يأتي سرد أحداث رواية "ليل مدريد" دار المدى، دمشق، 2003 للناقد المصري سيد البحراوي على لسان امرأة، ما يجعلها تتأرجح بين تيمة المذكرات الشخصية من جانب واختراق المألوف من جانب آخر. إلا ان ذلك التأرجح لم يقف أمام بنية روائية متماسكة، وربما تكون روح الناقد الكامن لدى المبدع رفرفت بقوة في فضاء النص. فمنذ البداية تعطينا هناء مفتاح الرواية فتوحي بأن تلك الاوراق ما هي إلا مذكرات حيث تقول: "أكتب لنفسي فقط، فربما استطعت ان افهم ما أنا فيه بعد ذلك الوصف الفظيع الذي قدمه الطبيب النفسي لحالتي. ليس مهماً اسم المرض الذي ألصقه بي، اريد أن اقول له إنه لا يفهم شيئاً". وفي تضاعيف الرواية سنجد ان هناك اشكالاً تنساب فيها اعترافات على هيئة بوح. والفارق بين المذكرات والبوح، أن الاولى تُكتب ولا تفترض ان هناك قارئاً معيناً تتوجه إليه، فهي كتابة على سبيل تثبيت الواقعة، وحفظها من ذوبانها في ظلمات النسيان. اما البوح فيفترض أن هناك شخصاً، او مجموعة اشخاص مباشرين وسيتم امامهم طقس البوح. ومن المفترض ان الشكلين يستدعيان طريقتين في التقنية وفي الروح التي تقف وراء الكتابة. ولأن الشكلين - هنا - يندمجان ويمتزجان في ما يشبه الطلقة الواحدة، الا اننا نستطيع ان نكتشف الاختلافات التي تفصل بين هذا وذاك، بين دقة المذكرات "التثبيت" والبوح وتداعياته في ما يشبه "الطقس". وكون أحداث الرواية وحكاياتها ومساحات التأمل المبثوثة فيها، مروية على لسان "هناء"، ما يوحي بأن الراوي الخارجي المؤلف قادر على ضبط المستويات التي تنساب فيها مسارات السرد المتعددة، والتحكم في بنيتها بحسب مناطق الانفعال الحادة والعاطفية، أو المساحات التي تحتاج الى نوع من التعقل، أو ملء الفراغات - احياناً بمعلومات ضرورية عن البطلة - السارد الاساسي - تحكيها بنفسها، عن طفولتها وعائلتها ودراستها، وعلاقاتها المتشعبة والمتعددة والمعقدة. ويتضح من الرواية ان هناء تعاني اضطرابات كثيرة، تعود الى التنشئة الاجتماعية المشبوهة والمرتبكة، إضافة الى التفكك الاجتماعي على المستوى العام، وانهيار القيم. هناك مستويان من الادراك يتداخلان ويتمازجان: الاول هو وعي "هناء" السارد الاساسي في الرواية، ثم وعي المؤلف ذاته. وإن كان الفصل - هنا - بين الادراكين هو لمجرد الفحص النقدي، الا اننا سنلاحظ ان شخصية "هناء" بوعيها وقدرتها على ارسال الاقطار وادارة الاحداث لم تنصهر داخل وعي المؤلف، وأزعم أن اختلاط أو امتزاج الوعيين لم يؤثر في وضوح الفارق بينهما، إضافة الى وضوح الشخصيات الاخرى مثل الزوج والخال والعشاق والاب والأم والاخوة والاصدقاء. بل على العكس، فإن تدخل الراوي - المؤلف في ادارة الصراع اعطى ثقلاً ما بصفته هو خالق النص - اساساً - بأحداثه وشخصياته والاماكن القاهرةومدريد التي دارت احداث الرواية فيها، وأظن ان هذه الخاصية وهي التداخل المدروس بين مستويات الادراك، اصبحت منجزاً رئيسياً يحسب للرواية الجديدة في مصر والعالم العربي، ونلاحظ ذلك عند كتاب كثيرين اثبتت كتابتهم حضوراً ابداعياً قوياً. تتبع الرواية عبر خطاب هناء سيرة حياتها، مع ابداء احتجاجات عدة لهناء على هذه الحياة وتشككها في صحة ما تعيشه طفلة صغيرة تتعلق بالخال، الى درجة الاشتهاء والممارسة الجنسية الناقصة. ويظل هذا الخال هو الرجل المستحيل الذي تبحث عنه هناء في المدرسة والجامعة والحياة العامة، الى أن تجبر على الزواج من رجل سرعان ما تكتشف افتقاره الى ذلك الحنان المطلوب، فضلاً عن شذوذه جنسياً ولجوئه الى سهرات خاصة مع اشخاص متواضعين اجتماعياً، ومحاولة الزوج استدراجها الى هذه السهرات، وتعاطي المخدرات. هكذا تبدأ هناء في التحفظ بين علاقات متعددة بعد "الخال" فترتبط عاطفياً بأستاذها المشرف على اطروحتها الجامعية وتتعلق به تعلقاً شديداً، فتغار عليه حتى من زوجته. وبعد أن تحصل هناء على "الماجستير" تسافر الى اسبانيا وهناك ترتبط عاطفياً بشاب اسباني. ويلاحظ ان "هناء" في بعض الاحيان تخضع لعملية استنطاق من جانب المؤلف، الذي يسوق قضيتين اساسيتين من خلال ارتباكات هناء، وتكوينها المشَّوه، وأظن ان المؤلف هنا تدخل في شكل نقدي اكثر من ان يترك الرواية تنساب في تدفقها الطبيعي. القضية الاولى هي "خروج العرب من الاندلس". وهذا العنوان يحتل مناقشات عدة في الرواية منذ رسالة الوالد اليها من السعودية حتى دخولها الجامعة والتحاقها بالقسم الاسباني وأطروحة الماجستير، والمناقشات التي دارت بينها وبين استاذها، وتبدو الامور في بعض الاحيان وكأنها خارجة عن السياق، بل كأنها مقتحمة للسياق الدرامي، وسنجد عبارات تعبر عن صوت المؤلف الايديولوجي، وليس في ذلك غضاضة الا حيثما يتسرب صوت المؤلف الى صوت هناء. اما القضية الثانية فهي تحميل شخصيتي هناء وحمدي، صديقها من ايام الجامعة، كل صفات وخصائص ما اطلق عليه "جيل التسعينات". وهنا يرتفع - ايضاً صوت المؤلف وكأنه يريد ان يقول لنا هذا هو جيل التسعينات المشتت والمتشظي والذي ليست له اي قضية، وأظن ان هناك خلطاً بين النماذج "الحقيقية" التي اتى بها المؤلف وبين "جيل التسعينات" مثل الشاعرين مجدي الجابري وأسامة الدينامودي. حتى إن الشخصية المرشحة في الرواية لتمثيل جيل التسعينات ليست مطابقة لصفات هذا الجيل. وهذا ما يتناقض مع رغبات هذا الجيل الذي يتوق الى السفر والمغامرة، ويعتبر الغرب نموذجاً صارخاً لتطلعاته، وتتغلغل هذه التطلعات في صميم سلوكيات ابناء هذا الجيل وكتابته، لدرجة الانسحاق احياناً أو الشعور بالانتماء. وعلى رغم هذا، تمثل الرواية ابداعياً نموذجاً لما يكتبه جيل التسعينات من افكار وتأملات وطرق تعبير وتقنيات.. إنها صرخة متعددة الايقاعات لناقد ومثقف له موقف ورؤية نقدية متمردة تجاه العالم.