سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مؤتمر دولي حول أفكاره وكتب جديدة تكشف تناقضات حياته في مئوية ولادته . ادورنو فيلسوف "النظرية النقدية" الالماني يختصر مسيرة الإنسان بين المقلاع والقنبلة الذرية
يبدو أن مدينة فرانكفورت الألمانية خشيت أن يضيع الاحتفال المئوي بميلاد أحد أشهر أبنائها في زحام أو صخب الحادي عشر من أيلول سبتمبر، لذلك قررت أن يكون احتفاؤها بالفيلسوف تيودور أدورنو ممتداً عبر العام كله ولا ينحصر في يوم ميلاده، بل يبدأ بهذا التاريخ. فمن ندوات علمية تناقش راهنية أفكاره، ومعارض تضم مخطوطاته وتؤرخ لحياته في المدينة التي لم يبرحها معظم سنوات عمره، إلى حفلات موسيقية تُعزف فيها المقطوعات التي ألفها، إلى نصب تذكاري في ميدان يحمل اسمه في قلب مدينة المال والبنوك. وبمناسبة مئوية أدورنو نُظمت مؤتمرات علمية، كان أبرزها المؤتمر الذي افتتحه تلميذه الفيلسوف يورغن هابرماس في الأسبوع الأخير من أيلول، وفيه ناقش ثلاثمئة من الفلاسفة والباحثين راهنية أعمال أدورنو، وخصوصاً فكرة "الإرادة الحرة". أما ذروة الاحتفالات بميلاد رائد "مدرسة فرانكفورت النقدية" فستكون في شهر تشرين الثاني نوفمبر عندما يُفتتح في "المتحف التاريخي" بالمدينة معرض شامل عن حياة فيلسوف "النظرية النقدية" وأعماله. تعكس هذه الاحتفالات الجوانب الكثيرة في اهتمامات أدورنو الفيلسوف وعالم الاجتماع والناقد الموسيقي والأدبي. منذ صغره كان أدورنو متنوع الاهتمامات. ومنذ الصغر تنازعه عشقان: الموسيقى والفلسفة. واليوم يقول البعض إن إنجازاته في النقد الموسيقي والأدبي أهم وأبقى من كتاباته الفلسفية. ويؤكدون أن الأجيال اللاحقة قد تنسى "النظرية الجمالية" أو "الجدلية السلبية"، لكنها ستقرأ باهتمام مقالات أدورنو حول فاغنر وغوستاف مالر وشونبرغ، وأيضاً عن كافكا وفالتر بنيامين. ورث أدورنو حب الموسيقى عن أمه مغنية الأوبرا الكاثوليكية، الإيطالية الأصل. أما والده - اليهودي الذي اعتنق البروتستانتية - فكان تاجراً ميسوراً هيأ له أفضل الظروف ليتفرغ للعزف والدرس. عمل أدورنو أولاً مدرساً موسيقياً، وفي الوقت ذاته واصل دراساته الفلسفية وحصل عام 1924 على درجة الدكتوراه بأطروحة عن الفيلسوف إدموند هوسرل. إلا أن الموسيقى جذبته ثانية فرحل إلى فيينا ليدرس التأليف الموسيقي وعزف البيانو. وهناك ألّف عدداً من المقطوعات الموسيقية. لكنه سرعان ما يلحظ أن مقطوعاته لا تلبي طموحاته في النبوغ والتفرد. فينساق ثانية وراء الفلسفة، ويكتب عام 1931 أطروحة عن الفيلسوف كيركغارد ينال بها درجة الأستاذية. في تلك الفترة يقترب أدورنو من دائرة معهد فرانكفورت للبحوث الاجتماعية الذي اشتهر في ما بعد باسم مدرسة فرانكفورت والذي ضم مجموعة من الباحثين المرموقين، منهم عالم الاجتماع ماكس هوركهايمر والمحلل النفسي إيريش فروم والناقد الأدبي فالتر بنيامين والفيلسوف هربرت ماركوزه. كانوا جميعاً يهدفون إلى أن تنزل الفلسفة من برجها العاجي، وتختلط بالعلوم الاجتماعية والتحليل النفسي، ومن ثم تطوير نظرية ماركسية نقدية تصلح للمجتمعات الحديثة. تحت رئاسة كارل غرونبرغ كان المعهد يهتم بدراسة تاريخ الحركة العمالية. وبتولي ماكس هوركهايمر قيادته عام 1931 أضحى علما الاجتماع والفلسفة هما بؤرة اهتمام الباحثين. بعد تولي هتلر الحكم في ألمانيا هاجر أعضاء المعهد - وجلهم يهود - إلى المنفى، إلى جنيف ثم نيويورك، حيث واصلوا دراساتهم. لم يعد ما يشغلهم الآن هو النظرية الماركسية وتجديدها، وإنما الإجابة عن السؤال الملح: كيف وصل العالم "المتحضر" و"المتنور" إلى هذه الهمجية، إلى الحرب وأوشفيتس؟ للإجابة عن هذه الأسئلة ألف أدورنو وهوركهايمر في خضم أحداث الحرب العالمية الثانية كتابهما المشهور "جدلية التنوير" الذي أصبح بمثابة الإنجيل لأتباع مدرسة فرانكفورت النقدية. إذا كان التنوير وفق كانط هو خروج الإنسان من القصور واللارشد، وإذا كان شعار التنوير هو "كن جريئاً في إعمال عقلك"، فإن التنوير وفق أدورنو وهوركهايمر حرر الإنسان من الخرافة والأسطورة، ليجعله فريسة لقوى الاقتصاد والمجتمع التي تلغي فرديته وتحوله إلى ترس في الآلة الانتاجية الكبيرة. في "جدلية التنوير" ينتقد أدورنو وهوركهايمر فلسفة التنوير انطلاقاً من أن الفاشية نبتت وترعرت في قلب أوروبا "المتنورة"، ويرجعان ذلك إلى أن التنوير - المسؤول عن التقدم الاجتماعي والثقافي والمادي - يحمل في طياته أيضاً بذور التخلف والنكوص إلى أشكال بدائية، طالما أصبح كل شيء في خدمة العقل الذي أضحى بدوره محض أداة في يد المنفعة الاقتصادية. بعد أن عاد هوركهايمر وأدورنو إلى ألمانيا وأعادا تأسيس معهد فرانكفورت كان هدفهما "إعادة تربية الألمان" على القيم الديموقراطية حتى لا تتكرر محرقة أوشفيتس. من أجل هذا المشروع بحث أدورنو في أسباب نشوء الشخصية التسلطية، وأسباب الإيمان الأعمى بالقائد. عقب عودته إلى ألمانيا قال قولته المشهورة: "إن كتابة الشعر بعد أوشفيتس عمل همجي"، وهي مقولة أثارت لغطاً كبيراً. لعله قصد بها الشعر المدغدغ للحواس الهادف للتسلية، حتى وإن كانت تسلية فكرية. كان هم أدورنو في تلك المرحلة ليس الشعر على رغم اهتمامه بالأدب، بل دراسة كيف يواجه الإنسان الحديث قوى المجتمع من دون أن يفقد فرديته. ومع ذلك فإن النصوص التي كتبها أدورنو عن الجماليات - بالمعنى الواسع للكلمة - تحتل مكانة كبيرة بين أعماله كماً وكيفاً. ولعل هذا يدهشنا: كيف لفيلسوف جعل همه إعادة تربية الألمان بعد الحرب، فيلسوف يعتبر نفسه ماركسياً نقدياً أن ينسحب إلى مجال جماليات الفن الذي تعتبره الماركسية "ساحة حرب جانبية" في غمار صراعها ضد الطبقية؟ لماذا الانشغال بقضايا الفن إذا كانت قوانين الانتاج الصناعي - أيضاً بالنسبة لأدورنو - هي العدو الرئيسي للمجتمع، أي أن نقد هذه القوانين ينبغي أن يكون جوهر أي نظرية نقدية؟ لكن أدورنو ظل ينظر بتشاؤم إلى مصير الجنس البشري. في كتابه "الجدلية السلبية" رأى أن الإنسان آتٍ من الهمجية، وهو يسير عائداً إليها، وأن التاريخ لا يتطور من "الوحشية إلى الإنسانية"، بل بالأحرى "من المقلاع إلى القنبلة الذرية". ولعل التطورات التي شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن تعطيه بعض الحق في تشاؤمه. الاغتيال المعنوي بهذه الأفكار الناقدة لأسس المجتمع الرأسمالي الغربي أضحى معهد فرانكفورت نقطة جذب للمثقفين الألمان بعد الحرب. في تلك الفترة وصل أدورنو إلى ذروة شهرته ومجده، وأضحى الضمير الأخلاقي لألمانيا. ليس هناك مفكر في ألمانيا كان يدلي بأحاديث لوسائل الإعلام أكثر من أدورنو. وليس هناك مفكر مثله كان ينتقد بضراوة وسائل الإعلام التي عرف - في الوقت نفسه - كيف يستخدمها ببراعة. كان أدورنو ينتقد تدهور الثقافة وتحويلها إلى سلعة وصناعة، كما كان يرثي لحال الجمهور الذي تستغفله وسائل الإعلام ببرامج تافهة بلهاء لا تهدف إلا إلى التسلية. ومع ذلك - وهذا مثال واحد على تناقضات الرجل - كان يعشق مشاهدة حلقات تلفزيونية، ويغضب أشد الغضب إذا أزعجه أحد خلالها. آلاف الطلبة في الستينات كانوا يتقاطرون إلى قاعات المعهد للإنصات إلى فيلسوف النظرية النقدية، منجذبين إلى قوة الرفض والقدرة على قول "لا" في وجه قوى السوق المهيمنة. في البداية تضامن أدورنو مع الطلبة المتظاهرين ضد حرب فيتنام وضد التلوث البيئي والسباق النووي. وعندما قتلت الشرطة أحد المتظاهرين انحاز على الفور إلى صفهم وقال: "يبدو أن طلبة اليوم يقومون بدور يهود الأمس". إلا أن أدورنو كان ينظر بشك وريبة إلى حركات التمرد المصحوبة بالعنف، لذا نفر سريعاً من احتجاجات الطلبة واعتبرها غوغائية. هابرماس يتذكر من يستمع إلى أحاديث أدورنو المسجلة التي تذاع الآن كثيراً في البرامج الوثائقية التلفزيونية والإذاعية، تتيقظ حواسه على الفور، وينصت منبهراً بهذه القدرة الفائقة على الارتجال وصوغ الأفكار الفلسفية العميقة بأسلوب ناصع. إلا أن المرء يشعر بعد لحظات بالعجز عن متابعة هذه الأفكار الرائعة الأسلوب. هذه الخبرة يرصدها أيضاً الفيلسوف يورغن هابرماس في مقال كتبه حديثاً بمناسبة مئوية أدورنو، وهو لا يكتم إعجابه الشديد بشخصية أدورنو، وبالمناخ الأكاديمي المفعم بالحيوية الذي ساد المعهد آنذاك والمناقض للمناخ "الرصين" السائد في الجامعات الأخرى. أدورنو من زوايا عدة وفي مناسبة مئوية أدورنو صدر أكثر من كتاب عن حياته وأعماله، أضخمهم يربو على الألف صفحة من تأليف شتيفان مولر دوم، وصدر عن دار زوركامب التي تنشر أعمال أدورنو. وإذا كان هناك إجماع على أهمية فكر أدورنو - لا سيما في عقدي الستينات والسبعينات - فإن أدورنو الإنسان محل جدل ونقد، وهذا ما تسلط عليه الضوء الكتابات الجديدة، لا سيما كتاب دتليف كلاوسن بعنوان "أدورنو - عبقري أخير". كلاوسن يتحدث عن مغامرات أدورنو العاطفية التي لا تنتهي، وإدمانه العمل الذي كان له بمثابة مخدر يساعده في التغلب على الوحدة والاكتئاب، وكذلك ضعفه الشديد، بل خنوعه أمام رئيسه في معهد فرانكفورت عالم الاجتماع هوركهايمر. لا شك في أن أدورنو مَثلَ سلطة أخلاقية وفلسفية في ألمانيا الستينات، إلا أنه لم يكن إنساناً محبوباً. زوجة هوركهايمر تقول عنه: "إنه أعظم النرجسيين في العالم القديم والجديد معاً". الموسيقار شونبرغ - الذي كان أدورنو معجباً به غاية الإعجاب - لم يكن يطيق حضوره. الفيلسوفة اليهودية حنة أرنت قالت مرة عنه: "هذا الرجل لن يدخل بيتي. إنه أحد أكثر الناس إثارة للاشمئزاز". ومن الكتب الصادرة حديثاً والتي تلقي أضواء على آراء كانت حتى الآن مجهولة للفيلسوف، الكتاب الذي يضم رسائل أدورنو إلى والديه من عام 1939 إلى 1951. هذه الرسائل تتضمن آراء للفيلسوف تثير - على الأقل - الدهشة والإرتياع. القارئ الألماني يتوقع ولا شك في أن يعرب أدورنو عن أمله في هزيمة هتلر بعد أن أُجبرت عائلته ذات الأصول اليهودية على الهرب من ألمانيا النازية عام 1938. لكن أدورنو يذهب خطوات أبعد من ذلك. إننا نقرأ هنا رسائل تنم عن رغبة عميقة في التشفي. مثلاً في رسالة بتاريخ 26/9/1943: "أكاد أقول: أرجو ألا ينتهي الأمر سريعاً، وألا يعقب الحرب انهيار سياسي يحول دون أن يلقى الألمان هزيمة عسكرية جلية، هزيمة تجعلهم يعانون بأنفسهم ما عاناه غيرهم بسببهم". وفي الأول من أيار مايو 1945 يقول: "بدأ يحدث ما تمنيناه منذ سنوات طويلة: ملايين من الألمان لاقوا حتفهم". اليوم وبعد مرور 34 عاماً على وفاته - هل ما زالت أفكار أدورنو راهنة؟ أكسل هونيت، الذي خلف أدورنو في رئاسة معهد فرانكفورت، يرى أن تأثير أدورنو أوشك أن يضمحل وينمحي بصورة شبه تامة بعد أن وصل إلى ذروته خلال الخمسينات والستينات. أما الباحث الاجتماعي أولريش أوفرمان فيعتبر أن الصلة التي أوجدها أدورنو بين نظرية الثقافة والعلوم الاجتماعية ما زالت قائمة. ويرى أوفرمان أن تطورات الثلاثين عاماً الأخيرة أكدت صحة آرائه النقدية. مثلاً تعبير "صناعة الثقافة" الذي سكه أدورنو، ينطبق على أعمال تلفزيونية عدة تُصنّع وفق نموذج معين يوافق هوى الجماهير التي تستهلك الثقافة شأنها شأن أي سلعة أخرى.