باتت العمليات الانتحارية / الاستشهادية التي شاعت اخيراً، وأصبحت تلقى تأييداً ورواجاً في صفوف الشباب العربي المسلم في شكل عام والشباب الفلسطيني في شكل خاص، إحدى الظواهر الاجتماعية والنفسية الخطيرة التي امتنع الكثيرون من زملائي، في الوطن العربي وفي العالم، عن مناقشة أبعادها ودوافعها ومسبباتها في شكل علمي محض. وسكتوا عن الدوافع التي تكمن وراء هذه الظاهرة التي تدفع بشباب وفتيات في مقتبل العمر الى اتخاذ قرار بوضع حد لحياتهم في مقابل ايقاع أكبر ما يمكن من الضرر في الطرف المعادي. ولا أريد التطرق الى الأبعاد السياسية والدينية لهذه الظاهرة، تاركاً الحبل في هذا المجال لما لا يعد ولا يحصى من المفكرين والمحللين والقادة السياسيين ورجال الدين. فاقتصر على دراسة هذه الظاهرة من ناحية علم النفس. بعد دراسة مستفيضة لظاهرة الانتحار / الاستشهاد، وتحليل دوافعها والعوامل النفسية التي تلعب الدور الأهم فيها، يمكن تقسيم الشباب والفتيات الذين "يتطوعون" لتنفيذ هذه العمليات الى مجموعتين رئيسيتين: المجموعة الأولى هي أولئك الذين يبدون طوعاً وعلانية استعدادهم للموت في تحقيق هدف سياسي، أو الانتقام، ولنسمِّها مجازاً مجموعة المستعدين للموت" والمجموعة الثانية، موضوعنا، هي أولئك الذين يبدون رغبة في الموت، ولنسمِّهم مجازاً مجموعة الراغبين في الموت. وتبين من مراقبة سلوكيات عدد من افراد هذه المجموعة، ودراسة تكوينها النفسي، ان أفراد هذه المجموعة هم مرضى نفسيون، بكل معنى الكلمة، يفترض فينا، كمجتمع وأفراد وأطباء نفسيين، مراعاة هؤلاء المرضى، وعلاجهم، وتوفير كل السبل لإخراجهم من المأزق الكارثي الذي يعيشون فيه، وتولد لديهم، عنوة، الرغبة في الموت. وهذه الرغبة تتزامن، في أحوال كثيرة، مع ظروف اجتماعية وسياسية معينة تحول هذا المريض من الراغبين الى سلاح رخيص بيد شخص، أو مجموعة أو حزب أو حركة معينة. وتُستغل هذه الرغبة لكي تحقق على حساب هذا المريض نقاطاً في ساحة العمل العسكري. ومن متابعة عدد غير قليل من هذه الحالات استطعت التوصل الى تشخيص عرضين مهمين يمكن، من خلالهما، التعرّف على هذا المرض وعلاجه. العرض الأول هو اعتقاد الراغب في الموت ان لا معنى لحياته، وأن ليس هناك ما يستأهل العيش من أجله. أما العرض الثاني فهو الاعتقاد الذي يستولي على عقل المريض في ان الحياة أصعب من الموت. ومن تحليل شخصية المقدم على الانتحار / الاستشهاد، كما نشر اخيراً في المواقع المتخصصة على صفحات الانترنت، تبين ان غالب الذين يقدمون على الانتحار / الاستشهاد، يعانون من ظاهرة الشخصية غير المستقلة Personality Dependended Disorder، أو من ظاهرة الشخصية الهامشية Personality Borderline Disorder. وهي الظاهرة الأكثر خطورة، فالمصاب بها يشعر - ناهيك عن الأفكار الوطنية أو الدينية - برغبة شديدة في إلحاق الضرر بنفسه، ومن بين الذين يعانون من هذه الظاهرة يمكن ملاحظة العدد الأكبر من الذين يحاولون الانتحار. وهنا قد يقول قائل - وبصدق - اننا جميعاً يتملكنا الشعور، في لحظات معينة، بأن الحياة أصعب من الموت. وأقول إن هذا صحيح. ولكن الانسان المتزن السليم عقلياً يدرك على الفور ان هذا الشعور ما هو الا شعور لحظة عابر، وناجم عن الضغط النفسي أو الجسدي الذي يتعرّض له. ويمكنني تشبيه ذلك بالذي يسبح في البحر وتغطي رأسه، في لحظات معينة موجة عابرة، لا تدعوه الى التفكير في إغراق نفسه. فالموجة تنحسر وتعود حياته الى طبيعتها. ولكن في حال المريض النفسي يكمن دورنا جميعاً، كمجتمع وأطباء نفسيين، في توفير كل الوسائل الممكنة لهؤلاء لتجاوز هذه الموجات التي تمر على حياتهم، وإقناعهم بأن دقائق اليأس لا بد عابرة، وان أبواب الحياة مفتوحة أمامهم. ولكن، للأسف، بدلاً من معالجة هؤلاء المرضى، تحولت بعض فئات المجتمع العربي والاسلامي في شكل عام، والفلسطيني في شكل خاص، الى عامل مشجع ومؤيد لأولئك الراغبين في الموت. وبدلاً من انقاذهم من الغرق، فإن هذه الفئات تدفع رؤوسهم أكثر وأكثر عميقاً تحت الماء، بوعود ومغريات ساذجة. الدكتور أحمد نجم محيي الدين طبيب نفسي فلسطيني، يتابع دراسات عليا في الطب النفسي في أوروبا، في بحث دوافع الانتحار لدى الشباب