صاحب رواية «تلك البلاد التي تشبهك»، طوبيا نَتان، يهودي مصري متعدد المواهب، اشتهر في فرنسا كعالم نفس إثنوغرافي، وطبيب نفساني، وكاتب محاولات نقدية وروايات، من أهمها في نظري: «مريضي سيغموند فرويْد». وكادت «تلك البلاد التي تشبهك» (دار ستوك، 2015)، أن تحوز جائزة غونغور لسنة 2015، إذ نافست رواية «بوصلة» لماتياس إينار. تشتمل الرواية على ثلاثة أجزاء كل واحد يشير إلى السنوات الآتية بالتوالي: 1925، 1942، 1952. وكل جزء مكون من فصول تحمل أسماء شوارع ونوادٍ وقصور في القاهرةوالإسكندرية: حارة اليهود، باب زويلة، شارع الجلاء، الزمالك، عابدين... ويأتي السرد، في معظمه، من خلال ضمير الغائب على لسان سارد عليم يتخذ من «جوهر» الشخصية المهيمنة على النص، مركزاً للتبئير وتوجيه الأحداث، بينما تصلُنا ثلاثة فصول من خلال ضمير المتكلم، على لسان جوهر ابن حارة اليهود. والفضاء هو فضاء القاهرة عموماً، وحارة اليهود تخصيصاً، إلى جانب مشاهد في الإسكندرية، ومشاهد تستحضر جوانب من مصر الفرعونية الأسطورية. وإذا كانت الشخوص الأساس يهودية، فإن هناك حضوراً قوياً لشخوص مسلمة وقبطية، ما يجعلنا أمام صورة مصر في عهود التعايش وحسن الجوار بين مختلف الأديان التي عاشت في ربوع الكنانة. تستغرق سرديات الرواية سبعاً وعشرين سنة مفصلية من تاريخ مصر الحديث، وتنقل مشاهد ومحكيات مُسهبة عن حياة اليهود في القاهرة، وذلك من خلال قصة حبّ قويّ وعاصف بين جوهر اليهودي، و»مصرية» المسلمة التي هي أخته من الرضاع. وتتخلل السرد مشاهد فوق طبيعية، تمزج الواقع والتاريخ بعوالم الجِنّ ومنطق الخوارق، ما يضفي على الرواية ملامح فانتاستيكية تستظل بروْعة البهاء الفرعوني. وإذا كانت الرواية تتوخى السيرة الذاتية، فإنها في الآن ذاته تلجأ إلى التخييل الذاتي الذي يتيح لجوهر القريب من شخصية الكاتب، أن يعيش مواقف مُتخيلة تُكسر حدودَ النطاق الواقعي والتاريخي والسيْر ذاتي. على هذا النحو، نقرأ منذ الصفحات الأولى توصيفات للشخوص تمزج بين الملموس والخارق للمألوف، مثلما نجد في وصف إستير، أم جوهر: «إذا كانت إستير قد عادت إلى حظيرة البشر، فقد حملتْ معها سلوكاً غريباً من رحلتها عند الجِنّ» ص 16. كل هذه العناصر الشكلية تجعل الرواية ترتدي دفقاً ملحمياً يضفرُ مشاهدَ الحب بمغامرات جوهر في مجال التجارة الممنوعة، وبِصعود نجم «مصرية» في سماء الغناء والرقص، وبمقاطع من حياة الملك فاروق الصاخبة، الإباحية، وصولاً إلى قيام ثورة 1952. وعلى رغم أن الرواية مكتوبة بالفرنسية، فإن الصدى اللغوي العربي يرنُّ بقوة من خلال عبارات وأسماء كثيرة، ومن خلال ترجمة مقاطع من أغانٍ شهيرة لفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب واسمهان، تُساهم في إضاءة الخلفية الاجتماعية والعاطفية لتلك الفترة. من فصلٍ إلى آخر، وعبْر أسماء الشوارع والحارات المقترنة بالفصول، ينتقل السرد من فضاء اجتماعي إلى آخر مغاير، وتتسعُ خيوط الحكي لتمتدّ من العائلات والشخوص إلى تاريخ مصر ما بين عشرينات وستينات القرن الماضي. من ثمّ، يأتي بناء الرواية مفتوحاً، يتقاطع داخله السردُ العمودي بالسرد الأفقي، وتمتزج فيه قصص الحب بمغامرات الحياة اليومية وأحداث التاريخ الكبرى. صراع لمْ يُحسم عند التأمل في مسالك «تلك البلاد التي تشبهك»، تأخذ الدلالة أبعاداً عميقة يشتبك فيها الذاتي بالجماعي، والعاطفي بمنطق التاريخ القاسي... ولعل الشكل الذي اختاره الروائي نَتانْ لكتابة ذاكرته هو ما يضفي على النص كثافة موحية لا تكفُّ عن توليد الإيحاءات. والخاصّة البارزة في كتابة الذاكرة هنا، هي إضفاء «السحر» على الطفولة والمراهقة وجعل الفضاءات تتجاورُ وتتقاطع، وسياق الحداثة الوافدة على مصر بعد الحرب العالمية الثانية يُلون القصص والكلمات، وقصة الحب المحرّم بين جوهر وَ مصرية أخته في الرضاع تزيد في تأجيج السحر والبهاء. كل شيء يبدو مُتباعداً وكأننا نقرأ «ساغا» تمتزج فيها وقائع التاريخ بمحكيات تكسوها غلائل ميثولوجية. من هذا المنظور، لا يكون الحب عند الكاتب احتياجاً ولا متولداً عن اشتهاء: «بل الحب عندما يحدث فجأة يكون دائماً تصدّعاً في نظام العالم» ص 170. ومنذ الطفولة انبثق الحب بين مصرية وجوهر، غير مبالٍ بقوانين المؤسسة الاجتماعية والدينية، مقتحماً الحياة ومُصغياً إلى صوت الذات العاشقة. وإلى جانب قصة هذه العاطفة المشبوبة، تُطالعنا فسيفساء الأمكنة وفسيفساء النسيج الاجتماعي والتصنيف الطبقي مُتدرجاً من الملك وبذخه ومجونه، إلى الأرستقراطية والبورجوازية والطبقات الفقيرة. هي فترة تؤذن بأفول الملكية وانحسار الوجود الاستعماري، والفاعلون في فضاء الرواية، على اختلاف دياناتهم وانتماءاتهم، مُصرون على اقتحام العالم وانتزاع المسرّات، وإثبات الذات في مُعترك التجارة والمال، وفي حوْمة الصراع الإيديولوجي. وقد جسّد الكاتب هذا الجانب من الصراع عبْرَ قصة أصدقاء ثلاثة هم : جوهر، نينو كوهن وَجُو دو رجيو، الذين أرادوا أن يغامروا في مجال التجارة الممنوعة، مستفيدين من مناخ الحرب والسوق السوداء. وعلى رغم ديانتهم اليهودية المشتركة، فإن سُبلهم اختلفتْ سياسياً، لأن نينو تأثر بالماركسية وأخذ يدافع عن ضرورتها لحلّ مشكلات المجتمع، وتعرّف على الشاب جمال عبد الناصر وهو بعد طالب في الكلية العسكرية، فزاد إيمانه بالنضال من أجل التغيير. إلا أن نينو سرعان ما تعرّف على حركة الإخوان المسلمين فاعتنق دعوتهم في مبادئها السلمية وعمل على نشرها بقوة، إلى أن قامت الثورة وأخذ الإخوان يلجأوون إلى العنف، فانفصل عنهم واستطاع البقاء في مصر، بينما اضطر صديقاه إلى مغادرة البلاد خوفاً من حملة العداء. ولجأ جوهر إلى سويسرا قبل أن يستقر في فرنسا، وملء جوانحه حب مصر الذي رضعه مع حليب أم «مصرية» التي أنقذت حياته ومنحته رُقى تحميه من الأذى... ولأن قلبه وذاكرته مُمتلئان بحب مصر، ها هُو بعد عقود يكتب عن تلك البلاد التي تشبهه، متحدياً المَحوَ من طريق الكتابة التي تستعيد الزمن المفقود. لكن الكاتب اليوم يدرك، عبر المسافة الزمنية، أن ميلاده في مصر صادَفَ «ميلاد عالم حديث مأخوذ في شرَكِ الآلهة والشياطين»، ومن ثمّ ذلك البُعد الإنساني الذي يهيمن على الرواية، إذ يذكرُنا بذلك الصراع الذي لم يُحسَم في تاريخ مصر الحديث: عنيتُ الصراع بين السياسة والدين والحداثة. إن «تلك البلاد التي تشبهك» هي كتابة للذاكرة، تمتح من المخزون المُترسب في الأعماق، بقدْر ما توظف الأحداث التاريخية لتجعل منها إطاراً يحدد الفترة ويستحضر بعض الشخوص الفاعلين فيها. لكن الذاكرة هي التي تملأ الثقوبَ التي نسيَها التاريخ الرسمي، الممهور بالأحداث الجِسام. وتأخذ السيرة الذاتية التخييلية النصيبَ الأوفر، فتُحرر الرواية من جهامة الخطاب التاريخي وثقل نبرته الموضوعية. نتيجة لذلك، تنتصب الشخصيات في حارة اليهود وباب زويلة والزمالك...، لتملأ فضاء الرواية بأناسٍ من لحم ودم، يواجهون المِحن، ويسعدون في ظلال الحب، ويعذبهم الحنين إلى أيام الشباب والمغامرات التي لن تعود. يقول جوهر في الصفحات الأخيرة :» إذا كنتُ قد غادرتُ مصر، فإنها لم تُفارقني قط. أحياناً، أفكر بأن ظلّي وحده غادرها، فيما بقيتُ أنا هناك وحيداً، تائهاً، كما كنتُ طوالَ شبابي...» ص 533. فعلاً، الحكيُ عن مسقط الرأس والوطن الأول، هو دوْما ًحديث عن بلادٍ تشبهنا في بذرة الهُوية الأولى، التدشينية، قبل أن نرتاد دوامة الصيْرورة والتحولات.