احتضنت العاصمة التونسية نهاية الأسبوع المنقضي قمة بلدان غرب المتوسط العشرة. وكان منتظراً أن تعالج هذه القمة ما تواجهه الشراكة الأورو - متوسطية من عقبات وان تفتح أفقاً جديداً لها، لكن النتائج التي ركزت على الأبعاد الأمنية جاءت مخيبة للآمال. فمن أهم المكاسب التي تحسب لهذه الشراكة ما تحقق في دول جنوب المتوسط من استقرار للتوازنات الاقتصادية الكبرى حصر عجز موازنة الدولة والعجز الجاري ومتوسط ارتفاع الاسعار في حدود مقبولة والضغط على المديونية الخارجية وتحقيق درجة من التنوع في الصادرات وتعديل العجز التجاري بمداخيل السياحة والهجرة. ورصد الاتحاد الأوروبي من اجل ذلك تمويلات في إطار ما عرف بمشروع "ميدا" دفعت في شكل إعانات مباشرة لموازنة الدولة أو في إطار مشاريع ميدانية تهدف إلى دعم سياسة الإصلاح الهيكلي وتشجيع التخصيص وتأهيل المؤسسات أو إلى تحديث التشريعات وتحسين البنية التحتية خصوصاً في ميدان الاتصالات بما يرسي مناخاً مواتياً لنشاط القطاع الخاص والمنافسة والانفتاح على السوق الخارجية. ويلاحظ أن تونس حظيت بقسط من التمويل 14 في المئة من المجموع يفوق حصتها أربعة في المئة من عدد سكان البلدان المرشحة للدعم. وبفضل هذه الحصة وما تلقته من إعانات من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تعد تونس إلى جانب الأردن من أكثر بلدان جنوب المتوسط نجاحا في تحقيق استقرار التوازنات الكبرى للاقتصاد وتنوع صادراتها. وبغض النظر عما يلاحظ من شح في التمويل الأوروبي قياساً بما يصرف لبلدان شرق أوروبا المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي ومن تقطير في الدفع إذ لم يصرف إلى حد الآن سوى نصف الأموال المرصودة أو اقل من ذلك، فإن ما تحقق من استقرار للتوازنات الاقتصادية الكبرى ومن مناخ موات لنشاط القطاع الخاص لم يجلب ما كان منتظرا من استثمار خارجي، بل أن حصة بلدان جنوب المتوسط من الاستثمار العالمي ومن الاستثمار الأوروبي على حد سواء تراجعت خلال السنوات الخمس الأخيرة أي منذ انطلاق مسار برشلونة. وتعد السنوات الخمس عشرة المقبلة مليئة بالأخطار والتحديات بالنسبة إلى بلدان جنوب المتوسط، إذ يقدر عدد سكانها الذين لم يبلغوا سن الخامسة عشرة بثمانين مليون نسمة، ما يجبرها، في المدة نفسها، على إيجاد 34 مليون فرصة عمل للحفاظ على المستوى الحالي للبطالة، وأكثر من 53 مليون فرصة عمل إذا أرادت اللحاق بمعدل التشغيل في دول الاتحاد الأوروبي. إلى ذلك تعاني هذه البلدان من مشكلة الفقر، إذ تبلغ نسبة سكانها الذين يعيشون تحت عتبة الفقردولاران في اليوم ثلاثين في المئة، وهي النسبة نفسها التي كانت تعرفها سنة 1985، أي أن 15 سنة من الإصلاح الهيكلي والاستقرار الاقتصادي لم يواكبها أي تقدم في مجال مقاومة الفقر. ولمسألتي البطالة والفقر علاقة مباشرة بهواجس بلدان الاتحاد الأوروبي التي أسست أصلا مسار برشلونة سنة 1995 بهدف مقاومة الهجرة غير القانونية وتحقيق الأمن. ويعزى هذا الفشل في جلب الاستثمار الخارجي المباشر وتحقيق أهداف التشغيل إلى ما تعانيه اقتصادات بلدان جنوب المتوسط من تخصص مفرط واعتماد على عنصر العمالة كامتياز تفاضلي وحيد. فالتجارة الخارجية التونسية مثلا تعتمد بنسبة 72 في المئة على منتوجين فقط. وأدى هذا التخصص في بعض المنتوجات المصدرة والمعتمدة على عمالة رخيصة وقليلة المهارة إلى غياب التجارة البينية لبلدان الجنوب والتي لا يتجاوز معدل نسبتها 5 في المئة من جملة مبادلاتها الخارجية. كما يتعرض اختيار الصناعات التصديرية القائمة على المناولة، خصوصاً في ميدان النسيج والخياطة، إلى تحديات تهدد بنسف كل ما تحقق من نماء في العقود الثلاثة الماضية، إذ سيشهد شهر أيار مايو المقبل انضمام عشرة بلدان جديدة الى الاتحاد الأوروبي، فيما ستكتسح البضائع الصينية الأسواق العالمية ومنها السوق الأوروبية في كانون الأول ديسمبر من العام نفسه بموجب إلغاء الاتفاقية المتعددة الالياف. كان من المنتظر إذن أن تنكب قمة تونس على هذه المعضلات وان تجد حلولا لها، وفي مقدمها بحث مسألة التكامل بين بلدان جنوب المتوسط، بما يحقق تنوعا حقيقيا لمنتوجاتها وتراكما لرأس المال فيها وتوسعا للسوق من شأنه أن يجلب الاستثمار الخارجي. كما كان منتظرا أن تشهد هذه القمة مراجعة من قبل دول الاتحاد الأوروبي لاستراتيجية تعاونها مع جيرانها الجنوبيين في اتجاه نقل حقيقي للتكنولوجيا بما يرفع من مستوى مهارة اليد العاملة ومن القدرة التنافسية لهذه البلدان. ومن دون هذا التحول ستظل بلدان الجنوب تعاني من ازدواجية بين القطاعات المصدرة وقطاعات الإنتاج التقليدية ومن ضعف في اندماج نسيجها الاقتصادي وتبقى تدور في حلقة مفرغة قوامها الضغط على الطلب الداخلي استثمارا واستهلاكا لحصر العجز الجاري والسيطرة على المديونية الخارجية. لكن قمة تونس لم تشهد أي لقاء بين رؤساء بلدان المغرب العربي، بل لوحظ تغيب مبكر للعاهل المغربي كما لم يصدر عنها أي قرار ملموس أو جدولة من شأنها بعث الأمل في إرساء تنمية متقاسمة، بل ركزت على العكس من ذلك على الهواجس الأمنية لبلدان الشمال في بعديها المتعلقين بالهجرة غير الشرعية والإرهاب من دون التفات إلى جذورها ومنبعها. هذا القصور في المعالجة مرده أيضا الى خلل بنيوي في التحضير لهذه القمة التي تميزت بتغييب كامل لممثلي المجتمع المدني من أعراف ونقابات وأحزاب وجمعيات مختلفة في وقت يتفق فيه الجميع على أن عنوان مرحلة العولمة التي نعيشها هو تقليص دور الدولة وانسحابها من ميدان الإنتاج لفائدة القطاع الخاص والمجتمع المدني عموماً. هذا الغياب يؤشر بدوره إلى تعطل الديموقراطية في دول الجنوب وإلى سياسة التغاضي والمشاركة السلبية التي تسلكها دول الشمال إزاء هذه المسألة الحساسة والمصيرية. لذلك وعلى رغم الأجواء الاحتفالية ودقة التنظيم، فإن قمة تونس لم تحقق شيئاً يذكر من طموحات شعوب المنطقة، ولم تفتح أفقا جديدا في وجهها، بل ظلت تواجه الرهانات والتحديات نفسها، كما ظل رفعها متوقفاً إلى حد بعيد على مدى اضطلاع المجتمع المدني بوظائفه وعلى قدرة بلدان الجنوب على دفع عجلة البناء الديموقراطي إلى الأمام. * أمين عام الحزب "الديموقراطي التقدمي" التونسي، مدير جريدة "الموقف" الأسبوعية