Rony Brauman ed. Israel, Palestin: Le Livre Noir. إسرائيل، فلسطين: الكتاب الاسود. La Decouverte, Paris. 2002. 236 pages. رغم ما قد يوحي به عنوان هذا الكتاب، فانه لا يقيم، في نصوصه علاقة مساواة بين اسرائيل وفلسطين في سجل انتهاكات حقوق الانسان. فكما يوضح روني برومان في مقدمته وهو من ابرز المثقفين الفرنسيين اليهود المنتقدين للسياسة الاحتلالية التوسعية للدولة العبرية فان انتهاكات حقوق الانسان ليست مظهراً عارضاً في تاريخ هذه الدولة، بل هي سمة ثابتة في المشروع الصهيوني منذ شرع يخرج الى حيز التطبيق العملي. فالصهيونية منذ رأت النور وهي ترزح تحت ثقل ازدواجية جوهرية عضال. وهذه الازدواجية هي الخاصية الاكثر تمييزاً للصهيونية عن غيرها من ايديولوجيات مفصل القرن التاسع عشر/ القرن العشرين. فالصهيونية هي في آن معاً حركة تحرر قومي وحركة استعمار. حركة تحرر قومي للشعب اليهودي، وحركة استعمار للشعب الفلسطيني. وصحيح ان مؤسسي الحركة الصهيونية قد سعوا الى التملص من هذه الازدواجية عن طريق رفعهم للشعار القائل: "أرض بلا شعب لشعب بلا ارض". لكن تطبيق هذا الشعار، اذ اصطدم بالوجود المادي للشعب الفلسطيني، حكم على الصهيونية بذلك التناقض الجذري الذي بات علامتها الفارقة الاولى: فهي لن تحرر الشعب اليهودي ولن تقيم له دولته القومية الا بقدر ما ستضطهد الشعب الفلسطيني وتجرده من ارضه القومية. ومن هنا، وعلى رغم الطابع الديموقراطي للدولة العبرية، فان سجل تاريخها حافل بالجرائم الكولونيالية تجاه الفلسطينيين، وبالتمييز العنصري والديني تجاه من صاروا منهم مواطنين اسرائيليين 20 في المئة من اجمالي تعداد سكان اسرائيل، وهو التمييز الذي كان ولا يزال محتوماً وان لم يكن بالاصل ارادياً شأن الدولة "اليهودية" في ذلك شأن كل دولة تخلط الدين بالسياسة وتتخذ الدين بما هو كذلك قومية. هذا "الكتاب الاسود" لا يضع اذاً الانتهاكات الاسرائيلية والانتهاكات الفلسطينية لحقوق الانسان في سلة واحدة. لا من حيث الكيف: فالانتهاكات الاسرائيلية تأخد في الغالب أبعاد جرائم حرب، ولا من حيث الكم: فهي تشغل ثلثي الكتاب مقابل ثلث واحد للانتهاكات الفلسطينية، وتستأثر بعشرة تقارير مطولة مقابل ستة قصيرة لهذه الاخيرة. ومع ذلك فلنا ان نتوقع ان يكون هذا الكتاب الاسود مرفوضاً، لا من قبل المتطرفين في الجانب الاسرائيلي وحدهم. بل كذلك من قبل المتطرفين وحتى المعتدلين في الجانب الفلسطيني والعربي، وذلك بقدر ما يغيب عن هذا الجانب الاخير درس النسبية، وبقدر ما تسود فيه بالاجمال نزعة اطلاقية يتعذر عليها ان تفهم ان الحق المشروع في مقاومة الاحتلال ليس بحد ذاته ضمانة ضد ارتكاب انتهاكات في مجال حقوق الانسان، لا سيما في اطار ثقافة كالثقافة العربية لم تنضج فيها بما فيه الكفاية بعد ثقافة حقوق الانسان. واياً ما يكن من امر فان "الكتاب الاسود" لا يتضمن اية وجهة نظر شخصية: فنصوصه انما هي وثائق وتقارير صادرة عن اهم اربع منظمات دولية لحقوق الانسان وهي منظمة العفو الدولية، والاتحاد الدولي لرابطات حقوق الانسان ، ومرصد حقوق الانسان، وصحافيون بلا حدود. وكذلك عن اربع منظمات محلية، اسرائيلية وفلسطينية، لحقوق الانسان، وهي: بيت سلم، واللجنة العامة ضد التعذيب في اسرائيل، والمركز الفلسطيني لحقوق الانسان، والمراقب الفلسطيني لحقوق الانسان. وبديهي ان تقارير هذه المنظمات الثماني لا تغطي كل تاريخ انتهاك حقوق الانسان منذ قيام الدولة الاسرائيلية عام 1948، ولا حتى كذلك منذ قيام السلطة الفلسطينية عام 1996، بل حصراً منذ اندلاع الانتفاضة الثانية في ايلول سبتمبر 2000. وباستثناء تقرير منظمة العفو الدولية ذات الصبغة العامة فان تقارير سائر المنظمات قد تناولت جوانب محددة او حالات خاصة من انتهاك حقوق الانسان في اسرائيل وفلسطين، كتقرير "بيت سلم" عن "هدم البيوت وتدمير الاراضي الزراعية" وتقرير "صحافيون بلا حدود" عن "انتهاكات اسرائيلية لحرية الصحافة" وتقرير "اللجنة العامة ضد التعذيب في اسرائيل" عن "التعذيب في اسرائيل" و"تقرير الاتحاد الدولي لرابطة الانسان" عن "وضع الاقلية الفلسطينية في اسرائيل" وتقرير "المركز الفلسطيني لحقوق الانسان" عن "حرية التعبير في فلسطين" وتقرير "المراقب الفلسطيني لحقوق الانسان" عن "عقوبة الموت في فلسطين". ومن الجانب الاسرائيلي، وسواء من جانب القوات النظامية ام المستوطنين، فإن قائمة انتهاكات حقوق الانسان تبدو لامتناهية، وكثيراً ما توصف من قبل "منظمة العفو الدولية" او "مرصد حقوق الانسان" بأنها "جرائم حرب" و"جرائم ضد البشرية". هذه الانتهاكات تحصرها تقارير المنظمات الدولية بما يلي: 1ً- انتهاك الحق في الحياة والاستعمال المفرط للقوة من قبل قوات الدفاع الاسرائيلية، مما أدى الى وقوع المئات من القتلى في صفوف المدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال والنساء. وتبعاً لتقرير منظمة العفو الدولية فإن اكثر من 600 فلسطيني سقطوا قتلى، واكثر من 3000 سقطوا جرحى، خلال ستة اسابيع فقط من بداية عمليات توغل مدرعات الجيش الاسرائيلي في الأراضي التابعة للسلطة الفلسطينية في 27 شباط فبراير 2002. وطبقاً لتقرير آخر للمنظمة نفسها، فإن 80 في المئة من الفلسطينيين الذين قتلوا في الأشهر الأولى من الانتفاضة الثانية، وقبل بداية عمليات الاجتياح الواسعة النطاق، سقطوا خلال التظاهرات، وفي ظروف لم تكن فيها حياة رجال الأمن الاسرائيليين معرضة للخطر. والحال ان مقابلة احجار المتظاهرين برصاص حقيقي أو مطاطي، وايقاع عدد كبير من القتلى والجرحى في صفوفهم، بمن فيهم الأطفال منهم يمثل، حسب تعبير منظمة "بيت سلم" الاسرائيلية، اخلالاً خطيراً ب"مبدأ التناسب" الذي يقضي بأن الرد من جانب قوات الأمن ينبغي ألا يتعدى حدود الخطر الذي قد يتعرض له أفرادها. ومن ثم فإن مسؤولية قتل تلك الاعداد الكبيرة من المتظاهرين، خصوصاً من الاطفال، ينبغي تحمليها الى قيادات الجيش الاسرائيلي التي أمرت باستعمال الرصاص لتفريق تظاهرات كان يمكن ان تُفرّق بوسائل اكثر سلمية. 2ً- اللجوء المنظم الى عمليات الاغتيال والتصفية المادية من خارج اطار القانون، وهو ما يتنافى مع أبسط مبادئ دولة القانون التي تدعي اسرائيل أنها تمثلها. 3ً- اللجوء المنظم ايضاً الى مبدأ العقاب الجماعي، وهو مبدأ مشجوب في القانون الدولي وفي شرعة حقوق الانسان ولا يمكن وصفه إلا بأنه من مخلفات القرون الوسطى. 4ً- هدم البيوت وتدمير الأراضي الزراعية الذي يشكل بدوره خرقاً خطيراً للمادة الثالثة والخمسين من ميثاق جنيف الرابع التي تنص على ان السلطة المحتلة محظور عليها ان تدمر الأملاك المنقولة أو غير المنقولة، العائدة فردياً أو جمعياً الى السكان الذين يقعون موقتاً تحت احتلالها. 5ً- استخدام الدروع البشرية، خلافاً ايضاً لنص المادة 28 من ميثاق جنيف الرابع. 6ً- الاعتقال التعسفي واساءة معاملة المعتقلين والتعذيب. 7ً- اطلاق النار على سيارات الاسعاف المدني ومنعها من نقل الجرحى والقتلى. 8ً- قطع مياه الشرب واسلام الكهرباء والهاتف عن السكان المدنيين وفرض حظر التجول الدائم مع ما يترتب على ذلك من قطع للامدادات الغذائية. هذا من الجانب الاسرائيلي. اما من الجانب الفلسطيني فإن أول ما تدينه منظمات حقوق الانسان الدولية هو الاعتداء على حياة المدنيين الاسرائيليين وتنفيذ عمليات انتحارية ضدهم. وطبقاً لتقرير منظمة العفو الدولية، فإن اكثر من 350 مدنياً اسرائيلياً لقوا مصرعهم منذ اندلاع الانتفاضة الثانية وحتى تاريخ اعداد التقرير في تموز يوليو 2002، علماً بأن اكثر من 60 ضحية منهم كانوا دون الثامنة عشرة من العمر، واكثر من 60 ضحية ايضاً فوق الستين. وهي تلاحظ، وبنبرة قاطعة، ان حق مقاومة الاحتلال حق مشروع، ولكن فقط بمقدار ما لا يستهدف السكان المدنيين. والحال ان العمليات الانتحارية تستهدفهم تحديداً بما هم كذلك. واذ تدين منظمة العفو هذه العمليات، فإنها لا تماري في ان لها سياقاً سياسياً ونفسياً مرتبطاً بظروف الاحتلال والقهر الاسرائيلي. وبعمليات الاغتيال التي تنظمها السلطات الاسرائيلية نفسها ضد المقاومين الفلسطينيين. لكنها تلاحظ انه أياً ما تكن الانتهاكات التي يمكن تحميل مسؤوليتها للسلطات الاسرائيلية، ومهما يكن من مداها ودرجة خطورتها، فإنها لا تبرر الرد عليها بقتل المدنيين الاسرائيليين. ولا تنكر المنظمة ان هناك في صفوف الفلسطينيين انفسهم من يدينون العمليات الانتحارية ومن يشككون في جدواها أو "انتاجيتها" السياسية، لكنها تلاحظ، بنبرة آسفة هذه المرة، ان صوت هؤلاء المعارضين من الفلسطينيين يظل أخفت بكثير من صوت المؤيدين لها. ولهذا تستشهد في تقريرها بالنقد الذي وجهته حنان عشراوي الى تلك العمليات، وكذلك بإدانة ادوارد سعيد لها في مقال نشره في أيار مايو 2002 وقال فيه بالحرف الواحد: "ان العمليات الانتحارية قد شوهت النضال الفلسطيني وأفقدته حظوته. فجميع حركات التحرر الوطني في التاريخ اكدت انها تناضل من أجل الحياة لا من اجل الموت. فلم َ نكون نحن الاستثناء؟ فكلما بكّرنا في تربية أعدائنا الصهيونيين بإظهارنا لهم ان مقاومتنا لاحتلالهم تعادل عرضاً بالتعايش والسلام، تضاءلت قدرتهم على ان يقتلونا بحرية، وتضاءلت ايضاً قدرتهم على ألا يتكلموا عنا إلا كارهابيين". يبقى ان نقول ان تقارير المنظمات الدولية تتحدث ايضاً عن "ثغرات في النظام القضائي الفلسطيني" وعن عمليات اعتقال عسفية، وعن أعمال تعذيب ضد المعتقلين، وحتى عن عمليات اغتيال ضد بعض المعارضين للسلطة الفلسطينية، وكذلك عن عمليات تصفية متبادلة بين "الاجهزة".