في أي حال ليس دونالد رامسفيلد، ولا جورج بوش تحديداً، ولا عصابة الصقور في الإدارة الاميركية، مؤهلين للحكم على ما تمثله أوروبا، قديمة أو حديثة. خطوة، خطوتان، ثلاث، وقد نسمع واشنطن تطالب بإصلاح الأنظمة الأوروبية، فتدعوها الى اقامة ديموقراطيات لا تراها قائمة الآن الا حيث يصلها التصفيق لسياساتها ولحربها العصيّة على التسويق الأخلاقي. وفي انتظار مثل هذا الاصلاح: ممنوع الكلام، وبالأخص ممنوع الاعترا ض على ما تقرره الولاياتالمتحدة. المسألة بعيدة جداً عن صراع القيم والأفكار، انها حالياً مجرد تنافس بين أرجحية القوة لمجرد اظهار القوة وفرض الهيمنة وبين ترجيح الاستقرار والمعالجة العميقة والهادئة لمشاكل الارهاب والفقر والفساد. ويبدو الأمر كأن الولاياتالمتحدة أصيبت بمسّ جعلها ترمي كل ما تعلمته في عالم ما قبل 11 ايلول سبتمبر لتقبل على بناء العالم "الجديد" بغريزية فاقعة. وفي هياجها المندفع الى الثأر لا تجد حرجاً في تبديد صداقاتها كأنها فقدت الذاكرة ولم تعد تعرف إلا من وافقوا على الطاعة والانصياع، فقادتهم انتهازيتهم الى تغذية الوحش الموتور بما يثير غضبه على أي تمرد أو رأي مخالف. نسيت واشنطن انها في الساعات والأيام الأولى، بعد 11 سبتمبر وبعدما حددت تنظيم "القاعدة" واسامة بن لادن ونظام "طالبان" خصوماً لها، لم تتوقف عن القول ان هؤلاء الأعداء يستهدفون "حريتنا" و"ديموقراطيتنا" و"طريقة عيشنا" و"حضارتنا"... وها هي، في غمرة استعدادها لضرب العراق، تنسى ايضاً هذه القيم، كأن الأرهابيين توصلوا فعلاً الى تدميرها. بل لعلهم أفلحوا في اعادة اميركا الى ما قبل تلك القيم. لذلك بات يصعب على العالم المتطلع الى المستقبل ان يرى فارقاً بين الارهاب ومن يدعي مكافحته. الأمر غاية في البساطة، فالعالم يمقت نظام بغداد ويرغب في نزع أسلحته المحظورة ولا يمانع اطلاقاً اطاحته وتغييره. لكن العالم يمقت اسلوب الإدارة الاميركية ومنهجها لتحقيق هذه الأهداف، ولا يرغب ابداً في حرب ولا يمانع ممارسة أقسى الضغوط على رأس ذلك النظام لكي يتنحى ويفسح المجال لحل الأزمة من دون ان تستخدم اميركا اسلحة الدمار الشامل من أجل ما تدعي انه مجرد نزع سلاح. استطراداً، يرفض العالم قبول فكرة الاجتياح الاميركي للعراق، واحتلاله وتعيين حاكم عسكري اميركي لإدارة شؤونه، كما يرفض ان تسيطر الولاياتالمتحدة على نفط العراق لتتلاعب بالإمدادات والأسعار وصفقات تطوير الحقول الجديدة وإعادة تأهيل محطات الضخ الحالية. كان الغرب يحنق على أي بلد نفطي يحاول ان يبتزه، لكن الاهتراء الاميركي بلغ حدّ ان يدعو احد رجال الكونغرس الى حرمان فرنسا لاحقاً من النفط العراقي. بدأ "صقور" واشنطن منذ الآن ممارسة الإقصاءات ومعاقبة معارضي الحرب. أصبح الجميع في سلة واحدة، عرباً وأوروبيين، مع فارق ان أبناء "القارة القديمة" يعبرون بوضوح عن رفضهم للحرب. فهو رفض مبني فعلاً على اعتبار ان الحرب ستنعكس سلباً على أوروبا بشكل أو بآخر، كما انه رفض منبثق ايضاً من أنشطة مناهضة العولمة، بل انه معبر عن براغماتية ومصلحية تستشعرهما الشعوب وتسترشد احياناً كثيرة بهما، بمعنى ان هذه الحرب كان يمكن ان تكون مقبولة اكثر في أوروبا لو أن اميركا فتحت البازار استجلاباً لدعم الحلفاء، اما ان تتمسك بأنانيتها وتزدري مطالبة الآخرين بثمن لمشاركتهم في الحرب فمن شأن ذلك ان يؤجج المشاعر ضدها. وهي بدأت "الحرب على الارهاب" متسائلة لماذا يكرهنا العرب، لكنها تقترب من ضربتها للعراق وهي متأكدة بأن الكره قد تعمم أو بالأحرى تعولم.