قبل سبع سنوات، أطلق مرسيل خليفة عمله الموسيقي الأخاذ "جدل". أدخل آلة العود في مغامرة علمية ريادية وغير مسبوقة في ذاك العمل: كتب لها نصاً موسيقياً مركباً قابلاً للكسترلة Orchestralisation، وأدخلها في تجربة حوار مع نفسها من خلال مناظرة راقية بين آلتي عود. أحيط حوار العودين بحاضنة دافئة مثّلتها آلة الرق عزف عليها علي الخطيب وآلة الباص Bass عزف عليها عبود السعدي. لكن الجدل كان بين عودين في المقام الأول" وكان يمكنه ان يعطل الاحساس بوجود آلتين أخريين مرافقتين من شدة ما نجح المؤلف مرسيل في تركيز Focalisation النص الموسيقي في آلتي العود وتصييرهما نقطة انجذاب للسماع. تولّد الانجذاب ذاك، ايضاً، من الاقتدار النادر لدى مرسيل على العزف برقة غير عادية على آلة العود" وهو ما يمكن ان يقال عن رفيقه في الآلة نفسها: شربل روحانا. نجاح الجدل الموسيقي بين ثنائي العود، حمل مرسيل - المغمور دوماً بشعور واجب البحث العلمي في حقل الموسيقى - على الخوض بعيداً في "مغامرة" الحفْر الأركيولوجي في الطبقات العميقة غير المستكشفة في العود، فاشتغل على رباعي العود كما يفهم منه، وكتب نصاً لآلات عود أربع لم يعد يحتاج سوى الى التنفيذ والتسجيل. واذا كان مشروع "رباعي العود" تأجل إخراجاً، فهو في جملة مشاريع موسيقية اخرى أنجزها وما زالت طي التنفيذ المؤجل بسبب حاجتها الى التمويل، كما يقول، ومنها رائعته الموسيقية - الأوبرالية "تهاليل الشرق"، وعمله الموسيقي - الغنائي الكبير "غنائية الجسد". لكن مرسيل من معدن لا يُقدّ، ومن طينة من الرجال لا تستسلم لأحكام ضائقتها. فإذ تحاصره الموانع وتفرض على بعض اعماله احتجاباً اضطرارياً، يؤمن بأن "ما لا يُدرك كله لا يترك بعضه". لذلك تراه، في بحر هذه السنوات السبع، يُطل على جمهوره بثلاثة اعمال موسيقية وموسيقية - غنائية نوعية ومميزة: "كونشرتو الأندلس": وهو درّة الدرر في تاريخ الموسيقى العربية حتى الآن، و"مداعبة"، و"تقاسيم". والعمل الأخير "تقاسيم"، كناية عن نص موسيقي مكتوب لآلتي العود والكونترباص، يشبه قليلاً نص "جدل" لكن "مدى "المغامرة" فيه أبعد، لأنها سعت الى اجتراح تجانس بين آلتين لم يسبق ان قامت بينهما إلفة، أو شبهة اتصال، في تاريخ الانتاج الموسيقي العربي الحديث والمعاصر. حتى الآن، لم يسجل مرسيل هذا العمل، لكنه طاف به في عشرات من الحفلات غطت جغرافية فسيحة من أميركا وأوروبا والوطن العربي، فأمكن لعشرات الآلاف ان يسمعوه، وان يتفاعلوا معه مباشرة. وكان للجمهور المغربي حظ في ذلك، من خلال الحفلات التي أحياها مرسيل - خلال رمضان - في مدن أغادير، والصويرة، ومراكش، والرباط، وفاس، ومكناس، والدار البيضاء، وطنجة، وقدّم فيها عمله الموسيقي هذا "تقاسيم" على مدار ثمانين دقيقة، ومن خلال ثلاث حركات موسيقية، انشد الانتباه الى تفاصيل ثنائي العود والكونترباس: الى العزف والحوار اللذين بين آلتين تعاقدتا على قول نص موسيقي - مكتوب بحبكة وحذق عاليين - تسلطنت فيه آلة العود بين أنامل صاحبها الكبير، وامتحنت فيه آلة الكونترباس بين يدي عازفها النمساوي بيتر هيربرت. قدّم مرسيل خليفة رواية اخرى عن آلة الكونترباص، منبهاً الى مواطن غنى فيها لم نكن نعلمها، على أهمية دورها في الأوركسترا الكبرى وفي فنّ الجاز. أنجز في "تقاسيم" حفريات في هذه الآلة أفضت الى تظهير مخزونها الجمالي الهائل. هي في تكوينها آلة باطنية عميقة" استغل مارسيل خصوصيتها، لكنه نجح في ان يخرجها من طورها فيزج بها في تجربة من الأداء لم تألفها قبلاً. دعاها الى أداء أجمل جمل موسيقية من داخل النظام الموسيقي الشرقي المقامات، وكتب لها موسيقى لم تتعود على تأديتها، وأفلح في ايصالها الى عتبة الاستجابة الناجحة للنص. في "تقاسيم" لم تستغل آلة الكونترباص من خلف او في خلفية العرض الموسيقي، مكتفية بتزويد آلة العود بايقاعية مناسبة، على نحو ما كانته علاقة هذه الآلة بالوتريات أو بآلات النفخ المعدنية في الأوركسترا. رفض مرسيل ان يضعها في موضع "كومبارس" موسيقي يؤثث المناخ السماعي، فدفعها الى ممارسة مرافقة حقيقية لآلة العود في نسيج النص كله. هكذا حولها الى شريك كامل في بناء اللحظة الموسيقية. وفي ذلك، لم يكتف بكتابة جمل موسيقية خاصة تتناغم مع الجمل التي أداها العود، ولا اكتفى بايكال وظيفة اداء هارموني يتراكب جمالياً مع النص الموسيقي التحتي الذي ادته آلة العود، وإنما استضاف الكونترباص ليردد ما نطق به العود في تبادل على عزف الجمل ذاتها - بين الآلتين - لذيذ وعذب. وكما نجح مرسيل في تحرير آلة العود من تبعيتها للصوت في الاوركسترا العربية، ومن هامشية دورها امام الوتريات وآلات الايقاع، ليحولها الى آلة رئيس، كما في "جدل"، أو الى الآلة الرئيس، كما في "كونشرتو الأندلس"، كذلك فعل مع الكونترباص في هذا العمل الأخاذ. رقة انحنت لها النفوس ولعله من نافلة الكلام ان يذكر عزف مرسيل على آلة العود في هذا العمل، او توصف مناقبه وفتوحاته في هذا الباب، فالرجل بلغ في ذلك شأواً ليس يجحده الا جاهل أو مريض. على انه لا بد من ان يقال ان عود مرسيل بين أنامله رقّ - في هذا العمل - رقة انحنت لها النفوس ودانت لها المشاعر. كان صوتاً وديعاً عوده: يخاطب الثاوي العميق فيك، يحمل الألم والفرح والدعة والغضب وينشرها في المشدودين اليه ناقلاً شحناتها اليهم. على أعصابك ومشاعرك يلعب مرسيل خليفة كما على أوتار عوده يلعب، لا يبقيك على حال، يدعوك الى مهرجان من المشاعر المتحولة. يفعل ذلك كما لو انه يطبق مقولة أبي نصر الفارابي عن العزف والعود في كتابه "كتاب الحروف". أما الجمهور، فمأخوذ بما يسمع، سادر في اصغاء مديد كأنه يؤدي صلاة عميقة في معبد. يستثيرك المشهد كثيراً. لو كنت في مسرح او قاعة للعرض في مدينة أوروبية أو أميركية، لسهل عليك ان تدرك اسباب ذلك الاصغاء العميق، فلدى أهل تلك البلاد تقاليد سماع للموسيقى تربو على مئات السنين. لكن ذلك حدث في مدينة عربية. ولم تكن هذه المدينةبيروت - المنفردة عن مدائن العرب جميعاً بحساسيتها الجمالية الموسيقية العالية وبصلة أهلها بالموسيقى المجردة عن الغناء - وإنما كانت الرباط في ما شهدت، وسائر المدن التي عرض فيها مرسيل عمله، في ما اعترف بذلك. وهو ما يعني ان طفرة ما في السماع وفي علاقة الذائقة الجمالية المغربية بالموسيقى المجردة تحصل من دون ان ننتبه في خضم موجة العدوان العارم على الذوق التي تجرى فصولها عبر الاذاعة والتلفزيون والمهرجانات المسلوقة. تسمع من هذا الفنان الكبير شهادة حارة في حق الجمهور المغربي وحسن إصغائه تبهج. وهي تبهج مرتين: مرة لأنها تنبه الى هذا التحول في الذائقة الجمالية الذي لا يمكن ان يستشعره الا فنان خبر الجمهور المغربي منذ عام 1990 والى عام 2003، احيا مرسيل عشرين حفلة غنائىة وموسيقية في ثماني مدن مغربية. ومرة اخرى لأن الشهادة في حق هذا الجمهور شهادة فنان عالمي كبير من طراز مرسيل خليفة تعرّف الى أطياف من الجماهير في العالم تحصى بالملايين في مئات الحفلات التي أحياها في كل اصقاع العالم في السنوات السبع والعشرين الاخيرة.