احمد حمروش 1921 - ..... أحد الضباط الاحرار الذين شاركوا في الإعداد لثورة تموز يوليو في مصر. وعندما أطلعه جمال عبدالناصر سراً على أحد منشوراتهم قبل قيامها، شعر بالاعتزاز - بحسب روايته - لأنه هو الذي كان حرر المنشور، وطبعه على ماكينة الحركة المصرية للتحرر الوطني "حدتو" من دون ان يعرف قائد التنظيم. وهو اليوم ينشر سيرته الذاتية السياسية في مجلد مثير للتأمل، تحت عنوان "نسيج العمر" وهي تستحق وقفة نقدية، لا لقيمتها التوثيقية في الاحداث التاريخية باعتبارها شهادة على العصر فحسب، وانما لصدورها عن واحد من كبار الضباط المشتغلين بالكتابة الثقافية للثورة وعنها. فأحمد حمروش أصدر مجلات الثورة الاولى "التحرير" ثم "الهدف" وهو الذي كتب قصتها التاريخية، ودخل سجونها واكتوى بنيرانها الصديقة، وهو الذي أدار بعض مؤسساتها الثقافية المهمة في المسرح والصحافة. واللافت أنه، وهو سليل أسرة متدينة، وقد وصل ابن عمه الشيخ ابراهيم حمروش الى أن يصبح شيخاً للأزهر في عهد فاروق، ثم عزل لفتواه بتحليل دم جنود الاحتلال الانكليز، صار من كبار الضباط اليساريين أو "الحمر" على حد تعبير زميله اللدود أنور السادات، فجمع في نسيج عمره - باتساق عجيب - بين الخطوط الخضر والحمر. ومع أن سوق الكتب المصرية شهدت عدداً كبيراً من مذكرات الضباط ورواياتهم عن أدوارهم الحقيقية والمزعومة في الثورة، وقد سبق لحمروش نفسه أن حرر مذكرات محمد نجيب - أول رئيس لجمهورية مصر- بقلمه، فإن هذه السيرة يمكن ان تعد نموذجاً طريفاً لهذه السير السياسية، لأن محررها من أكثر الذين تمرسوا في فن الكتابة منذ صباهم، وأمضى حياته في رحاب الصحافة والثقافة منتجاً آلاف الصفحات حتى اليوم. وهو يمتلك اسلوباً شيقاً، وخبرة فنية بآليات السرد، وتقنيات العرض، تجعل متابعة نمو هذه المهارة لديه، وكيفية اشباعها، حلقة مهمة في تحليل أطياف الكتابة الصحافية اليوم، اضافة الى لون من الحس المسرحي، الذي اكتسبه خلال خبرته في إدارة المؤسسات المسرحية إبان فورة الستينات، ما يضفي على مشاهده حيوية ونضرة مميزة. كانت العدوى اليسارية يطلق عليها في الجامعات الأوروبية عند منتصف القرن عبارة "أصابته الحصبة" وهي لا يكاد ينجو منها شاب. ومن الطريف ان نقرأ لأحمد حمروش كيفية اصابته بهذا الداء الأحمر: "عندما قرأت خبراً في الصحف أن عضواً في مجلس الشيوخ قدم مشروعاً لتحديد الملكية الزراعية، وجدت نفسي منجذباً إليه، راغباً في معرفة تفاصيله. فقد كان يثير اهتمامي ما اسمعه في "الخوالد" - "قريته" عن تفاتيش الاسرة المالكة في ايتاي البارود، وأسمع عن مظاهر الثراء الفاحش وأقارن بين حال بعض اصدقائي من أبناء القرية الذين لا يملكون ثمن الحذاء ويجبرون على السير حفاة الأقدام... وحال هؤلاء الاثرياء". ثم يحكي قصة زياراته لمقدم هذا المشروع "محمد بك خطاب" في منزله في حي غاردن سيتي الفاخر عام 1945 مخفياً صفته كضابط في الجيش، وتعرفه إلى بعض الرفاق لديه، وتردده على "دار الأبحاث العلمية" وقراءته النهمة لكتب ماركس وانغلز ولينين وبيانات الحزب الشيوعي، ثم تعميق صلته برمز الحركة اليسارية وقادة الفكر الاشتراكي في مصر حينئذ، وامتزاج ذلك بحركة التحرير والكفاح من أجل الاستقلال وكان الجميع يخوضونها، حتى أصبح عضواً في اللجنة المركزية ممثلاً قسم الجيش فيها. ويحكي أحمد حمروش موقفاً معضلياً حساساً اتخذته هذه الحركة عام 1948 عندما قبلت بقرار تقسيم فلسطين، ومحاولاته إقناع زملائه في الجيش بسلامة هذا الموقف، على أساس أنه لا يصدر عن خوف أو انهزامية، وإنما كان على حد تعبيره "دعوة نابعة من إدراك عميق لتوازنات القوى في هذه المرحلة، وبأننا لا يمكننا أن نخوض حرباً وطنية ووراء ظهورنا جنود الاحتلال البريطاني في منطقة القناة". اضافة الى الطابع الأممي المناهض للقوميات الذي كانت تحرص عليه التنظيمات الشيوعية، وما لا يعرف حمروش بنتائجه على هذا الموقف من قيادة بعض الشخصيات اليهودية لهذه الحركات واعترافها الضمني بالطموح الإسرائيلي لتكوين الدولة. ومع ذلك بادر حمروش بمناصرة الحق العربي على طريقته في العمل الثقافي، فترجم كتاباً باسم "حرب العصابات" أهداه الى المضطهدين في أوطانهم، وطبعه - كما يقول - على نفقته الخاصة. ثم أصدر أول كتاب من تأليفه بعنوان "خواطر عن الحرب" حرره اثناء عمله "نوبتجياً" ليلة بعد أخرى في رئاسة المدفعية خلال حرب فلسطين. وبهذا كان مولد الكاتب اليساري والضابط المنشق على موقف زملائه في الحرب يتم في لحظة انصهار بالأيديولوجيا والأحداث الساخنة في آن واحد. ولكن ربما كانت أكثر الاشارات عفوية وصدقاً في استرجاع أحمد حمروش ذكرياته عن أحداث تلك الفترة، ولا بد من أن يكون دأب على تسجيلها في ملاحظات مدونة بالاسماء والتواريخ، لأن الذاكرة لا يمكنها أن تحتفظ بهذه التفاصيل الدقيقة ما يربو على نصف قرن. وليس في وسع الخيال ان يبتكرها ويكسبها قيمة توثيقية، ما يرتبط بالعامل الاقتصادي في قصة اشتغاله بحرفة الترجمة والكتابة، واذا لم يكن الكفاح الوطني ولا المسؤولية التنظيمية هما الحافزان المباشران، بل كان هناك السبب الشخصي الأول: "كان مرتبي 18جنيهاً وعندي بنتان: نادية وسامية، وضاقت بي شقة الاسرة في شارع شبرا، وكان صدر حكم بإخلائي شقة من شقق مصر الجديدة كنت استأجرتها في الباطن من الفنان حلمي حليم وتزوجت فيها وأمضيت فيها ما يقرب من العام، ولم أجد الا شقة في شبرا بايجار قدره عشرة جنيهات، وكان مفروضاً ان نعيش ببقية الراتب مضافاً اليه ما يصلني من ايراد متقطع من أرض "الخوالد". ولم تكن كتابة هذه الكتب تجربتي الأولى، فقد بدأت أمارس الكتابة الصحافية تحت ضغط الظروف الاقتصادية ولم تكن لغتي الانكليزية تسمح لي وقتها بالترجمة الجيدة، فالتحقت بالمعهد البريطاني وبدأت أمارس الدراسة والترجمة معاً منذ عام 1945". ثم يحكي تجربة مقاله المترجم الأول حين بعثه الى مجلة "فصول" التي كان يصدرها الاستاذ محمد زكي عبدالقادر، ونفحه جنيهين اجراً لها. ولعل ثقافة احمد حمروش في "المادية الجدلية" هي التي جعلته لا يغفل أهمية هذا العامل الاقتصادي في حفزه على الانتاج الثقافي بالترجمة والتأليف، وهي التي منعته - دون غيره من كبار الضباط - من استثمار نفوذهم للاستيلاء على قصور أو مساكن الطبقة الارستقراطية بعد تسلمهم زمام السلطة في ما بعد. ثقافة وسياسة تنهمر المعلومات الثقافية والسياسية في هذه السيرة، من دون الاعتماد على أي إطار فني، يجعل منها عملاً أدبياً يندرج في نطاق السيرة الذاتية. فالتداعي والتدرج التاريخي يحكمان عملية التذكر في سردية عامة، والتأملات الشخصية واللفتات الجمالية التي تتميز بها الكتابة الابداعية نادرة. وليس لنا أن ننتظر غير ذلك من كاتب يركز الضوء على استجابته للأحداث العامة ودوره في تلوينها برتوش يسيرة، من موقعه الذي يتوزع بين هوامش الصحافة والمسرح والسياسة، من دون أن يجعل من هذا الموقع البؤرة الاصلية. فزعامة عبدالناصر المستقطبة حضوراً وغياباً هي التي تشد حمروش وتمنعه من اعطاء أهمية مركزية لدوره. فهو لا يستطيع أن يقوم بدور البطولة الذي يتطلبه العمل الفني. وعندما يحكي تجاربه يربطها دائماً بهذا المركز المستقطب. يحكي مثلاً تجربته في إصدار أول مجلة عن رأي "حركة" الضباط الاحرار - قبل إطلاق اسم الثورة عليها باقتراح من طه حسين - فيقول: "حملت ذلك الى جمال عبدالناصر الذي وافق على الفكرة وكنت قد ناقشتها مع أحمد ابو الفتح في جريدة "المصري" حيث تعرفت الى عدد من الكتاب والفنانين والصحافيين الذين اصبحوا من اصدقائي خلال رحلة العمر، عبدالمنعم الصاوي وحسن فؤاد وعبدالرحمن الشرقاوي وعبدالرحمن الخميسي ويوسف أدريس وعبدالرحمن صادق. استقر رأينا على أن تكون المجلة باسم ""التحرير" وذلك قبل شهور من تشكيل هيئة التحرير أول تنظيم سياسي للثورة وحملت العدد الأول الى جمال عبدالناصر في مبنى القيادة في كوبري القبة. وبعد أن تصفحه طلب مني أن أعرضه على زملائه الموجودين من مجلس قيادة الثورة. سمعت منهم آراء متباينة يؤسفني القول إن بعضها كان سطحياً وغير موضوعي. فعدت الى جمال عبدالناصر قائلاً له: "أرجو أن تنقذني من زملائك"، وابتسم ابتسامة عريضة وهو يقول: "إذاً غداً نشتريها من باعة الجرائد". ثم فوجئت يوماً بزيارة أنور السادات وهو يقول مخفياً حديثه بضحكة: "يقولون إن المجلة حمراء". وأشار إلى لوحة اختارها الفنان حسن فؤاد وقال ضاحكاً أيضاً: "وهل هذه هي حمامة السلام؟". وانتهى الأمر بأحمد حمروش الى الاعتقال بهذه التهمة ذاتها. ثم لم يلبث أن أفرج عنه وعمل في إدارة التعبئة في القوات المسلحة، حيث أصدر ثاني مجلة ثورية باسم "الهدف" وحاولت ان تسد الفراغ الذي تركته مجلتا "الثقافة" و"الرسالة" لأحمد أمين والزيات. يقول حمروش: "ولذا جلت على الكثير من المثقفين والقراء. قال عنها سلامة موسى في جريدة "الاخبار": "أنها ملأت مكاناً شاغراً، وأنها تصدر عبر مجموعة من الكتاب يفكرون بالنصف الأيسر من أدمغتهم". ويستطرد احمد حمروش في رواية قصة العدوان الثلاثي على مصر إثر تأميم قناة السويس في الخمسينات، وما صنعه بعد ذلك في المسرح القومي الذي تولاه ومؤسسة المسرح التي عين مديراً لها، شارحاً دوره في توهج حركة مسرح الستينات حتى وقوع كارثة النكسة عام 1967. وهنا أريد أن أتوقف عند فصل مهم من مذكرات احمد حمروش يتصل بدوره النشط والخاص جداً في الاتصال بأنصار حركة السلام في اسرائيل بترتيب من رئيسه السابق في حركة "حدتو" هنري كورييل اليهودي الذي هاجر أو طرد من مصر قبل الثورة واستقر في باريس، لكنه ظل كما يؤكد حمروش، على ولائه لمصر، حتى أنه حصل على خطة فرنسا لغزو مصر في العدوان الثلاثي وسلمها الى خالد محيي الدين الذي أبلغها بدوره الى الرئيس عبدالناصر. وقام كذلك بدور رئيس مع المثقفين اليساريين في مناصرة ثورة الجزائر حتى ظفرت بالتحرير، فأهدى "الفيلا" الكبيرة التي يملكها في الزمالك في القاهرة لتكون مقراً للسفارة الجزائرية في مصر حتى اليوم. يحكي حمروش عن هذه الاتصالات قائلاً: "بدأ هنري كورييل يرتب اتصالاً بيني وبين الاسرائيليين المناصرين للسلام للانسحاب من الارض العربية تأكيداً للبيان الذي سبق أن وقعه المثقفون الفرنسيون وجاء فيه: "الموقعون على هذا يعلنون استعدادهم للمساهمة في عقد اجتماعات دولية تشارك فيها شخصيات عربية واسرائيلية وتهدف الى درس شروط أو أسس عملية تسوية سلمية للنزاع العربي - الاسرائيلي"، ووقعه وقتها فرانسوا ميتران وجان بول سارتر وعدد من الشخصيات الفرنسية. وتعددت الاتصالات حتى التقى حمروش مع "ناحوم غولدمان" رئيس المجلس اليهودي العالمي في منزل الصحافي الفرنسي ايريك رولو المصري المولد ومسؤول قسم الشرق الاوسط في صحيفة "لوموند" الفرنسية. يقول حمروش في مذكراته: "أوضح لي غولدمان أن عنده اقتراحات لتحريك القضية نحو السلام، بدلاً من انفجار عسكري يعرض الطرفين لأخطار شديدة ويزيد العداوة بينهما، وأنه يوجد داخل الدوائر الاسرائيلية الحاكمة عناصر تؤيد موقفه وتسانده. وعندما وصلت أخبار هذا اللقاء إلى أجهزة الإعلام الاسرائيلية تفجرت التناقضات، فأسرعت فور عودتي الى مصر بكتابة رسالة الى عبدالناصر شرحت فيها ظروف المقابلة وما دار فيها فدعاني الوزير أمين هويدي الى مقابلته وأطلعني على تعليمات عبدالناصر، فهو يطلب مني مواصلة الاتصال بغولدمان ومحاولة عقد صداقة معه. وأدركت أن جمال عبدالناصر يتصرف بأسلوب رجل الدولة ويلعب على تناقضات العدو لتحقيق هدفه الأصيل وهو تحرير الأرض العربية المحتلة وإقرار حقوق شعب فلسطين الشرعية". وفي مفارقة واضحة مع هذه الحكمة الناصرية من منظور حمروش يعرض بعد ذلك لقصته مع السادات الذي ارتمى في حضن الاميركيين وحول دفة الاستراتيجية المصرية الى النقيض من عبدالناصر حتى انتهى به الأمر الى نقض كل غزله السياسي والاجتماعي. ويتوقف حمروش عند تجربته في منظمة التضامن الآسيوي - الأفريقي حتى الثمانينات، ما يجعل الفصل الأخير من سيرته ناقصاً هذين العقدين الاخيرين. ويبدو أن تجربة الكتابة تميل الى إعادة انتاج نماذجها بصفة دورية. فهذه السيرة اسفرت عما يشبه ان يكون فصلاً عن دور حمروش في ثورة تموز يوليو، ولم تتجاوز ذلك لتقدم عصارة خبرته الفنية في كتابة سيرة حياته الحميمة. صدرت مذكرات حمروش في منشورات مكتبة الأسرة في مصر الشهر الماضي. * كاتب مصري.