يختار الأماكن المعتمة والأوقات المعتمة ويجلس. يسلّم نفسه صامتاً إلى وحدة غامضة. أحياناً يكلّم نفسه. يسمعه من ما زال مستيقظاً في الغرف الأخرى. يستلقي على الكنبة، يلصق مرفق يده بالحائط، ويروح يخبط بطرف قبضته الحائط: ضربات متتالية. يمشي في تلك العتمة المضاعفة البعد ولا يغادرها. وإذا خطا خطوة خارجها، من غير عمد، يلوم نفسه على زلة القدم تلك. ويعود أدراجه، سريعاً. يشبك يديه عند أسفل ظهره. وضعية الأسير التي عاشها أياماً، لكنه ليس سليبها ولا يستعيدها. لعله يحاكي التنقل في أثلام حقل حمل إليه في طفولة بعيدة كتاباً وأوراقاً وأحلاماً. انحبس فيه ناطوراً، نهاراً كاملاً. يمشي أميالاً في غرفة الدار التي تغدو مساحة أفقية لا شيء فيها. لا أثاث ولا تحف من تلك التي جمعها بشغف على مدى عقود. لا يلتفت إلى شيء من ذلك كله بعدما كان، في أيام كثيرة مضت، يمضي أوقاتاً بينها. ينقلها ويعيد توزيعها وترتيبها وصوغ المكان. يحفظ أشكالها بدقة وتنطبع في ذاكرته كلوحة طبيعة صامته. ومرّات كان يدخل غرفة الدار، حيث التحف تلك، قبل أي غرفة أخرى حتى لو كان آتياً للغداء. يغيّر مكان حجر أو تمثال أو كنبة أو لوحة. يقف وينظر إلى ما فعله من أبعاد ومسافات مختلفة. يفعل ما يفعله رسام أو حلاق أو خياط. ثم في سنوات تالية ضمّ النباتات إلى مملكته تلك. وراح يتعامل معها بالعناية نفسها، مع إضافة الماء إلى طقوسها. ويتفنن في ذلك التعامل. يسقي النباتات متى شاء. يضيف إلى الابريق أدوية ينتقيها بثقة لا أساس معرفياً أو علمياً لديه عنها. كأنه في مختبر، مع تحفّظ على الاقرار بذلك. ليس مقتنعاً بذلك. كما لو أنه ينبذ تلك البرودة العلمية التي يشعر أن المختبريين ليسوا أبرياء منها، في تعاملهم مع تلك الكائنات. والمعيار نفسه في علاقته بالتحف. يروي عنها حكايات متفلتة من التاريخ وروزنامته. لم يرجع يوماً إلى كتاب أو مصدر معلومات تاريخي. ولا يزعم أي معرفة بذلك. كأنه لا يؤمن بالتاريخ كمرجع وحيد للأشياء والكائنات والحضارات والمجتمعات. اخترع أو صاغ "تواريخ" عن الأشياء وليس لها. وكذلك فعل مع نباتات مصدرها اليابان، مثلاً. آمن بذلك حباً بالأشياء التي جمعها ومبالغة في قيمتها أو قيمها. وفي الوقت نفسه رغبة منه في ألا تكون تلك الأشياء ميتة وأجزاءً منسيةً من أماكن وأدوات وسياقات بائدة. لكي لا يشعر هو أو غيره أنها استُهلكت ومضى زمنها وتبددت الحاجة إليها. يأبى إحالتها على التقاعد. لم يبذل جهداً في سبيل تفسير حاجته إلى تلك الأشياء. اكتفى هو ومن علم بالأمر بوصفه بالمحب أو العاشق لها، وليس للتاريخ عموماً أو لحقب تلك الأشياء وحضاراتها. وزكّى ذلك أنه التفت، من بين ما التفت إليه، إلى السبحات والحجارة النادرة. وصار يقصده بائعو السبحات الجوّالون. رجال ريفيون بثياب فضفاضة يرتدونها صيفاً وشتاءً، وظيفتها إخفاء الجسد كله. لا يظهر منها غير الرأس والكفّين. قميص تحته قميص قطني. يظهر التحتاني بوضوح من قبة الخارجي وعبره بعدما نعّمه الغسيل حتى باتت تتخلله مساحات مستهلكة تخلّى عنها اللون. باتت مجرّد قماش. والرسوم التي كانت تشكلها الألوان تقطّعت. وبنطلون مزموم بحزام جلدي. هيئاتهم تجعلهم جميعاً يبدون من جيل واحد: ما بعد الشباب وطيشه بارادة هجر الدنيا ولذّاتها ومظاهرها. فجأة أحنى علي كتفه الأيمن فارتفع الأيسر، ومشى بجانب واجهة المحل، إلى يمينه. كأنه يطوي صفحة من صحيفة. أوهمته المسافة الفاصلة، بينه وبين الرجل الآتي في اتجاهه، أن الانحناء والاقتراب من الواجهة الزجاجية لمتجره ثم للمتجر الملاصق، يجعلانه يختفي، فلا يعرفه الرجل. حالات الخطر هذه تدفعه إلى إخفاء وجهه وما يميزه. ينسى أن وقوفه عند باب متجره يسلبه القدرة على المناورة، يعرفه من يطل أو يقف في أول الشارع. وبرغم ذلك انسحب إلى مكان مجهول. ووصل الرجل، دخل المحل كأنه لم يرَ علياً ينسحب. حتى ولو رآه ينسحب لا يفصح أو يسأل لماذا تجنب "علي" رؤيته. فمن احتمالات ذلك أن يخسر زبوناً. "إزدادوا مثل المشايخ فجأة، سبحان الله، الله يهدي الجميع. صدَق من قال فقاسة بيض واشتغلت. وما يُقّفها؟"، قال عاطف الذي تلقّى الاشارة من علي وادعى أنه لم يأتِ بعد. جذب الرجل الكرسي وجلس. وبدأ عاطف: "ماذا معك في الأكياس؟". أكياس بلاستيكية في داخلها أكياس بلاستيكية. لم يجب الرجل، أحس أن عاطف ينصب له فخّاً ليوقعه في براثن النكتة أو السخرية. سأل الرجل عن ماء يشربه، في حركة انسحاب تكتيكي. يحاول أن يوحي إلي عاطف أنه لا يسمعه ولا يريد الأخذ والرد معه. وعاطف لا يرحم. يسأله عن قصص بائعي السبحات الآخرين. يقول له بالتورية: "أعرف عنك وعنهم الكثير، وأنت مثلهم". وقبل أن يستريح الرجل أو يُنهي شرب الماء من القنينة البلاستيكية، يبدأ عاطف: "كيف صديقك الذي كان في فتح؟ أين النسونجي، المتخصص بالأرامل والمطلقات؟ رجع صاحبك إلى أفريقيا أم أنه لم يطأها منذ سرق ما سرقه وهرب إلى لبنان؟ هل انتهى إبن خالتك من بناء عمارته، ولمَ يبقى شحاداً، "يحس على دمّه!". والإيمان، كيفه معك، مربح أن تعمل حجاً؟". ولا يغص الرجل. يرد وهو يدير ظهره خارجاً: "بتنبسط بالجعدنة؟" الله يصبّر زوجتك كيف تتحملك؟ في المرة الماضية تمكن علي من مغادرة المحلّ عندما رأى الرجل، هرب. واستمرت لعبة التخفّي والمفاجأة. ونسي علي أنه في اللعبة. فاجأه بائع ثانٍ يفتح باب متجره ويقتحمه. صُدم علي حين رآه خلف الباب الزجاجي، ملتصقاً به وكفه اليمنى على وجهه كما لو أنه يلقي تحية عسكرية. يسترق النظر إلى المحلّ. وأشعة الشمس تعاكسه، فتسقط على الزجاج واقفة لتجعل داخل المحلّ معتماً. كأنها تخفي الداخل ومن فيه. وقبل أن يتنفّس علي سأله الرجل: "ما بك، كأنك رأيت ملاك الموت وبحاجة إلى طاسة الرعبة؟". ولم يؤخره ذلك في فتح الأكياس البلاستيكية التي يحملها أينما ذهب. لم يحفظ علي اسم واحد من هؤلاء "التجار بهيئة المبشّرين". كلّهم جبلة واحدة، سمجون، كأنهم إخوة، برغم أن كل واحد من ضيعة. "جايبلك طلبك. لا تليق إلا ليدك. يا ليتك تمنيت مليون ليرة. خُذ". وعلي يتململ. يجلس تارة خلف المكتب، وتارات ينهض لاستقبال الزبائن، برغم أن عاطف موجود ويوكله بتلك المهمة في الحالات العادية. يتهرّب من تاجر السبحات بأن يطلب أنواعاً ليست لديه. ولا يفلح. يقول: "كأنهم يريدون أن يمضوا وقتاً محدداً. ومهما عملت يمضوه عندك، يضيعون لك وقتك. يرهقونك ويلعبون في أعصابك باستخدام عامل الوقت. وربما تشتري منهم لينتهي الأمر. مساكين أين يذهبون؟. ينزلون في الصباح من ضيعهم ويبدأون المشي، عند هذا نصف ساعة وعندي ساعة". وهم يفتحون الأكياس بسرعة ويرمون ما فيها فوق الطاولة. يفصلون السبحات عن الحجارة والخواتم الفضية ذات الحجارة والكتب الدينية والبخور والعطور الخالية من الكحول. يبدأون عرض السبحات واحدة واحدة. ويعيدونها إلى الأكياس كما كانت. وفي أثناء اعادتها يكررون ما عرضوه في المرات السابقة. ويكررون ميزات كل واحدة منها و"الحسنات". وهو ينتقم منهم. يبخّس بهذه، لا تعجبه تلك، يطعن بالأسعار، يشكك في صدق أقوالهم. لكنه لم يهتّ واحداً منهم على ماضيه. يعرف ما تعرفه الناس عن هؤلاء، لكنه لا يجعلهم يشعرون بأنه يعرف ما راهنوا أن تخفيه هيئاتهم. كأنه ينسى. حمل علي سبحة الكورباء وراح يفرك كفّيه إحداهما بالأخرى، كما لو أنه يولّد حرارة دافئة في جو بارد. ثم شم رائحتها ودعا ابنه إلى التمتع بها. جمع الابن أنفه في أعلاه، بين عينيه، زُمت شفّته العليا، ظهرت أسنانه. وقبل أي تعبير إضافي، لجأ إلى الحياد، نفى وجود رائحة مميزة. استغرب علي وجذب السبحة من يده: "هات شو بيفهمك!". أحب علي الكورباء ورائحتها كمن اكتشف سراً من أسرار الطبيعة، من طريق حب الأشياء والتواتر الشفوي لعادات أناس لا يعرفهم. وجمع عشرات السبحات. وأقفل عليها إلى جانب التحف، في الخزائن والصناديق وواجهات العرض الزجاجية. يعود إليها بين حين وآخر. يفتح الخزائن والصناديق ويمدها فوق الطاولة أو على الكنبة، يعدّها ويعيد توزيعها على الصناديق. كل صندوق لنوع، والسبحات المختلفة في واحد. وإذا لم يكن يعرضها أمام صديق يختار واحدة ويحملها كأنه يجرّبها. "مليحة" أو "مش مليحة للتسبيح". فنادراً ما حمل سبحة منها. يختار، وهو يهم بالخروج، السبحة التي يناسب لونها لون ثيابه. جعل ذلك للمناسبات السعيدة والحزينة التي يلتقي فيها كثيرون، حباً وليحافظ على صورته التي لم يكلّف نفسه عناء صوغها. تكونت من سيرته ومعها. لا تبدو منفصلة عنه أو منفصمة بين شكل ومضمون. ولا يبدو مظهره مبالغاً فيه أو مستعاراً. لم يتكلف لإظهار ثراء في هندام أو أناقة. حفظ لنفسه مستوى واحداً لا ينفصل عن صورته. تلك الصورة التي توحي، لدى الناس، الأقرباء منهم والبعداء أيضاً، إلى ثراء مزمن. فصورته في حقيقتها وعمقها، وقليلون ينبهون ذلك، توحي إلى نجاح في مجال التجارة. وقد اقترن بانتماء حزبي سياسي أقرب إلى "الخيانة الطبقية". حضر هذا البعد من صورته بقوة، لدى كثيرين. شعر باكراً أن اسمه يصوغ صورته ويسبقها أين ذهب أو لم يذهب. ويتدخل ذاك الاسم، إن لم يكن يتحكم، في سيرته ومصيره برمته. وقد استسلم باكراً إلى إسمه وهيئته. قالا له ولغيره إنهما يشيعان الثقة، الثقة به، إنساناً ثم شاباً وجد نفسه في السوق. تاجر لا يملك أكثر مما يستدين أو استدان والده، إلا تلك الثقة التي تشبه الرهان على حياة كاملة وعلى كل شيء ولا شيء في الوقت نفسه. تلك الثقة توأم القدر المراوغ، الوسواس، أكثر مما هي باب إلى السماء. ثقة من النوع الذي يخدع بأنها هي رأس المال الأول والوحيد. وتدعوه إلى عيشها وممارستها والإفادة منها. وتعد بالكثير. صوّرت له أن الطريق إلى الرغبات والأحلام أسرع عبرها ومعها. صاغت له ترسانة من الأحلام التي تحتاج لتحقيقها إلى أجيال موهوبة. دغدغه أن مرابياً تفرّس فيه الخير وقرأ في هيئته واسمه ثقة لا تبدد. دفعت مرابياً بخيلاً إلى إعطائه أكثر مما قصده ليستدين منه. لم يكن المرابي قد سمع عن علي أكثر من اسمه. لكنه، بطريقة المرابين والمشعوذين، علم بأجزاء من سيرة أسرته ورصيدها من العقارات والأعمال والأمانة. كان لدى المرابي محل مقفل يبحث له عن مستثمر. قال لعلي إنه لك إشتره وسدد لي ثمنه أقساطاً مريحة يترتب عليها فوائد مريحة أيضاً. قال المرابي ذلك وهمس لعلي: هذا قدرك وقد ضحك لك. لكن سناً في فم المرابي لم تلمع. وفتح علي يده المقبوضة المتعرّقة. رأى كفه بيضاء كالثلج كما لو أنه لم يفعل شيئاً ولم يمسك قرشاً معدنياً أو ورقياً في حياته. كأن كفّه مرنخةٌ بالماء البارد حتى أفقدها الإحساس. وقفز علي فرحاً وأملاً. ملأ نفسه بالوعود. من تلك اللحظة بالذات بدأ يتخم حياته بالوعود. الوعود التي تنتحل صفة التفاؤل. الوعود التي تستبدل الزمن بعامل الوقت، والتي تساعد في إخفاء كل ما هو غير منظور. فتجعله غير موجود من أصله. الموجود على المائدة هو الموجود فقط، بل إيحاءاته هي الموجودة. هي اللغة. هي العقل. هي الصورة. الإيحاء بالقدرة التي وفرّت ما هو على المائدة وجعلته موجوداً. الإيحاء بصعوبة إيجاده. إذا كان الموجود ثميناً حضرت أشباح قيمته أو ثمنه أو سعره. إذا كان عادياً حضرت الهواجس الاقتصادية والأمنية، ابان الحرب، التي ترافق عملية إيجاده. فلم يمر عليه يوم يملك فيه مالاً إضافياً، مالاً محمياً، مالاً خارج الحاجة التجاريه، مالاً يمكنه أن يوفّر الموجود على المائدة. ولم يشعر أحد خارج بيته بذاك الواقع. فالصورة مأخوذة بالإيحاءات. الصورة يلوّنها حرص زوجته والأبناء وهو، على خصوصية الأمر وتجاوزه بالقليل المتيسّر. معادلته هي إشترِ بالمال قبل أن تملك المال نفسه، أو قبل أن توفر الجزء الأكبر منه. * شاعر لبناني والنص مقطع من رواية تصدر خلال ايام عن دار الساقي في عنوان "الرفيق علي".