نظمت حركة حماس مؤخراً مظاهرة جمعت الفين او ثلاثة آلاف من انصارها في مخيم جباليا بقطاع غزة، وكان موضوعها مساندة العراق في الحرب المتوقعة ضده، وقد اقترح السيد عبدالعزيز الرنتيسي، القيادي المعروف في الحركة، حلا لمواجهة الاميركيين اذا ما بدأوا عدوانهم ضد العراق، اذ دعا الى تكوين جيش من الاستشهاديين، على غرار استشهاديي حماس، يتولون المقاومة، بدل الاعتماد على الحرب التقليدية والجيش النظامي الذي لا قبل له بمواجهة الآلة العسكرية الاميركية. بداية لا بد ان نقدر هذه المبادرة التي يقوم بها فصيل فلسطيني رفع صوته في زمن سكتت فيه الاصوات العربية حتى عن التنديد الكلامي، خاصة ان الفلسطينيين هم الأولى بالمساندة والمعاضدة في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به قضيتهم. لكن من المستبعد مع ذلك ان يكون لاقتراح السيد الرنتيسي اي قدر من الواقعية او الامل في التحقق على ارض الواقع لاسباب عديدة. اولا، لا يمكن تعميم تجربة المقاومة الفلسطينية، لأنها تجربة مرتبطة بواقع مخصوص، والبعض يظن انه يكفي ان تُنشر افكار استشهادية حتى تقوم مقاومة من صنف مقاومة حماس، ويشترك في هذا الظن الاصدقاء والاعداء في آن. من الاصدقاء من يقول: هذا هو الحل الحقيقي الذي تفتّقت عنه القوة الابداعية للجماهير العربية عندما نفضت عنها غبار التبعية للغرب والتمسك بوعوده الزائفة وفكرت من منطلق هويتها وتاريخها وثقافتها. والاعداء يقولون: هذه هي الصورة الحقيقية للمسلم الذي كان دائما نصير العنف والارهاب وعقبة تحول دون تحقق السلام العالمي. والحقيقة اننا امام تفسيرين من نفس النوع، تفسيرين بالجوهر لا بالاعراض، يتناسيان ان ما يقال اليوم عن حماس والجهاد الاسلامي كان يقال بالامس في حق الجبهة الديموقراطية والجبهة الشعبية. ولو كانت المسألة مرتبطة بالعقائد الاستشهادية الاسلامية لما صح الامر عندما كان "الارهاب" تهمة يجسدها جورج حبش ونايف حواتمة ووديع حداد وغيرهم من المسيحيين. لكن الوضع الفلسطيني هو الذي دفع الى ابتداع الحلول القصوى، لأنه الأسوأ بين اوضاع الاحتلال، والاكثر عسرا في طرق معالجته، والاكثر تشعبا وارتباطا بمصالح الكثير من القوى والاطراف. فالحل الاقصى الذي انتهجه الفلسطينيون، سواء ساندناه ام انتقدناه، اعتبرناه ارهابا ام مقاومة، دعونا الى تكثيفه ام الى تخفيفه، انما هو حل فرضته اوضاع مخصوصة، ولا يمكن ان ينقل الى اوضاع اخرى الا اذا كانت من نفس الصنف، وهذا ما لا يستقيم في الحالة العراقية. صحيح ان العراق تعرض الى ابشع انواع الاعتداء. فالحرب السابقة كلفته بين 150 ألف الى 200 ألف ضحية، عدا عن النتائج الاخرى التي اعقبها القاء ما يوازي سبع مرات ونصف القنبلة النووية التي سقطت عل هيروشيما، من تدمير كامل لبلد كان مزدهرا، وحصار اقتصادي اجرامي منع الاطفال من الدواء والغذاء وأسفر عن اكثر من مليون ضحية، وامراض فتاكة ستتناقلها الاجيال بسبب استعمال اسلحة مشعة محرم استعمالها دولياً ضد المدنيين، الى اختراق يومي للحدود دون قرار واضح من الشرعية الدولية، الى غير ذلك. اما الحرب التي تنتظره اليوم، فهي ستكون على مآسٍ اخرى اكثر خطراً. فعدا ان الكرامة ستداس عندما يدخل الجيش الاميركي الاراضي العراقية في القرن الواحد والعشرين كما دخلها الانكليز في القرن العشرين، يتمثل الخطر الاعظم في امكانية انفجار العراق الى كيانات تدخل بعد فترة في منازعات ذات صبغة عرقية او دينية او مذهبية او مزيج بين هذه جميعاً، خصوصاً ان الثروات الكبرى التي يزخر بها البلد لا بد ان تثير المنافسات والاطماع، وان القوى الخارجية ستكون متربصة تنتهز كل فرصة لاستغلال الاوضاع وتحقيق مصالحها. لم يختر الشعب العراقي غزو الكويت حتى يستحق كل هذا الشقاء. فقيادته الديكتاتورية لم تنشأ عن استفتاء شعبي او انتخاب ديموقراطي او شرعية تاريخية، وهذا هو وجه الاختلاف عن الوضع الفلسطيني. فمهما قيل عن الاخطاء المتراكمة التي ارتكبتها القيادة الفلسطينية منذ الستينات الى الآن، والتي يجسدها السيد عرفات، كما يجسد ايضاً العديد من المكاسب والنجاحات، فلا احد يمكن ان يحمّل هذه القيادة مسؤولية الاحتلال او العلاقة العضوية بين اسرائيل والغرب او المشروع الاستيطاني والهجرة المتواصلة الى الاراضي المنهوبة. فهذه كلها امور لا يتحمل تبعاتها لا الشعب ولا القيادة، لذلك فإن الهوة التي قد تفصل احيانا احدهما عن الآخر تلتئم بسرعة في حالة الخطر الاقصى، في انتظار ظروف افضل تسمح بالمحاسبة. اما في الحالة العراقية فمن المرجح ان الهوة لن تردم، حتى اذا ما دخل الجيش الاميركي بغداد. لنقارن بين تصرف صدام حسين في بداية المواجهة الماضية وتصرفه اثناء الازمة الحالية. قبل حرب 1991 رفض المبادرات العربية، من مصر ومن الاردن ومن الجامعة العربية ومن اتحاد المغرب العربي، ورفض مبادرة الاممالمتحدة التي جاءه بها امينها العام الاسبق بيريز دي كويّار في زيارته العراق، ورفض المبادرة الفرنسية، ورفض عشرات النداءات التي توجه اليه بها عشرات المخلصين من المثقفين العرب ومن اصدقاء العراق في العالم ليجنب بلده حرباً نتيجتها الخسران والدمار، ورفض المبادرات الفردية التي قامت بها شخصيات ذات صيت عالمي مثل مبادرة الالماني ويلي براندت والاميركي جيسي جاكسون. رفض ايضاً نصيحة المحنكين من الديبلوماسيين الذين اشاروا عليه بأن يقوم بانسحاب جزئي من الكويت ليخلط الاوراق ويتفادى الحرب، رفض النصائح الروسية، وتحديداً نصائح بريماكوف المعروف بصداقته للعرب، بأن ينسحب في اللحظة الاخيرة لتفادي الحرب. رفض ذلك جميعاً في صلف وغباء لا مثيل لهما في التاريخ. اما اليوم فهو يقبل كل شيء: حضور المفتشين الدوليين، الانصياع الى كل قرارات مجلس الامن التي رفضها سابقاً، الاعتذار للكويت، تفتيش القصور الرئاسية، التخلي عن كل الاسلحة حتى تلك التي لا مانع في القانون الدولي من امتلاكها. بل وصل به الامر الى دعوة وكالة الاستخبارات الاميركية الى ارسال مفتشين من رجالها للتأكد من خلو العراق من اسلحة الدمار الشامل، مع انه كان طرد سابقاً لجنة التفتيش الدولية لأن بعض اعضائها مرتبط بتلك الوكالة. لماذا هذا التحول الكلي في الموقف؟ هل خانته البطولة الآن؟ هل ان خسارته في الحرب المتوقعة هي اكثر تأكدا من خسارته في الحرب السابقة، وانه كان في الاخرى يتوفر على حظوظ اكبر؟ لا اعتقد الجواب هذا ولا ذاك. الجواب الحقيقي هو التالي: في 1991 كان صدام يعلم جيدا ان الخسارة ستلحق بالبلد وبالشعب، بالبنية التحتية وبالثروات وبالقدرات، اما نظامه وعرشه فلن يسقطا، لأن طبيعة التحالف الذي قام بالحرب آنذاك، وايضاً طبيعة العلاقات الدولية في ذلك الظرف، هي من العوامل التي كانت تمنع تقدم الاميركان الى بغداد لاطاحته. لذلك لم يبتئس كثيراً وهو يرى البلد يدمر طالما انه سالم واهله وحاشيته، اما اليوم فهو مدرك ان الامر مختلف، وان الحرب المتوقعة رسمت غايةً لها حكمه وشخصه، لذلك يتصرف تصرفاً مختلفاً، ويعلن استعداده لتقديم كل شيء مقابل ان يحتفظ بالسلطة، او بالقليل الذي بقي له منه. واذا ما وقعت الحرب فعلا فلن يكون صدام على رأس الاستشهاديين للمقاومة، ولن يوجد جيش من هذا النمط، ولا حتى فصيل واحد. إنه سيلقي السلاح كما القى الجيش النظامي السلاح منذ اللحظات الاولى لحرب 1991، لأن الشعوب لا تقاوم تحت القيادات الظالمة، ولا تشارك في حروب لم تستشر بشأنها ولا هي مقتنعة بجدواها. ولسوف تأتي المقاومة العراقية بعد صدام وليس في عهده، لذلك اخشى ان دعوة الرنتيسي ستبقى الآن مجرد امنية غير قابلة للتحقيق.