك فئة الإقرار بأن لا حل سلمياً سوى حل الدولة الفلسطينية - الإسرائيلية الديموقراطية - دولة القوميتين. القاسم المشترك بين دعاة حل الدولتين ودعاة حل دولة القوميتين هو الحل السلمي والتعايش. وفي هذا انهما في تعارض تام مع متبني الحل الثالث. إنما الكلام عن صيغة دولة القوميتين يتعارض بوضوح من حيث الفحوى والخيار مع الكلام عن صيغة الدولتين الذي تدعو إليه وثيقة جنيف. ما من شأنه أن يقطع شوطاً مهماً ويسجل اختراقاً هو قيام أصحاب مبادرة جنيف، وزير العدل الإسرائيلي السابق يوسي بيلين، ووزير الإعلام الفلسطيني السابق ياسر عبدربه، بتشكيل حزب إسرائيلي - فلسطيني ببرنامج حل الدولتين. كذلك ان أصحاب فكرة دولة القوميتين سيقدمون مساهمة مهمة لو قاموا بتنظيم حزب أو حركة لامتحان، أو لحشد الدعم، لفكرتهم. فعليهما يقع امتحان القاعدتين الشعبيتين الإسرائيلية والفلسطينية، وكذلك الرأي العام الأميركي، بصورة تتعدى حملة العلاقات العامة والمبادرات الخلاقة الحذقة. فالرأي العام الفلسطيني والإسرائيلي والأميركي في حاجة لأن يفهم أن الشعوب الثلاثة ستدفع الثمن إذا سمحت للخيار الثالث أن يصبح واقعاً. وسيصبح، ما لم تتحول المعارضة له، إلى معارضة منظمة وجدية بدل التحايل عليها.