التوتر المزمن ما برح يلقي بظلاله على علاقات بغداد ودمشق منذ عقود عدة تضافرت خلالها عوامل إقليمية فضلاً عن اعتبارات إقليمية ودولية للإبقاء على الجفاء السوري العراقي، وجاء الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 ليفاقم من هذا التوتر، لا سيما بعد أن دأبت كل من واشنطن وبغداد على توجيه الاتهامات لدمشق بالسماح لمقاتلين سوريين وعرب وعجم بالتدفق إلى العراق عبر الحدود السورية العراقية.ولم تكن الخطوات التي اتخذتها كل من دمشق وبغداد أخيراً من أجل تقليص حدة التوتر المزمن بينهما كتبادلهما السفراء في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2008، ثم زيارة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لدمشق في وقت سابق من شهر آب (أغسطس) الماضي، لتضع حداً لتنامي التوتر في علاقات هذين البلدين العربيين المتجاورين، خصوصاً بعد أن أسهم الاحتلال الأميركي للعراق في تعزيز فرص استمرار هذا التوتر في ظل تدهور العلاقات السورية الأميركية وسعي كل من واشنطنودمشق لتصفية حساباتهما وتسوية خلافاتهما في ساحات شتى كانت العراق أهمها وأشدها وقعاً. وبينما كانت الأجواء السورية العراقية تتأهب لتصعيد حدة التوتر على خلفية رفض دمشق تسليم أي من اللاجئين العراقيين اللائذين بها في الوقت الذي تؤكد بغداد امتلاكها أدلة ثبوتية تبرز ضلوع بعضهم في أحداث الأربعاء الدامي وغيرها كما تصر على عقد محاكمة دولية للكشف عن ملابسات تلك الأحداث ومعاقبة المتورطين فيها، بدأت التحركات الإقليمية والدولية لاحتواء الأزمة. غير أن اللافت والمخزي في هذا الخصوص كان الغياب العربي المفجع عن مسرح الأحداث وكأن ما يجري تدور وقائعه في أقصى العالم بين أطراف دولية نائية لا تمت إلى العرب بصلة ولا يتمتعون حتى بعضوية شرفية أو انتسابية في جامعة الدول العربية. ولم يخفف من وطأة ذلك الغياب العربي عن الأزمة السورية العراقية بعض الشيء سوى الإجراءات البروتوكولية التي قام بها الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى حينما أعلن أنه يتابع عن كثب التطورات والاتصالات العراقية السورية، كما أجرى اتصالات مع دمشق وبغداد في محاولة للإحاطة بالموضوع والعمل على معالجة الأزمة. وطالب موسى بتكثيف الحوار والاتصالات الهادئة بين «العاصمتين الشقيقتين» توخياً لحسن إدارة الأمور وتحقيقاً للتعاون ومنعاً للتصعيد وحماية العلاقة بين البلدين ومصالحهما، لافتاً إلى أن الجامعة العربية تظل مستعدة للمساهمة في عملية تفاهم وتواصل تصب في مصلحة العلاقات بين العراق وسورية بصفة خاصة والعلاقات العربية في شكل عام. وفي الوقت الذي آثر العرب صم آذانهم وإغماض أعينهم عما تموج به الساحة العراقية السورية من تطورات مثيرة، تبارى فاعلون إقليميون أخر من غير العرب في تأكيد حضورهم وإبراز دورهم من خلال التوسط بين العراق وسورية وتحرى جميع السبل الكفيلة بنزع فتيل التوتر المتصاعد في ما بينهما. فكعادتها، أسرعت طهران إلى انتزاع سبق العزف المنفرد على أوتار التفاعلات السورية العراقية، فكانت صاحبة أول مبادرة للتحرك النشط والجاد لتضييق الهوة بين دمشق وبغداد. ومن جانبه، استغل وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي فرصة تشييع جثمان رئيس المجلس الأعلى الإسلامي عبد العزيز الحكيم في النجف ليزور بغداد أولاً ويلتقي كلاً من رئيس الجمهورية جلال طالباني ورئيس الوزراء نوري المالكي قبل أن يعقد محادثات مع وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري، مؤكداً في بيان مشترك له مع المالكي أن استقرار الأمن في العراق له تأثير إيجابي في المنطقة، وأن إعادة الأمن والاستقرار إليه يعد مسؤولية جميع دول الجوار والمنطقة. واقترح متقي عقد اجتماع لدول الجوار العراقي لمناقشة الوضع الأمني في العراق في ظل تصاعد التوتر مؤخراً بين بغداد ودمشق على خلفية أحداث الأربعاء الدامي. وبدورها وفي سياق مواز، هرعت تركيا الساعية منذ سنوات قلائل إلى تلمس الخطى لإعادة إنعاش دورها الإقليمي وتعزيز حضورها المؤثر على الساحتين العربية والإسلامية، إلى الإدلاء بدلوها ووضع لمساتها على مجريات الأزمة، فبعد أن استهل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مساعي بلاده في هذا المضمار بإجراء اتصالين هاتفيين برئيس الوزراء العراقي نوري المالكي والرئيس السوري بشار الأسد، بحث خلالهما التطورات الأخيرة وطرح أفكاراً تركية للخروج من الأزمة، قام وزير الخارجيّة التركي أحمد داود أوغلو بزيارة لكل من بغداد ودمشق أجرى خلالها محادثات مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ووزير خارجيته هوشيار زيباري، ثم مع الرئيس السوري بشار الأسد ووزير خارجيته وليد المعلم تبادل خلالها الآراء حول المشاكل القائمة بين البلدين وسبل حلّها، وذلك بعد محادثات أعلن أنه أجراها هاتفياً مع نظيرته الأميركية هيلاري كلينتون، التي هاتفته قبل سويعات من توجهه للعراق وسورية، وهو الإعلان الذي يحمل في طياته تلميحات بأن التحرك التركي في هذا الشأن يحظى بمباركة وتأييد من قبل واشنطن، التي يبدو أنها لم ترحب باستباق وزير خارجية إيران منوشهر متقي زيارة البلدين والتوسط بينهما. فكما هو معلوم تتطلع واشنطن إلى دعم تنامي دور إقليمي إيجابي لتركيا في محيطها العربي والإسلامي من شأنه أن يسهم في إعادة هندسة المنطقة ويعزز الاستقرار فيها مثلما يكبح جماح النفوذ الإيراني المتعاظم فيها في شكل عام وفي العراق على وجه التحديد، وذلك على رغم جنوح وزير الخارجية التركي لتجنب أية حساسيات يمكن أن تتأتى جراء تزامن التحركات الإيرانية والتركية خلال الأزمة حينما نفي وجود تنسيق تركي إيراني لحلحلة التوتر السوري العراقي الراهن مشيراً إلى أن الجهود التركية والمساعي الإيرانية في هذا الصدد ليست متنافسة أو متعارضة على الإطلاق. وأياً كانت النتائج التي قد تتمخض عنها جهود الوساطتين التركية والإيرانية لنزع فتيل التوتر المتصاعد هذه الأيام بين دمشق وبغداد، فقد كشف ذلك التوتر عن مدى تنامي تأثير كل من إيران وتركيا على الساحة العربية عموماً وعلى المسرح العراقي السوري في شكل خاص استناداً لاعتبارات جيوإستراتيجية مهمة، فعلى رغم أن الدولتين ليستا عربيتين، فإنهما تتمتعان بمؤهلات خاصة ودوافع ملحة تخولهما التأثير في مسار التفاعلات التي تجرى في المنطقة ومن بينها التوتر الحاصل بين دمشق وبغداد كونهما دولتين مجاورتين لهما أولاً من الناحية الجغرافية، فضلاً عما تتمتعان به من نفوذ قوي وحضور مؤثر على الساحتين العراقية والسورية، إلى جانب مساحة الثقة التي تحظى بها كل منهما لدى دمشق وبغداد بدرجات متفاوتة ولأسباب واعتبارات متنوعة، هذا إضافة إلى المصالح الاستراتيجية التي تربط بين البلدان الأربعة وما تتضمنه من ملفات وقضايا تحظى باهتمامهم المشترك وتستوجب تفاهماً وتنسيقاً جماعيين ومستمرين في ما بينهم. فلقد صرح وزير الخارجية التركي إبان محادثاته في دمشق وبغداد أن سورية والعراق بالنسبة إلى أنقرة هما حلفاؤها الاستراتيجيون وأشقاؤها وجيرانها، معتبراً التوتر الحاصل بينهما حالياً شأناً عادياً وعارضاً ضمن أبناء وأفراد العائلة الواحدة. والأهم من ذلك كله أن لكل من أنقرةوطهران تطلعات إقليمية ودولية تفرض عليهما الانخراط ليس فقط في الشأن العراقي أو السوري وإنما المساهمة بدأب في أية تفاعلات إقليمية تشهدها المنطقة. يبقى القول إن التداعيات السلبية لمأساة الأربعاء الدامي في بغداد لم تقتصر فقط على مفاقمة التوتر السوري العراقي المزمن وإنما امتدت لتنال من النظام الإقليمي العربي كما تطاولت حتى تفت في عضد العمل العربي المشترك بعد أن زادت من التصدعات التي ضربت أطنابها في جنباتهما منذ عقود، وهو الأمر الذي من شأنه أن يعيد هندسة الأدوار الإقليمية في المنطقة وفقاً لنظرية الدور الإقليمي، التي ترى في تعاظم أدوار قوى إقليمية في نظام إقليمي معين اقتطاعاً من أنصبة وحظوظ قوى أخرى خصوصاً إذا ما كانت منافسة لها أو تنازعها بلوغ غايات ومرام مشتركة على الساحة نفسها. وبناء عليه، وإذا ما ظل الفاعلون العرب الرئيسيون على حالهم من التشرنق والانزواء والإحجام عن الانخراط المباشر والجاد من أجل حلحلتها، ففي وسع الأزمة السورية العراقية الأخيرة أن تعزز من فرص تنامي أدوار إقليمية لبعض دول الجوار العربي التي أبت إلا أن تنتزع لنفسها مكانة مهمة وحضوراً مؤثراً على ساحة أضحت خالية من أي فاعلين منافسين كثيراً ما تسنى لهم في ما مضى الإمساك بزمام المبادرة والقيادة فيها، في ما هم اليوم قد ارتضوا لأنفسهم الانزواء والانسحاب تاركين المسرح خاوياً على عروشه أمام كل ذي مأرب وصاحب مطمح يمتلك من الأهلية والجاهزية ما يؤهله لبلوغ مبتغاه. * كاتب مصري.