ينسب ضعف الكفاية اللغوية المتزايدة الانتشار بين مستخدمي العربية الفصحى عادة الى صفوف متداخلة من العوامل: أ- هشاشة الموقع الذي يحتله العالم العربي، جملة، في حلبة التنافس الحضاري التي يشهدها عالم اليوم المفتوح. ومن مظاهر ذلك التبعية السياسية والاقتصادية، وانقطاع النخب الحاكمة عن المصالح العامة واشتغالها بالحفاظ على مواقعها وامتيازاتها، وضعف النمو وتفاوته، وسوء توزيع الثروة، وانتشار الفقر والأمية. وهذه كلها تورث تراوحاً في المسلك بين التغرب الثقافي بما فيه اللغوي غير المشروط، وهو ايضاً موقف أقليات ولكنه يستجيب لمزاج شعبي محتقن. وبين هذين الحدين تنتشر درجات من غياب السيطرة على النفس والقبول بمجرد التعرض الى موجات من التأثير الثقافي الوارد، عبر نماذج الاستهلاك وبرامج الاعلام. وهي موجات تحمل الرديء والسطحي من قيم ثقافات المنشأ، ولكن آثارها تكفي لصرف النظر عن حاجات النمو المتكامل للمجتمعات المتلقية وعن الثقافي ومن ثم اللغوي من هذه الحاجات بالأولوية. هذا النوع من التفسير لضعف اللغة جدير بالاعتبار التام مع الحذر من انواع الشطط التي يقع فيها كثيراً، وهي تشي بالهلع وبفقدان السيطرة على النفس او بكسل الفكر الذي هو هنا ايسر السبل الى اجتناب الهلع المشار اليه وتسكينه. غير ان نمط التفسير هذا يحيل الى عوامل ووقائع غير لغوية ولا ثقافية حصراً او اساساً، فهي إذاً لا تعالج على هذا الصعيد. وانما تفترض معالجتها استراتيجيات تاريخية يوشك الخوض فيها ان يغرق معالجة الموضوع اللغوي في خضم من المسائل الشاسعة ويصرف النظر عنها. ب - ضعف الموارد والوسائل التي تواجه بها العربية الفصحى بخاصة عالم اليوم ومهماته نموها والمحافظة على اهليتها لشتى وجوه الاستعمال. ويشار هنا بالدرجة الاولى الى الضعف في مناهج تعليم الفصحى والى التغلب المتزايد للغات الاجنبية والعاميات عليها في الاعلام والترفيه وفي وجوه الاستعمال اليومي، وبخاصة الاستهلاكية منها. فههنا تبدي العاميات مرونة حيال الالفاظ الاجنبية وقابلية جد واسعة لاستيعابها ولتحمل الهجمة الشديدة المتأتية من الافراط في هذا الاستيعاب. وهذا ما لا تبدي مثله الفصحى التي تجدّ لاهثة لاجتراح مقابلات ولحلول موافقة لأصولها وقواعدها، ولكن ما تجترحه يبقى جله ضعيف الرواج، مجهولاً من الجمهور، ولا يفلح في العبور الى العاميات لفرض نفسه في الاستعمال اليومي بديلاً من الرطانة الاجنبية. ويشار في شأن الاعلام الى الهزال اللغوي والفني للبرامج التي تعتمد فيها الفصحى، بل للبرامج العربية عموما في هذين المجالين الاستهلاكي والاعلامي. يبدو التفسير المتداول لضعف العربية وكأنه يردنا الى الصف الاول أ من العوامل، اي الى التفاوت في الموقعين الحضاري والاستعمالي بين الفصحى والاجنبية في الاول، وبينها وبين العاميات في الثاني. فنكاد نخرج مرة اخرى من دائرة المعالجة اللغوية لنضيع في متاهه البحث عن حل حضاري شامل. ولكن هذا المحذور ليس محتماً، ههنا، بعد ان ضيقنا، بعض التضييق، دائرة البحث. وذلك ان السياسات الاعلامية بالمعنى العام والاعلانية في مجال الاستهلاك اشياء موجودة ويمكن تحسينها، او هي مطلوب ايجادها إن لم تكن موجودة. لسنا إذاً امام قضاء لا يرد وإن كنا من غير ريب، في وضع جد حرج. ت - يبقى التعليم ويولى موضوعه اهتماماً خاصاً في معرض البحث عن اسباب تراجع الفصحى. فمن زمن طويل، يوصى بتيسير قواعد الصرف والنحو وتوضع الصيغ لهذه الغاية فيقترح، مثلاً، ترك الاعراب. ويشدد على ضرورة اختيار نصوص شيقة لكتب القراءة او وضع مثل هذه النصوص. ويطالب بالعناية بالصياغة اللغوية للمواد غير اللغوية التي تدرس بالفصحى. وتقترح اساليب وطرائق جديدة للتعليم ووسائل ايضاح مبتكرة الخ. وهذا كله مشكور وجدير بالنظر. ولكننا، وان عارضنا اغراق المشكلة اللغوية في خضم من المشكلات تضيع فيها الحلول وتؤجل الى عصر لا يبدو فجره قريباً، فإننا نزوغ نظراً وعملاً، عن الجادة حين نفترض ان المشكلة اللغوية تقبل المعالجة حصراً بين جدران الصفوف. لذا وجب السؤال: ما هي الصورة الاجمالية التي تظهر فيها ازمة الفصحى اليوم؟ ثم نرتد الى المواقع الجزئية والتفاصيل. ث - نطلق على هذه الازمة اسماً: جلاء الفصحى عن مناطق المشافهة. ففي صفوف المدارس وقاعات الجامعات وفي الاذاعات المرئية والمسموعة وعلى المنابر الثقافية وفي مناسبات الحوار، على اختلافاتها، وفي تصريحات السياسيين، خصوصاً، وحتى في خطب رجال الدين، بات امر الفصحى منوطاً بتلاوة نص مكتوب. حتى اذا آن أوان المشافهة بغير نص سابق الاعداد اكتسحت العامية جميع هذه الساحات، وتلك واقعة بطبيعة الحال، نتيجة وليست سبباً في مبدأ امرها على الاقل، فنحن نتلمس فيها تراكم الاخفاق في التعليم جيلاً بعد جيل، اي معلمين بعد تلامذة، واثر الاعلام الجديد الذي همش الصحافة المكتوبة وأخذ يحاكي الحياة اليومية بأصواتها وصورها وهذه الحياة هي ميدان العاميات اصلاً... الخ، فآل الامر الى ان القادرين على النطق المرتجل بالفصحى، من غير لحن ولا ركة، باتوا افراداً يحصون على اصابع يد او اثنتين في كل من المجتمعات العربية، وبات من يتصدى مثلاً لكتابة رواية بالفصحى يلجأ الى استراتيجية المجانبة، اي الى الزوغان من المواقف التي تجفوها الفصحى او تبدو ثقيلة الظل اذا اصرت على التعبير عنها. تلك اذاً نتيجة في الاصل، ولكن هذا المعلول تطور الى علة مع استتباب أمره. فإن خروج الفصحى من المنطوق الشفوي يضعها خارج دائرة التحدي الملزم بالتعبير عن الحياة في اكثر مناسباتها شيوعاً ونضارة. فيرزح هذا الاستنكاف على طاقة النمو فيها. وهو يرزح ايضاً على فرص اتقانها من جانب السامعين ويزيد من صعوبة تعلمها. اذ ما هي اللغة الاجنبية ان لم تكن اللغة التي لا نسمعها في حياة كل يوم وانما نقرأها في الكتب؟ وهل يفضي خروج الفصحى المتزايد من دائرة السماع الى نتيجة غير تقريب تعلمها، من حيث صعوبتها، من تعلم اللغة الاجنبية وتقريب وضعها كله في عين المتعلم، من وضع هذه الاخيرة؟ لا جدال في ان الفصحى تحفظ، في المنافسة، سلاحاً ليس للأجنبية مثله، وهو قربها من المحكمة ومشركتها اياها جماً غفيراً من الألفاظ والتراكيب. غير ان للأجنبية ايضاً اسلحة ماضية اشرنا الى بعضها، ليس اقلها شيوع ألفاظها في العاميات! ج - عليه يتعين التصدي للأزمة في المدارس وخارجها معاً. وأسوأ أنواع التصدي اعلان حروب سفيهة على العاميات او على اللغات الاجنبية، فهذا يضمن خسارة المعركة سلفاً. فالانسان مجعول اصلاً بحيث لا يسعف حجبه عن تعلم شيء من الاشياء في تعليمه شيئاً آخر! وما سبق ذكره من مهام لتحسين تعليم الفصحى مستحق كله. وما اشرنا لأى امكانية من سياسة اعلانية تروج الاشياء بأسمائها العربية مرغوب فيه جداً. ويجب ان تسعفه برامج تعليم وترفيه تقرب الفصحى من اسماع الجمهور مجدداً من غير تعسف ولا افتعال او سماجة. لا بد ايضاً من اشراك المعلمين في وضع سياسة مقبولة لتعليم الفصحى بالفصحى ولاستخدامها لغة لتدريس مواد اخرى. وهذه سياسة تؤتي أكُلها اذا هي جاءت مرنة، مراعية للظرف اللغوي العام الذي تجري فيه عملية التعليم، اي لكون العامية هي التي تحتل عالم المتعلم والمعلم، وان لم تكن لغة كتابة ولم يكن ارثها المكتوب يصلح بيئة لهوية ثقافية سوية وغنية. ثم ان السياسة نفسها لا يسعها ان تفترض ان المعلمين ما زالوا من اهل العلم بالفصحى وبتركتها. فهذا، في الواقع، محل نظر. من يعلّم المعلّم اذاً؟ ح - هذا ولا يستقيم امر تعليم العربية برمته ولا امر تنشيطها في الاعلام وفي الاعلان الخ، ان لم يتوصل واضعو السياسات الى الاجابة عن اسئلة قديمة وجليلة يجاب عنها خارج المدارس. ما السياسة الرشيدة في مجال تعريب الالفاظ الاجنبية؟ الخ. ما الموقف من العاميات؟ هل تدرج الالفاظ الخاصة بها في المعاجم اللغوية على انها مستوى من المستويات اللغوية التي يجب استتمام التمييز بينها في هذه الحال؟ هل يدرس الجميل والقيّم من تراثها المحفوظ في المدارس ويدرج في كتب التدريس؟ وما الفصحى التي يحسن تدريسها واعتماد نصوصها؟ أهي فصحى الحطيئة ام فصحى نجيب محفوظ؟ وإذا وجد متسع للاثنتين فبأية نسب وعلى اية اوضاع؟ وما الضرورات الدينية، على وجه الدقة، في هذا الميدان؟ وعلى من تقع: أعلى العامة ام على خاصة المعنيين بعلوم الدين؟ الخ... خ - اخيراً، من يقوم بهذا العبء الضخم كله؟ او اذا كانت الاعباء كثيرة فكيف توزع؟ هل مركز المسؤولية في سلطات الدول المفردة ام في جامعة الدول العربية؟ ما مسؤولية وسائل الاعلام وكيف يعزز دورها في نشر منجزات المجامع، مثلاً وكيف يحد - من دون افتئات على الحريات - من اضرارها؟ كيف تتكون سلطة لغوية معترف بها تلفت الصحف، مثلاً، الى ما تقع فيه من زلل وتسدي اليها المشورة - على اي مستوى يبقى جزئياً - في هذا الموضوع؟ الخ... اخيراً من يقنع أولي الأمر بأن الشأن اللغوي شأن مهم؟ واذا لم يقتنع احد منهم فهل تكون اللغة مهمة فعلاً؟! * كاتب لبناني.