يقترن اسم ياشار كمال بتشوكوروفا في شكل لا ينفصم. إذا ذكرت أحدهما خطر لك الثاني من فوره. وتشوكوروفا، التي تغطي بقعة واسعة من السهول التي تحيط بها الجبال في جنوبتركيا وتحاذي البحر المتوسط، هي المسرح الذي ما برحت وقائع روايات وقصص ياشار كمال تجري فيه. منذ رواية مميد النحيل، بل قبل ذلك، كان دأب ياشار كمال أن يلاحق المصائر المتلاطمة للناس الذين اختارهم القدر للعيش في تشوكوروفا. هناك حيث القسوة والقتامة. حيث يصارع البسطاء من البشر من أجل البقاء في عالم محفوف بالأخطار أبداً. الآن قرر ياشار كمال أن يغادر تشوكوروفا. في روايته الجديدة التي تحمل عنوان "حكاية جزيرة" بير آدا حكايه سي يدير ظهره لسهول تشوكوروفا الحارقة حيث أفواج العاملين في حقول القطن ينوؤن تحت حر الشمس وغزوات البعوض. يذهب إلى جزيرة بعيدة في البحر التركي على مقربة من اليونان. و"حكاية جزيرة" هي رباعية أنجز منها الكاتب، حتى الآن، جزءين. الجزء الأول يحمل عنوان "انظر، نهر الفرات يسيل دماً" باك، فرات سويو كان آكيور، والجزء الثاني بعنوان: "حيث يشرب النمل الماء" كارينجا نن سو إيجتيغي. ولكن إذا كان ياشار كمال ترك سهول تشوكوروفا وجبالها وأنهارها ليكتب عن العيش في جزيرة فإنه لم يترك ناسها. الناس الذين يقطنون الجزيرة هم أولئك الذين كانوا يقيمون في جهات تشوكوروفا وما حولها. وهؤلاء أجبرتهم ظروف الحياة إلى الرحيل والمكوث في هذه الجزيرة. هم في واقع الحال ضحايا عملية اقتضتها الظروف التي أعقبت الحرب العالمية الأولى. لقد تعيّن ترحيل سكان الجزيرة الأصليين وتوطين قادمين جدد في مكانهم. القادمون الجدد أتوا من نواحي وان وأورفه وحران وبغداد وآرارات وجبل سيبان....إلخ. جاؤوا يحملون سحناتهم ولغاتهم ومذاهبهم ومراتبهم وأساليب عيشهم. منهم الفلاح والأجير اليدوي والهارب من العدالة والطبيب والمغني. هربوا من قسوة العيش وطلباً للنجاة. كانت ثمة حروب ضارية وجوع مقيم وخوف سري ودم مسفوك ورعب أبدي. كانت ثمة صداقة تتفتت وأسلوب عيش يتخلخل وعداوات تنبثق من لا مكان. في المكان الجديد يراد نسيان كل شيء. يتطلب الأمر رتق ما مزقته الصراعات. يتطلب استعادة الصداقة المهدورة والتقارب الإنساني الذي غاب في أخاديد الألم. في المستقر الجديد تشكل الرغبة في الحياة القاسم المشترك وهي أقوى القواسم وأكثرها عمقاً في النفوس. كل شخصية تحمل حكاية. تخفي آثار مأساة. تلتقي الشخصيات وتتبادل الحكايا. تتداخل المآسي وتلتحم لتأخذ شكل نزوع نوستالجي لا يقاوم للعودة إلى الوراء. في عملية استرجاع زمني، فلاش باك، تروي الشخصيات المختلفة حكاياتها وتسرد عذاباتها. المغني الكردي أوسو والطبيب الشركسي سلمان سامي بك والبيطري اللازي جميل والهارب من وجه العدالة التركي حسن وبنات موسى كاظم أفندي والصياد...إلخ. يسمع القارئ من الشخصيات الأهوال التي أصابت الناس في أرواحهم وقلوبهم وعقولهم وأجسادهم. يسمع عن الحروب التي مزقت جذور الناس وقذفت بهم في المجهول. تطفو إلى السطح العاهات النفسية التي ترسخت في الأعماق إلى حد اليأس. هذه شخصيات تأرجحت بين البطولة والخيانة والثراء والفقر والهناء والحزن. هؤلاء الناس كانوا جنوداً وفلاحين وموظفين وتجاراً وأمهات وآباء وأبناء. كانت تربطهم علاقات قرابة وود وتنتشر في صفوفهم المحبة وأواصر التقارب. جاءت الحرب فحطمت إنسانيتهم وجرّدتهم من عواطفهم فتحولوا إلى كائنات بدائية تستطيع أن تقترف كل شيء. في هذه الجزيرة النائية يجتمع الهاربون ليؤلفوا موزاييكاً من أبناء الأناضول الذين أنهكتهم الرحلة الطويلة. لم تنس الشخصيات ماضيها وهي لا ترغب في نسيانه على أي حال. وعلى رغم نسيج التقارب الذي بدأوا يحيكونه معاً فإن أياً منهم لا يرغب في التنصل مما كان عليه في ما سبق. إنهم يحملون معهم، أنى تحركوا، ذكرياتهم المريرة. يتشبثون بها كما لو كانت نعمة لا يمكن التخلي عنها. هؤلاء هم بشر في نهاية الأمر ولم يندثر من أعماقهم تراثهم الروحي الذي كان في نظرهم ثميناً وزاخراً بالمعاني. إنهم هنا الآن ولكنهم يتغذون من تربة الماضي. ينهلون من نبعه الذي لا ينضب. يحمل كل واحد إلى الآخر نفسه. يتبادل الجميع اللغات والأفكار والعقائد. ها هنا، في هذه الجزيرة الغامضة، تتعايش الثقافات المختلفة وتتجاور القناعات التي تبلغ حد التناقض. يقوم ما يشبه حوار حضارات بين مجموعات أثنية وقومية ودينية ولغوية. تحاول الرباعية الإحاطة بتاريخ بلد حاول أن يبني نفسه بعد خراب كبير. هي رصد لتركيا التي خرجت من حرب الإستقلال منهوكة، غارقة في الدم والفوضى. آنذاك كان الموت سيّد الجميع وهو فرض سلطانه بحيث لم يستطع النجاة إلا من تحايل على نفسه. أصبح الناس ضحية أنفسهم والآخرين معاً. في أعقاب الحرب قضت إتفاقية لوزان، في أحد بنودها، على "تبديل" السكان بين اليونان وتركيا. تم إقتلاع ما يقارب مليون شخص من مقدونيا وتراقيا وكريت وتحولوا، بين ليلة وضحاها، إلى لاجئين ضائعين في المتاهات. تلاحق الرواية عملية إسكان الرعايا السابقين في الدولة العثمانية الذين جرى جمعهم من أماكن متفرقة من الأناضول في جزيرة تركية على الساحل الغربي من المتوسط. "جزيرة النمل"، هذا اسمها، كانت موطن اليونانيين من رعايا الدولة العثمانية الذين اقتلعوا من هناك وأجبروا على الرحيل. يحاول السكان الجدد أن يجعلوا من الجزيرة "فردوساً" يسود فيه الإنسجام والتآلف والود. هي جمهورية مثالية يشيّدها المؤلف من حطام الواقع. يجعل المؤلف من الجزيرة الخيالية، المتعلقة بحبال الفانتازيا، نقيضاً مغايراً لما آلت إليه تركيا بعيد قيام الجمهورية. لقد تحولت التركة العثمانية، على يد مصطفى كمال، أتاتورك، إلى كيان مونوليثي، مركزي، يتفوق فيه العرق التركي على سواه. وفي هذا الطريق وقعت عمليات إبادة مرعبة. أبيد الأرمن حيث وجدوا في أماكن سكنهم الذي كان مأواهم منذ غابر الأزمان. قذف بالأكراد في مهاوي الفتك والإستئصال. سفكت دماؤهم في وادي زيلان وديرسم ودياربكر. قتل السريان بالألوف. قتل اليزيديون. قتل اللازيون. قتل العرب. الوطن التركي الذي توطد على أركان جمهورية أتاتورك يظهر بمثابة عقاب للناس الذين ضحوا بأنفسهم لإنقاذ الميراث العثماني من التبدد. كان ينبغي أن تستمر تركيا كحديقة ملونة مؤلفة من لغات وناس وقوميات ومذاهب مختلفة. هذه دعوة ياشار كمال التي يطلقها في كل مناسبة. اللغات المختلفة بالنسبة له مثل بستان من الزهور الملونة. واستبعاد أي لغة أو ثقافة أشبه بإستئصال زهرة من الحديقة. جزيرة النمل التي تتجاور فيها الثقافات هي تلك الحديقة التي يريد الروائي أن تكون مزدهرة على الدوام. ها هنا تنمو الزهور وتتفتح فيما تقتلع جذور الأعشاب الضارة: جذور الشر والشره وظلم الإنسان للإنسان. تنفتح الروايتان على قصص وحكايات تتداخل وتتشعب في سرد روائي يلامس الشعر. تتقارب الحكايات وتتباعد كألوان متنافرة في سجادة واحدة. كان إيليا كازان قال أن ياشار كمال أشبه بمرجل تمتزج فيه الواقعة والحكاية الشعبية والفانتازيا الغريبة لتؤلف شعراً. إنه حكواتي من طراز هوميروس حيث يروي دواخل شعب عاجز عن النطق بإسمه. في الرباعية، كما في كل روايات ياشار كمال، تنتفي الحدود بين الحقيقة والأسطورة، بين الواقع والخيال. القوة التي تمتلكها شخصيات الرواية تأتي من ميل المؤلف الدائم إلى إحاطتها بشبكة كثيفة من الإحالات السردية التي تغوص في الميثولوجيا والأوهام والخرافات التي ما تنفك تتكرر طوال الرواية. عنوان الجزء الأول: أنظر، نهر الفرات يسيل دماً، مأخوذ من قول شعبي في شرق الأناضول، كناية عن الحروب التي وقعت هناك. أما عنوان الجزء الثاني: حيث النمل يشرب الماء، فهو قول منتشر بين سكان البحر الأسود تعبيراً عن حال السكون. حين يهدأ ماء البحر إلى درجة يصير في مقدور النمل أن يشرب منه. في "حكاية جزيرة"، التي لم تكتمل أجزاؤها بعد، يبتعد ياشار كمال عن تشوكوروفا ولكنه يحملها معه إلى هناك. ينظر إليها من بعيد، عبر البحر، ويستعيد مع الراحلين عنها ذكريات العيش التي، على رغم قسوتها، كانت مليئة بالحنان.