يعاني الوضع المالي في سورية من ضآلة الموارد العامة عموماً والضعف الشديد في الموارد الضريبية وشبه الضريبية خصوصاً بسبب تخلف النظام الضريبي وكثرة الاعفاءات فيه وقصور الإدارة الضريبية عن أداء مهماتها. وكان من الممكن أن يصبح الأمر خطراً جداً لولا الزيادة المطردة في الموارد النفطية التي استطاعت في السنوات الأخيرة أن تعوض النقص جزئياً. وأمام هذا الواقع المالي وبسبب غياب الإرادة والسياسة الجدية والواضحة للقيام بإصلاحات مالية جذرية لزيادة الموارد العامة وتطويرها سنوياً لتغطية حاجات الانفاق العام المتزايدة الضرورية، اتجهت الحكومة وزارة المال ومنذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي وحتى بداية الألفية الجديدة الى ممارسة سياسة انفاق انكماشية لتقليص العجز وعدم استفحال أمر المديونية، كما لجأت الى استخدام أساليب وتدابير محاسبية غير مقنعة أو غير نظامية أحياناً، على رغم ما لهذه السياسات والتدابير من كلفة واثار سلبية في النمو والنشاط الاقتصاديين ومستويات الأجور والرفاه العام والعمالة. على صعيد آخر عمدت الحكومة وخلال فترة التسعينات الى تكوين احتياطٍ نقدي بالعملة الوطنية لا بأس به، لكن هذه العملية لم تسلم من النقد كونها تمت على حساب الانفاق العام وخصوصاً الاستثماري منه وزيادة الاقتراض، وليس بسبب وفرة المواردة. ويصبح النقد أكثر خطورة عندما نكتشف أن هذا الاحتياط النقدي تكون من خلال تغذية حساب الحكومة الدائن لدى "المصرف المركزي" بأموال وواردات كان من يفترض قانوناً أن تذهب لتغطية العجوزات التموينية بدلاً من الاستدانة لتمويلها من "المصرف المركزي" بالذات وتسديد الديون المترتبة على الدولة لدى المركزي أيضاً بدلاً من تدويرها، وهي تتجاوز حالياً في مجموعها وبكثير مجمل المبالغ المودعة في حساب الاحتياط النقدي. وإذا كان من كلمة لا نستطيع اغفالها فهي ان السياسة المالية لا يمكن أن تختزل بالحصول على توازنات شكلية ودفترية، وان عقل الدولة وفلسفة الانفاق العام وخلق المنافع العامة تتجاوز بكثير مدركات العقل المحاسبي، وان حل القضايا المالية المعقدة والخطيرة بأساليب محاسبية، ومهما ارتقت هذه الأساليب، لا يستطيع تحقيق التوازن الحقيقي ولا تنتج منه سوى حال من الارباك والفوضى المالية نعاني منها الآن وقد القت بظلالها على الوضع المالي العام للدولة وأدت في الوقت ذاته الى تراجع خطط الاستثمار والى انعدام السيولة في شرايين الاقتصاد الوطني وقادت إضافة الى عوامل أخرى الى حال من الانكماش الاقتصادي وتباطؤ النمو تبدت آثارهما واضحة على صعيد الاستهلاكين العام والخاص وتفاقم أزمة العمالة. وبالتالي فإن استدراك الموقف وأخذ زمام المبادرة يعطيان للإدارة الاقتصادية ميزة صنع القرار الذي يستجيب حاجاتها بعيداً من الضغوط الداخلية والخارجية في حين ان التردد في مواجهة التحديات والتصدي للمشكلات يولد الوهن في جسم الإدارة الاقتصادية ويفقدها هيبتها ومصداقيتها كما انه لا يفيدها بشيء سوى تراكم الأعباء. وتشكل الواردات الضريبية وشبه الضريبية في الغالبية الساحقة لدول العالم المصدر الأساسي لواردات الدولة وذلك لاعتبارات وطنية واقتصادية واجتماعية. وكانت الحال لدينا هكذا في الخمسينات والستينات من القرن الماضي إذ شكلت من 90 الى 95 في المئة من مجمل الواردات العامة في أعوام الخمسينات، وبلغت 96 في المئة عام 1960 وعام 1965. لكنها تراجعت منذ ذلك التاريخ لتصبح في الموازنة التقديرية لعام 2003 أقل من 30 في المئة من الموارد العامة ويأتي معظمها من الضرائب المترتبة على القطاع العام. وقد عوض عن هذا التراجع بالفوائض الناتجة من نشاط شركات القطاع العام والفوائد والضرائب الناتجة من استثمار النفط التي قدرت بنحو 152 بليون ليرة سورية وشكلت 51.8 في المئة من مجمل الإيرادات المحلية الذاتية في الموازنة التقديرية لعام 2003. ومن خلال نظرة تحليلية للموارد العامة لدينا نلاحظ انها تأتي من ثلاثة مصادر رئيسة: الواردات الضريبية وشبه الضريبية، والفائض المتاح من فوائض القطاع العام، وعوائد النفط "فائض متاح " ضرائب " اتاوة الحكومة" وايرادات استثنائية "القروض". إذا استبعدنا المصدر الرابع الذي نأمل بأن تتراجع نسبته الى الحد الأدنى كونه يمثل العجز ولا يصح أن نسميه ايراداً تبقى لدينا المصادر الثلاثة الأخرى التي تشكل الايرادات الذاتية المحلية. بالنسبة الى الايرادات ذات المصدر النفطي، فهي تشكل المصدر الرئيس للواردات العامة لدينا. ونستطيع القول انها ايرادات غير مستقرة اذ انها تخضع لتقلبات أسعار السوق النفطية كما أنها ذات طبيعة استثنائية وموقتة وتأتي من خلال استهلاك ثروة ناضبة. لذا تقتضي الحكمة أن نركز في المديين المتوسط والطويل على الإيرادات الأخرى الثابتة والمستمرة في تمويل الانفاق العام وتغطيته. أما بالنسبة الى القطاع العام فهو مصدر أساسي للإيرادات سواء من خلال فوائضه الاقتصادية أم من خلال الضرائب المترتبة عليه، لكن هذه الإيرادات ترتبط أساساً بنجاعة القطاع العام واعادة تأهيله الأمر الذي يتطلب استثمارات كبيرة جداً قد تتطلب كامل ايراداته وفوائضه ولسنوات طويلة لا تقل في تقديرنا عن خمس أو ست سنوات. أمام هذا الواقع فان الجهد الأساسي يجب أن يركز على جعل الموارد الضريبية بقدر الإمكان، وخلال فترة زمنية متدرجة، المورد الأساس لتغطية نفقات الموازنة العامة للدولة كونها الوحيدة التي تتمتع بصفة الاستمرار وكذلك بالاستقرار النسبي لجهة عوائدها أكثر من كل المصادر الأخرى، كما انها ذات مرونة ومقومات تتيح استخدامها اداة لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية مباشرة خصوصاً إذا كانت شاملة وعادلة وفاعلة مالياً. لذا يبدو ان العناية بالموارد الضريبية وتطويرها يجب أن تصبح الحجر الأساس في أي سياسة موارد عاقلة ورزينة لدينا وخصوصاً ان العبء الضريبي ما زال في أدنى الحدود وهو أقل بمقدار النصف مما هو عليه في مصر مثلاً. وفي هذا الصدد لنا في تجاربنا وتجارب الدول الأخرى المجاورة وغير المجاورة أمثلة نحتذي بها. فقد استطاع لبنان في السنوات الأخيرة من تطوير موارده الضريبية فضاعفها أكثر من مرة وأصبحت تشكل لديه المصدر الأول لوارداته العامة. كما تمكن هذا البلد من ادخال ضرائب جديدة كضريبة "المبيعات" الضريبة على القيمة المضافة التي قدرت عائداتها لهذا العام بأكثر من 800 مليون دولار وهي مرشحة للزيادة المستمرة من خلال تعميمها. كما استطاع ان يرفع ايراداته الجمركية الى أكثر من بليون ومئتي مليون دولار في حين لا تتجاوز هذه الايرادات لدينا 250 مليون دولار على رغم التماثل النسبي في حجم المستوردات. والإعفاءات الضريبية موضوع أصبح مقلقاً في الآونة الأخيرة، فقد لجأت مختلف الإدارات والوزارات ولأسباب مبررة أحياناً وغير مقنعة أحياناً أخرى الى اعفاءات ضريبية متنوعة بحجة تشجيع النشاط الاستثماري، أو لأسباب أخرى ذات اعتبارات تاريخية لم تعد مقبولة. وقد اتسعت هذه الاعفاءات التي تستفيد منها بشكل أساسي الفئات الميسورة لتغطي أكثر من 50 في المئة من الناتج المحلي إذا استبعدنا مداخيل اقتصاد الظل الذي يتهرب أساساً من التكاليف الضريبية أو الرسوم كافة كما جاء مراراً وتكراراً على لسان كبار المسؤولين الماليين الذين كانوا دائماً يبررون ضآلة الموارد الضريبية بهذه الاعفاءات المتعددة التي تشكل خرقاً كبيراً لمبدأ مساواة المواطنين أمام الضريبة والتي ألقت على كاهل المواطنين والنشاطات التي لا تستفيد من هذه الإعفاءات عبء التكليف الضريبي بكامله، ما جعل البيانات والإحصاءات التي تتكلم عن العبء الضريبي في بلدنا والمقدر ب13 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي ذات دلالة لا واقعية، وهي في الحقيقة تفوق ذلك بكثير على من لم تشملهم الإعفاءات الضريبية. علماً أن الواردات الضريبية تأتي أساساً من القطاع العام بينما لا يؤدي القطاع الخاص سوى جزء يسير لا يتناسب مع حجمه في تكوين الناتج المحلي الاجمالي. وتجدر الإشارة الى انه على رغم هذه الاعفاءات الكبيرة فإن تشريعنا الضريبي خلا تماماً الا بنسبة ضئيلة وحالات قليلة، من الاعفاءات الشخصية والعائلية واعفاءات الحد الأدنى من الدخل التي تركز عليها التشريعات الضريبية المعاصرة والعادلة. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل استنفذنا كل الطرق وأزلنا كل العقبات من أمام الاستثمار والتي في إمكاننا تذليلها ولم يبق أمامنا سوى الاعفاء الضريبي نلجأ اليه؟؟ دلت التجارب العملية عندنا الى ان الاعفاء الضريبي في كثير من الحالات منح للمشاريع ذات الريعية والربحية العالية أو على الأقل بغض النظر عن الأمر. وكان يشكل عنصر استرضاء للقيام بها تعويضاً عن فقدان الشروط اللازمة والضرورية للاستثمار. ونسأل؟ إذا كان الإعفاء الضريبي هو الشرط الحاسم في قرار الاستثمار، لماذا لم تأت الينا الاستثمارات الأجنبية والعربية خصوصاً بعد اصدار قانون تشجيع الاستثمار رقم 10 عام 1991 على رغم اعفائها من الضرائب في الوقت الذي تتحمل فيه هذه الاستثمارات ضرائب وبنسب عالية تصل الى 50 في المئة من أرباحها في بلد كفرنسا أو غيرها من البلدان التي ينشط فيها الاستثمار؟ وبالتالي لماذا لم تضعف مستويات الاستثمارات العربية والسورية في الخارج في أوروبا وأميركا على رغم وجود الضرائب على الأرباح هناك، وتتضاءل لدينا على رغم الاعفاءات؟ ماذا أثمرت سياسات الاعفاء الضريبي بعد سنوات من تطبيقها سوى تكديس الثروات لدى من استفادوا منها وتفاقم أزمة توزيع الدخل القومي؟ يقوم التشريع الضريبي على مجموعة من القوانين والأنظمة القديمة والأقل قدماً اتخذت في أوقات ومحطات زمنية متباعدة وعن مصادر فكرية مالية مختلفة ما أفقدها الوحدة والتماسك والتجانس. لذا يبدو اصلاح تشريعنا الضريبي الحالي أكثر ضرورة وذلك باتجاه العصرنة والحداثة والتماسك والتجانس والوحدة في الرؤية والتشريع بما يحقق العدالة في التكليف والمساواة بين المواطنين والوفرة في الموارد ليصبح فاعلاً على الصعيدين المالي والضريبي وكأداة للسياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة حتى نستبدل بذلك مجموعة القوانين والأنظمة الضريبية ذات الصيغة السيئة والمتناثرة والمبعثرة بنظام ضريبي يستجيب الواقع والعصر وحاجات القطر ويستحق هذا الاسم. وفقاً للتقارير والدراسات التي قام بإعدادها خبراء سوريون وأجانب يتبين لنا ان ضعف إدارتنا الضريبية وتخلفها لا يعادلهما سوى ضعف التشريع الضريبي وتخلفه. لذا أصبحت الحاجة أكبر من ماسة الى اعادة النظر في تنظيم الإدارة الضريبية وطريقة عملها ومهمات أقسامها المختلفة وإحداث مديريات جديدة تستجيب مقتضيات التكليف الضريبي المعاصر وانشاء معهد عصري يتبع وزارة المال لتكوين كوادرها والعاملين فيها وتأهيلهم. ان تثبيت الرواتب والأجور أدى الى عملية تحويل للدخل والثروة من الفقراء الى الأغنياء. ففي عام 1968 ووفقاً للمجموعة الإحصائية لذلك العام كان عدد العاملين بأجر في القطر 450 ألف عامل وعاملة وكانوا يشكلون 30 في المئة من مجمل العاملين في القطر وينالون 43 في المئة من الدخل القومي، أما الآن فإن عدد العاملين بأجر هو في حدود 60 في المئة من مجمل العاملين ولا ينالون أكثر من 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، علماً ان هذه النسبة تصل الى ما بين 50 و70 في المئة في معظم دول العالم وان ايجاد حل هذه المسألة أصبح ضرورة ملحة. فهل من الممكن الاستمرار بهذا المستوى من الرواتب والأجور قياساً الى ما هو قائم في البلدان المجاورة وغير المجاورة؟ ولماذا يستطيع بلد كلبنان أو الأردن أو تونس أو المغرب وهي جميعاً بلدان عربية غير بترولية وضع سياسات للرواتب والأجور معقولة تحافظ على حقوق أصحاب قوة العمل في مواجهة أصحاب رأس المال ولا نستطيع نحن القيام بذلك؟ هل لأن هذه البلدان ذات نظم تقدمية وشعبية أكثر مما هو قائم لدينا وهل الآثار الاقتصادية الايجابية لسياسة تثبيت الرواتب والأجور هي أكبر من النتائج السلبية الاجتماعية المدمرة والاقتصادية الجائرة في نظر المدافعين عنها؟ أليست هذه السياسة في الحقيقة هي النتيجة المباشرة لضعف مواردنا العامة وعجزها وقصور الإدارات التي انيطت بها هذه المهمات وغيرها؟ وهل انتهى عهد ترديد المعزوفة القديمة بأن كل زيادة للأجور تؤدي الى تحريض الظاهرة التضخمية في ظل غياب زيادة الانتاج؟ من الرجوع الى الوراء نلاحظ ان الرواتب والأجور في بلدنا لم تكن في يوم من الأيام مسؤولة عن التضخم بل في كل مرة كان يعمد لزيادتها كان يتم ذلك للحاق بركب الأسعار المتزايدة ولمحاولة تصحيح الغبن والوضع الذي تردى هذا إذا لم نردد مع بعض الاصلاحيين الذين يسألون ما إذا كان على أصحاب الرواتب والأجور وحدهم مهمة مكافحة التضخم وهم أولى ضحاياه وذلك من أجل أن تنتفخ ثروات أصحاب الأرباح والريع. لذلك وبعد كل ما عرضناه وحتى لا يذهب التحليل والعرض الذي قدمناه مذاهب الترف الفكري والاستعراضي لإننا نقترح خطة للإصلاح المالي تهدف الى صوغ سياسة مالية وتطبيقها تتيح: - زيادة موارد الدولة الدائمة الضريبية وغير الضريبية لتستطيع تغطية نفقاتها العامة المتصاعدة الجارية والاستثمارية. - توفير أدوات تدخل مالية لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية ايجابية تتصل بتحفيز الاستثمار وتشجيعه واعادة توزيع الدخل القومي، وذلك من خلال نظام ضريبي متطور وفاعل يتصف بالشمولية ويحقق العدالة في التكاليف والوفرة في الموارد ومن خلال سياسة انفاق جارية واستثمارية ترفع طاقة الدولة في خلق المنافع العامة وتلبي احتياجات الوطن على الصعد الأمني والخدمي والاقتصادي والاجتماعي. ان هذا الوضع المالي الذي عرضناه والذي يعاني مما يعاني أعطى فرصة للنقاد ليمارسوا نقدهم الجارح وشكاواهم التي تتستر بغطاء الموضوعية ولكنها مع الأسف تفتقر الى الأفكار الخلاقة والجديدة وتعالج أوضاعاً مالية مستجدة بأفكار وأدوات تحليل قديمة ومتكررة. إلا أننا نقول لهم إنه خلل وضعف يمكن معالجتهما إذا توافرت الإرادة السياسية وهي متوافرة بأعلى درجاتها، وإذا توافرت الكفايات والكوادر النزيهة والقادرة وعينت وإذا تماسكت القوى الحية والواعية في المجتمع لأن تقدم الشعوب يرتبط بقدرتها على مواجهة التحديات كما قال المؤرخ الكبير توينبي. * سفير سورية السابق في باريس.