عندما يبدأ فيلم بدخول الجيش الاسرائيلي الى شوارع المدينة، وينتهي بهجرة سكانها الأصليين، نعتقد للوهلة الاولى بأن الفيلم يتحدث في محوره الاساس عن القضية الفلسطينية، ومعاناة الشعب الفلسطيني جراء الاحتلال. لكننا نكتشف ان هذا جزء او واحدة من مشكلات عدة اجتماعية، اخلاقية، دينية، تحاصر هذا الشعب وتحديداً النساء اللواتي تبدأ معاناتهن مع موت ازواجهن، ليس نتيجة عمليات استشهادية بل نتيجة حوادث عادية؟ تبدأ احداث الفيلم التسجيلي "محاصرات" عام 1997 بعد توقيع بروتوكول الخليل بين السلطة الفلسطينية واسرائىل، وتنتهي عند بدء انتفاضة الاقصى. اذاً الإناء الحاوي لما سيطرح في الفيلم هو سياسي، لكن التركيز سيكون على ما هو اجتماعي اولاً. ربما كان هذا التوجه غالباً في أفلام المخرج أنات إيفين، وآخرها "بشارة تسوية" الذي ضم مجموعة مشتركة من الممثلين الاسرائيليين والفلسطينيين، لتقديم مسرحية روميو وجولييت، وبين السياق السياسي والشخصي حاول المخرج ان يقول ما يريد عن دعم المسيرة السلمية طريقاً للخلاص. إلا ان الوضع السياسي اختلف في فيلم "محاصرات" وزادت مظاهر القسوة لنرى الاسرائىليين يطوفون الخليل بكرنفالاتهم الدينية، او تظاهراتهم ضد العرب بينما يقف الفلسطيني مكتوف اليدين يُرى صامتاً ممنوعاً من الحركة او التجول في منطقته. نقطة مراقبة وتأكيداً لارتباط الواقع السياسي بالاجتماعي اختار المخرج المكان، وهو بناء يقع على الحد الفاصل بين مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية ومناطق سيطرة الجيش الاسرائىلي، وبمثابة نقطة مراقبة يختلط فيها سكان البناء بجنود الاحتلال. لكن من هم سكان البناء؟ ثلاث أرامل نجوى، نوال وسهام وأطفالهن من دون اي رجل. يعرض المخرج في البداية حياتهن اليومية البسيطة، ثم يدخل الى عمق معاناتهن الاساسية وهي "فقدان الزوج" وما يجره هذا من ضغوط مادية وحصار اجتماعي وأخلاقي يحرّم عليهن اي فعل. لدرجة ان احداهن ترى نفسها ارملة حتى في الحلم، وتحسد اليهود على تمتعهم بالحرية. أولئك النسوة محاصرات حتى من بعضهن بعضاً. نجوى مثلاً تعيش غربة خارجية فهي من القدس ولا تشعر بانتمائها الى الخليل، وغربة داخلية لانكسارها وشعورها بالوحدة. تهرب من واقعها لتمشي في مدينتها ما يشعرها بالارتياح. الشعور بالغربة كان على مستوى تغيير المدينة فكيف يُطلب من اي شخص التخلي عن مكانه؟ ربما لم يطلب هذا بشكل مباشر، لكن يكفي شعورهن بأن الاحتلال فوق رؤوسهن مباشرة. "كل القضية الفلسطينية لم تجد لها مكاناً سوى فوق رأسي؟". وعلى رغم وجود الطرفين في المكان عينه إلا انهما لا يتعاملان مع بعضهما بعضاً سوى ببعض التعليقات من النساء الفلسطينيات المستاءات من سوء تصرف الجنود كالتبول على السطح، ورمي بقايا الطعام والأسلحة وأعقاب السجائر. صورة رجل كل هذه الضغوط تجعل منهن قاسيات ظاهرياً يقاومن ويضحكن، مصممات على اثبات قدرتهن على الصمود وتحمل الأوضاع كالرجال بحسب قولهن، وتربية الأطفال... لكن امام الكاميرا ومع كلمات المقاومة تنهمر دموعهن ويظهر الانكسار. الغريب في الفيلم هو نموذج الرجل، فقد كان خيار المخرج رجلاً مخموراً يمشي في الشارع ويشتم الجنود الاسرائىليين وسط محاولات تهدئة. يحاول الجنود تجاهله في البداية، ثم يجرونه الى السجن وينهالون عليه بالضرب بعدما ازعجهم. ربما كانت حال السكر صادقة، فهي تجعل المرء يخرج ما في أعماقه من مشاعر تجاه الآخر إلا أن الكاميرا لم تلتقط حال الغضب إلا بشكلها الفظ هذا والعشوائي وربما المبتذل... على رغم وجود أشكال أعمق وأصدق. النموذج الآخر للرجل كان غائباً عن الكاميرا وحاضراً من خلال حديث المرأة المتزوجة التي تزور احدى الأرامل، كانت تتمنى موته، حتى طفلها تمنى ذلك لمعاملته السيئة، مادياً ومعنوياً، واتجاهه نحو امرأة اخرى على رغم احساسها بأنوثتها وحزنها لعدم رؤيته لها. لذا هي تشبه الى حد كبير الأرامل، فجميعهن يشعرن بأنوثتهن ويتمنين ممارستها والتمتع بها، لكن الحصار بمجموعة الهموم السابقة يجعل ذلك مستحيلاً. بين جيلين جيل الأمهات هذا يتبعه جيل الأولاد، مجموعة من الشبان محاصرين ايضاً ممنوعين من التجول، يصعدون الى السطح، في البداية لفتهم منظر الجنود وهم يعملون ويراقبون الحي، لكنهم بعدما اعتداوا وجودهم بدأوا يتصرفون بشكل طبيعي. لكن ما هو الطبيعي في ظل هذه الظروف الخانقة؟ كل ما يفعله الشباب محصور بجلسات يدخنون فيها ويلعبون الورق ثم ما هو اختلافهم عن جيل سبقهم؟ نشأ ابناء الجيل على وجود الاسرائيليون في وعيهم، لذا هم معتادون على ذلك. حاول الفيلم طرح هذه الفكرة، لكن الى أي حد طرح سؤالاً أهم، هل سيعتادون عليهم كقوة احتلال؟ في احد المشاهد التقط المخرج صورة الخليل مغطاة بالثلوج، والجميع يلعب. النساء على السطح لا يجرؤن على النزول، اما الاطفال والشباب ففي الشارع، حتى انهم تبادلوا اللعب مع الجنود... واحد من الشبان قال انه لوهلة اثناء اللعب نسي ان الجندي عدوه، لكن الأم ردت ان العدو لئيم ويجب توخي الحذر منه. تعايش في لحظة سلام ولعب استطاع الجانبان نسيان الفوارق والمشكلات وربما تعايشوا لوهلة، لكن ماذا عن لحظات بل سني الحرب؟ انتهى الفيلم عند بدء انتفاضة الاقصى، واختلط الجانبان، وبدأ الجنود الاسرائيليون يقتحمون البيوت، ليضربوا ويراقبوا من نوافذها، باعتبار ان موقع البناء استراتيجي لهم، ما دفع النساء الى جمع ما هو ضروري والخروج من منازلهم قائلين "سنعود عند تحسن الوضع، هذا ان تحسن". ربما كان املهن ضعيفاً في العودة، لكن ما فعلنه لم يكن تخلياً بل اجباراً، وان لم يكن مباشراً. فمع جملة الضغوط اصبح البقاء مستحيلاً. رحلت نوال وسهام من الخليل، اما نجوى فلم يظهرها المخرج في النهاية ربما لأنها من القدس اساساً. ويبقى السؤال، هل يطرح المخرج حقاً فكرة التعايش ضمن هذا الظرف وجملة المحاصرات الخانقة؟