كثيراً ما قيل إن النظام العربي هو في حكم الميت: ويبدو أنه قد مات فعلاً هذه المرة. ولكن ماذا أقصد بالنظام العربي؟ ما أعنيه هو الشيء المثالي، أي نظام إقليمي مستقر يكرس نفسه لخدمة المصالح العربية تحت إدارة دول عربية ذات سيادة، مقبول من جانب سواد الناس وقادر على ردع الأعداء الأجانب إن لم يكن قادراً على هزيمتهم. لا يمكن لأحد أن يعتبر أن هذا الوصف ينطبق على العالم العربي في وضعه الراهن الممزق، المحروم من الاعتزاز الوطني والمفتقر لأي تضامن أو ثقة بالنفس، وهو أكثر تعرضاً للخضوع للهيمنة الأجنبية أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن كونه، في كثير من الأحيان في حالة حرب حتى مع مواطنيه الغاضبين. ولعل أبلغ صورة للمشهد العربي هي تلك التي تتجلى في الإحتلالين الاستعماريين للعراق من جانب أميركا وللأراضي الفلسطينية من جانب إسرائيل. فباسم "أمن أميركا وإسرائيل" - وإن كان الأمر في الواقع يتعلق بمصالح استراتيجية - يخضع شعبان عربيان للاحتلال العسكري ويتم شل إمكاناتهما. فالحياة في الأراضي الفلسطينية عبارة عن جحيم والأمر أسوأ بالنسبة إلى العراقيين، مواطني دولة كسيرة تعيش حالاً من الفوضى والحرمان نتيجة الحظر الدولي ثم الاحتلال الأنغلو - أميركي، بعدما كانت أغنى الدول العربية وأكثرها تقدماً. وصار الموت العنيف بالنسبة إلى الشعبين العراقي والفلسطيني أمراً عادياً ويومياً، فلقد تحطمت بلادهم وانضمت إلى القائمة البائسة للدول التي سبق أن عانت من المصائب التي لحقت بالنظام العربي، كلبنان والجزائر والسودان. من الواضح أن العرب، على رغم عددهم وثرواتهم النفطية وميزانياتهم العسكرية المتضخمة، وعلى رغم ما لديهم من نخبة مستنيرة، لن يقووا على احتواء إسرائيل وراء حدود عام 1967 أو الحيلولة دون اجتياح بلد عربي كبير واحتلاله: فقد فشلوا في تأمين حماية أنفسهم وذلك بامتلاك قدرات رادعة ذات صدقية واضحة. لا بد لهم من تحقيق توازن في القوى، حيث يدرك أي عدو محتمل بأنه إذا وجه ضربة إلى بلد عربي ما، فسيرد عليه بضربة مقابلة لا تقل إيلاماً. لننظر إلى كوريا الشمالية وكيف استطاعت، على رغم مشاكلها الاقتصادية الخانقة، أن تجبر الولاياتالمتحدة على مفاوضتها بدلاً من ضربها ربما لأن الصين تقف وراءها، وإيران التي استطاعت حتى الآن أن تحصن نفسها ضد ضربة عسكرية أو حملة ضغط سياسية أو اقتصادية. أما العرب، فليسوا كذلك، أي جهة تستطيع إذا شاءت أن توقفهم وتعتقلهم من دون أية تهمة، وتحجز أموالهم وتعكر حياتهم وتتهمهم بالإرهاب، وتحتل بلادهم وتقتلهم. والدليل على ذلك أنه لا توجد هيئة رسمية واحدة حملت نفسها عبء تعداد القتلى العراقيين نتيجة الغزو، في حين أن التقديرات غير الرسمية تفيد بأن عدد القتلى من المدنيين بلغ ستة آلاف، وعشرة آلاف من العسكريين فضلاً عن عشرين أو ثلاثين ألف جندي ومدني جريح. البحث عن أداة الردع وإذا كانت إحدى السمات الظاهرة للمشهد العربي المعاصر هي الاجتياح والاحتلال الأجنبي، فإن السمة الأخرى التي لا تقل وضوحاً هي المقاومة المحلية للتدخل الأجنبي. ولأن الجيوش العربية الرسمية عجزت في معظمها عن حماية نفسها، أخذت جهات أخرى غير رسمية على عاتقها القيام بهذه المهمة التي تتمثل في "حزب الله" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وبصورة مختلفة تنظيم "القاعدة"، كلها تحاول الانتقام للحملات ضد العرب وتحقق بذلك شكلاً محسوساً من أشكال الردع. ولعل "حزب الله" كان الأكثر نجاحاً بين هذه الحركات، إذ لم يفلح فحسب في إجبار إسرائيل على الانسحاب من لبنان، بل استطاع أن يحول دون أي عدوان إسرائيلي. فإسرائيل تعرف أنها إذا ضربت لبنان فسيرد "حزب الله" بتوجيه الصواريخ ضد مدنها وقراها. ومع أن قدرات "حزب الله" في الردع لم تحقق توازن القوة مع إسرائيل، فإن إنجازاتها في هذا المجال جديرة بالإعجاب. وما استعداد إسرائيل الآن للتفاوض مع "حزب الله" لتبادل الأسرى سوى اعتراف بوزنه السياسي. كذلك الأمر بالنسبة إلى "حماس" التي سعت إلى ردع الهجمات الإسرائيلية ضد السكان المدنيين في الأراضي الفلسطينية. فهي منذ بضعة أسابيع أعلنت هدنة أحادية الجانب، لم تستمر طويلاً نظراً إلى رفض إسرائيل معاملتها بالمثل ومتابعتها لعمليات اغتيال النشطاء والهجوم على المدن والقرى الفلسطينية وترويع الأهالي. وجددت "حماس" الآن عرض الهدنة بشرط التزام إسرائيل بها ووقف هجماتها. إنها تريد هدنة تعاقدية يلتزم بها الطرفان. لكن إسرائيل رفضت هذا العرض لأن قبوله معناه الاعتراف بوجود نظام ردع حققته العمليات الانتحارية. فإسرائيل ترفض رفضاً قاطعاً أن تقيد حريتها في الضرب نتيجة وجود رادع لدى أي حركة أو دولة عربية. وأما "القاعدة"، فأياً كان رأينا في عملياتها الإرهابية، فإنها هي أيضاً تمثل الجانب الحاد لحركة عريضة لمناهضة الامبريالية مصممة على الانتقام لما تعتبره عنفاً غربياً يمارس ضد العرب، وخنقاً لتطلعاتهم للاستقلال منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. ف"القاعدة" إذن لا تهدد الولاياتالمتحدة فحسب، بل تهدد الدول ذاتها التي ترعاها. وترمي "القاعدة"، إذ توجه ضرباتها لأميركا، إلى إرغامها على تغيير سياساتها فتسحب قواتها من الأراضي الإسلامية، وتوقف تأييدها الأعمى لإسرائيل، وتحترم الإسلام والعرب. ولكن النتيجة حتى الآن جاءت عكس كل ذلك، إذ واجهت أميركا تحدي "القاعدة" وشنت "حرباً شاملة على الإرهاب"، واجتاحت كلاً من أفغانستانوالعراق، وقلبت نظامي الحكم فيهما، وبدلاً من الاهتمام بتطلعات العرب والمسلمين وشكاويهم، سعت أميركا إلى فرض سيطرتها على المنطقة بأقسى الوسائل، وإعادة تشكيل جغرافيتها السياسية بالقوة العسكرية وفقاً لمصالحها الذاتية ومصالح حليفتها إسرائيل. وفي التعامل مع أوروبا خلال أزمة العراق، سعى دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي إلى التمييز بين "أوروبا القديمة"، أي دول مثل فرنسا وألمانيا اللتين عارضتا السياسات الأميركية، و"أوروبا الجديدة"، أي تلك الدول التي كانت شيوعية تدور في فلك الاتحاد السوفياتي مثل بولندا وتشيخيا وغيرهما التي تتمتع أميركا فيها بتأييد شعبي بسبب الدور التي لعبته في تحريرها من الهيمنة السوفياتية. ولقد نشأ وضع مماثل في الشرق الأوسط، تمكنت أميركا من استغلاله. فالعالم العربي القديم الذي يضم مراكز القوى التقليدية العربية - القاهرة ودمشق وبغداد والرياض - وكلها مستاءة على نحو أو آخر من التدخل الأميركي العنيف. وفي المقابل فإن دول "العالم العربي الجديد"، أي الدول الغنية في الخليج التي رحبت بالقوات الأميركية على أراضيها والتي تبدو سعيدة بالعيش في حماية المظلة الأميركية، ترى التحالف مع الولاياتالمتحدة أمراً جوهرياً يساعدها على التطور نحو قطب إقليمي استراتيجي بعيداً عن مطالب وأوامر ومصائب "العالم العربي القديم". ثمن التدخل لا توجد سياسة امبراطورية من دون ثمن. فإسرائيل والولاياتالمتحدة تدفعان ثمناً باهظاً لحروبهما الاستعمارية. وليس من المبالغة القول إن الرئاسة الأميركية تضطرب تحت ضغط حربها في العراق وخسائرها المتزايدة، إضافة إلى الفضائح المخزية التي أخذت تظهر على السطح. فشعبية بوش في تدهور، في حين تواجه إدارته انتقادات متصاعدة لتعاملها مع الحرب وعواقبها، بحيث تبدو إعادة انتخابه في العام المقبل موضع شك كبير. ولعل الحلقة الأخيرة من المسرحية المستمرة تتمثل في التحقيق الجنائي الذي تقوم به وزارة العدل الأميركية لاكتشاف المصدر الذي سرب إلى وسائل الإعلام الخبر المتعلق بزوجة السفير الأميركي السابق جوزف ويلسون الذي عارض الحرب ضد العراق، كونها عميلة سرية لوكالة الاستخبارات المركزية. وقد يكون البيت الأبيض هو مصدر هذا التسريب انتقاماً من الرجل الذي فضح كذب ادعاء بوش أن العراق استورد اليورانيوم من النيجر. في هذه الأثناء تتابع إسرائيل قمعها الشنيع للفلسطينيين واستيلاءها على أراضيهم غير عابئة بأي اعتراض من جانب أميركا التي تتصرف بالوحشية نفسها في العراق. ترى هل يمكن أن تجهل أن الحقد الذي يتنامى عند العرب والجراح التي تلحقها بمجتمعها لا بد أن تهدد وجودها على المدى البعيد؟ * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.