عند أقصى الزاوية الجنوبية الشرقية لسنترال بارك، ليس بعيداً من النقطة التي يلتقي بها فيفث أفينو Fifth Avenue مع الشارع رقم 59 Street 59 توجد بركة صغيرة، يطلق عليها سكان نيويورك the pond. وعندما تكون الشمس مشرقة، يتحول المكان المطل عليها الى أجمل أماكن نيويورك، للتمتع بالجلوس الهادئ بعض الوقت وقراءة كتاب مثلاً. عند البركة حيث يمتد جسر حجر عريض، يستطيع المرء الجلوس على مصطبة والاسترخاء على الدرابزين براحة. ولكن من النادر أن يكون المرء وحيداً، وخصوصاً في ظهيرة يوم سبت مشمس في شهر أيلول سبتمبر. إضافة الى العائلات الكثيرة التي تتنزه هناك مع الأطفال، يرى المرء الكلاب والكرات تتقافز على الطريق، فيما يقف السواح على الجسر الصغير بأيديهم الكاميرات، وبالتوازي مع ذلك، تصل الى الأذن من Wollmann Rink، المدرج الصغير لرياضة التزحلق على الجليد الاصطناعي، الممتد الى جانب البركة، موسيقى ممتزجة مع ضحكات المتزحلقين وصخبهم. أحاول التركيز، لكي أستطيع إحصاء الوزات، التي كانت تسبح في البركة. لم يكن الأمر سهلاً، فإلى جانبي كان يتحرك فريق كبير، يصور فيلم فيديو لأحد المطربين الشباب من أميركا اللاتينية. كان عليّ انتظار انتهائهم لكي أتأكد من عدد الوزات: انها ست وزّات فقط. أين البقية؟ تساءلت. انه السؤال ذاته، الذي أوجع رأس هولدن كاوفيلد، بطل "حارس الشيلم" للأميركي سالنجر، والذي جعله في النهاية يسأل المعلم عن مصير الوزات في أيام الشتاء في سنترال بارك، "عندما تكون البركة مجمدة. أسأل نفسي، ما اذا يأتي أحدهم يقود سيارة ويأخذها كلها الى حديقة الحيوانات أو انها تطير الى مكان ما". أتذكر، انه كان يوم السبت أيضاً، عندما عرف هولدن أن علاماته بائسة، وانهم سيطردونه من المدرسة عند حلول أعياد رأس السنة والميلاد. لكن هولدن، الذي كان عمره 16 عاماً، لم يشأ الانتظار، فيقرر الهروب من مدرسته الداخلية في بنسلفانيا. كان يوم السبت، وكان يعرف ان عائلته التي تسكن في نيويورك ستستلم رسالة من المدرسة، في يوم الأربعاء على أبعد تقدير. إذاً ظلت أمامه أيام قليلة، وهو لا يريد أن يراهم قبل ذلك اطلاقاً. هكذا يسافر هولدن بالقطار الى نيويورك، يستأجر غرفة في الفندق ويقضي وقتاً غريباً، بالنسبة الى صبي في عمره، ما زال في سن المراهقة: يطوف في النوادي الليلية والمتاحف، ويتصل بالبنات، ويذهب للتزحلق على الجليد، ثم يسير مترنحاً عبر السنترال بارك، يصعد في سيارة تاكسي، يضربه أحد القوادين وفي النهاية يشعر بسعادة غامرة، عندما يعثر على حظه، ولكن للحظات قصيرة فقط. تلك هي ببساطة أحداث رواية "حارس الشيلم" أو "الحارس في حقل الشوفان" كما ترجمها غالب هلسا، للكاتب الأميركي الذي تحول الى اسطورة، ج. د. سالنجر، إحدى روائع الأدب الحديث، التي مهما تقادمت السنوات، تظل محفوظة في الذاكرة. من ينسى متعته بقراءة الرواية وكله فضول، مشاركاً هولدن في تأمله العالم، ومصاحباً إياه في رحلته الجريئة تلك، مكتشفاً معه الحكمة "الحزينة"، ومتضامناً معه، في غضبه من العالم، لأنه ما عاد يستطيع السير على خطى اخته الصغيرة "فوبي". هولدن، يتحدث وكأنه شاخ في وقت مبكر. تلك هي قوة سالنجر، انه يجعلنا، نتذكر كتابه، مثلما نتذكر سننا تلك. ولأن الواحد مثلنا، شاب شعره، وهو في هذه السن، - كنت أعتقد انني الوحيد - أحببت هولدن، وعلى رغم انه كان يتجول في ذلك الوقت في نيويورك، وأنا كنت حينها في بغداد. ولكن السخرية اللاذعة، التي امتلكها هولدن، جعلته يصبح أكثر قرباً مني، وجعلتني أشعر بقرابته. ليس من الغريب إذاً، أن أبدأ بالبحث عن آثاره في نيويورك وكأنني أبحث عن نفسي في تلك السنوات، وأتذكر سلوكه الساخط على المعلمين، ورغبته بتلطيخ أفواههم وسدها بالعسل: تخيلوا بالعسل. أي تناقض! ليس من الصعب العثور من جديد على الأماكن التي زارها هولدن في نيويورك. في بعض الأحيان يجد المرء الأشياء ذاتها، كما وصفها سالينيجر عام 1951 تاريخ كتابة الرواية. مثلاً الهنود الحمر في متحف التاريخ الطبيعي، الذين يقفون على صفيحة حديد، "طويلة في شكل مرعب مثل صفيحة سيارة كاديلاك". هناك أشياء قليلة اختفت، دولاب الخيول الخشب في سنترال بارك مثلاً، الذي احترق بعد وقت قصير من نشر الرواية، والذي استعيض عنه بدولاب جديد. وفي بعض الأحيان، يكتشف المرء، بأن هناك بعض الأشياء، صحيح انها ما زالت موجودة، غير ان الجو المحيط بها اختلف عما كان عليه سابقاً، كما حصل لساحة سير المشاة في "روكفيلير سنتر". هناك كان هولدن على موعد مع إحدى البنات قبل رأس السنة بوقت قصير. اليوم تحول المكان الى رمز وطني، تخفق فيه الأعلام الأميركية الصغيرة. ولكن في الرواية، يقضي هولدن معظم الوقت في سنترال بارك. من البركة التي جلس عندها، أبدأ بالبحث عن دولاب الخيول الخشب. الطقس لطيف، والشمس مشرقة. ليست الوزات وحدها التي تغيب، إنما تغيب أيضاً جرذان الأشجار السمينة، التي يلتقي بها المرء عادة عند تنزهه في سنترال بارك، والتي لا تخشى منظر الناس. بدل ذلك يواجهني متشرد بلا مأوى، يدفع عربة تسوق مشهد مألوف في كل عواصم العالم، علق على عربته قطعة من الكرتون، كتب عليها: French Kiss Needed. وفي الطريق المؤدي الى دولاب الخيول الخشب أمر بكشك وبمرتفع صغير، توزعت عندهما أعداد من المصاطب الخشب، والبرك الصغيرة، صُفت عليها لوائح خشب صغيرة، بمثابة جسور. أقرأ اللوحة الخشب الوحيدة التي عُلقت هناك: Chess and Checkers House. فأتذكر، بأن هولدن هو الآخر رأى هذه اللوحة، قبل أن يبدأ باللعب هناك. أرى مجموعة من الرجال. أسمع رجلاً عجوزاً أسنانه مهدمة، مسك بيده قنينة، يصيح بصوت عال: "أوه". تحت المرتفع هناك كشك آخر، تأتي منه موسيقى صندوق موسيقى. انه دولاب الخيول الخشب. هناك جلس هولدن كاوفيلد على مصطبة خشب ورأى أخته الصغيرة تصعد الحصان الخشب. ومن دولاب الخيول تأتي أغنية: "دخان يدخل الى عينيك"، ثم يبدأ المطر. انها اللحظة الوحيدة التي يشعر بها هولدن بأنه "سعيد بصورة تفوق التصور"، عند نهاية الكتاب تقريباً. فيقول: "لا أعرف لماذا؟ لكنها تبدو جميلة جداً في شكل ملعون، بالضبط مثلما تدور دائماً بالدائرة، في تنورتها الزرقاء. يا إلهي، كم أتمنى لو استطعت أن أكون مكانها هناك". إذاً نحن وصلنا الى هنا، عند صندوق الموسيقى، الذي أطلق عليه هولدن Jazzy وNutty، والذي يخرج صوتاً شبيهاً بصوته في ذلك الوقت. "هذا هو الجيد في دولاب الخيول الخشب. انها تبعث الأغنية ذاتها دائماً". يقال ان الخيول الجديدة تشبه الى حد ما الخيول القديمة. بدت صدورها بارزة، محفورة بعتلة معدن، وأثناء الدوران يشعر المرء، بأنها ربما تتألم، من حركة العتلة التي تتقدم وترجع مع حركتها. عند نبع قريب جلست بنت صغيرة، ربما كانت في العاشرة من عمرها، تشبه أخت هولدن، بالشعر الأحمر ذاته. كانت تلبس فانيلة زرقاء، تبذل جهداً استثنائياً، لكي تستطيع الجلوس باستقامة، ثم تبعث بحركة من كفيها قبلاً هوائية باتجاه أبيها الذي جلس في مكان غير بعيد، كانت تفعل ذلك مثل نجمة تحيي جمهورها. "هل كان ذلك مفرحاً، أم لا؟"، يسألها الأب. بيت هولدن كان والد هولدن يعمل محامياً لشركة كبيرة، لذلك كان بإمكان عائلة هولدن، أن تسكن في بيت في الجانب الغني من المدينة Upper East Side. في الرواية لا يملك البيت عنواناً معيناً، إضافة الى عدم وجود وصف له في الكتاب أبداً، هناك إشارة وحيدة فقط. فذات مرة يقول هولدن، أن أهله يسكنون في شارع 71. وفي مناسبة أخرى يتحدث، كيف أنه واخته، يستطيعان النظر من الشباك الى فيفث أفينو. بحسب الرواية تتكون البناية التي يقع فيها البيت من 12 طابقاً. وعندما أبحث عن البيت، أجد أن البيت الوحيد الذي تنطبق عليه تلك المواصفات، هو البيت الذي يحمل رقم 3 شرق الشارع 71. لا يبدو البيت راقياً بصورة خاصة، كما هو مفترض في البيوت الموجودة في هذا الحي. البناية عالية، هناك بواب يحرس البناية، وشرفة تتراجع نحو الخلف عند الطابق الحادي عشر. فكرت أنه من غير الممكن في أيامنا هذه التطلع من الشرفة في الطابق 11 ورؤية فيفث أفينو، لأن عند الزاوية هناك مباشرة، انتصبت بناية عالية. أفكر لبرهة، ما الذي سأقوله للبواب لكي أصل للبناية العالية. لو حدث ذلك قبل 11 أيلول سبتمبر، وقبل أن يهجم امراء الظلام على العالم، بحربهم "الشريرة" على نيويورك بالذات، لكان الأمر بسيطاً، ولكن الآن وفي شهر أيلول بالذات، كان الوقت أصبح مساء، فكرت، انها مفارقة بالفعل، ففي الوقت نفسه، وقف هولدن آنذاك، وكان الدخول للبيت بالنسبة اليه، يسبب معضلة أيضاً. كان يريد أن يزور اخته بسرية، من دون أن يحس أهله، وكان عليه أن يخترع قصة للبواب، الذي هو بالمصادفة شخص غبي أحمق. إذاً، يقول لنفسه، انه يريد أن يزور عائلة "ديكشتاين" في الطابق الثاني عشر، ويدعي حينها أن قدمه مكسورة. ماذا أقول للبواب؟ هولدن كذاب خيالي، ماهر، وتلك هي عبقريته، وهو يعرف ذلك. بالتأكيد لن يسمح لي البواب بالدخول، لو استخدمت الحيلة ذاتها. فقلت لنفسي، إذاً لأقول الحقيقة للرجل. وهذا ما فعلته. البواب كما يبدو، يعرف عنوان الكتاب، وظنَّ أنني أستاذ أدب مختل العقل. الصالون أبيض، وفيه الكثير من المرايا، والزهور واللمبات المضيئة. المصعد مؤطر بالخشب. قلت للبواب عندي فضول لأرى من يسكن في الطابق الثاني عشر. أرجع الى فيفث أفينو، مرة أخرى أسير في محاذاة سنترال بارك، فأتذكر المشهد الوحيد في الرواية، حين يسير هولدن مترنحاً، وقد أضاع طريقه، يبحث عن بركة الوزات. أريد أن أذهب مرة أخرى الى هناك، من دون الحاجة الى إضاعة الطريق. لكنني أشعر فجأة أنني أضعت الطريق بالفعل، من دون تعمد، وانني أصبحت عند الجهة الشمالية البعيدة من المكان الذي أردت التوجه اليه، حتى انني بقيت أدور لما يقارب الساعة. عندما وصلت الجسر الخشب الصغير، سمعت صوتاً ضعيفاً يأتي من جهة متزحلقي الجليد عند "الفولمان بينك"، هناك حيث ما زال يسبح بحر الضوء. أتطلع حولي في المكان، فأرى في الجنوب، خلف جدران سنترال بارك ناطحات السحاب ترتفع في سماء الليل، وفي البركة تلمع أضواء فندق البلازا، حيث أقيم. قررت الوقوف لدقائق قليلة أخرى في المكان، أنظر الى أزواج العشاق الذين يمرون بي، والذين لا يستطيعون عبور الجسر الخشب الضيق، إلا متلاصقين ويتبادلون قبلاً. كانت لحظة فريدة شعرت بسعادة غامرة، وتمنيت أن أكون هناك مثلهم.