كلّما جرى الكلام - وما أكثره في هذه الآونة - على "كارثة" نيويورك، يتذكر القارئ العربي رغماً عنه "كارثة" كابول. طبعاً لا يجمع بين هاتين المدينتين سوى الرماد الذي تركه انفجار البرجين في نيويورك قبل عام، ولعلّه الرماد نفسه الذي ما برح يملأ سماء كابول ملوّناً خرائبها أو أطلالها. مدينتان، واحدة في صدارة العالم الجديد وأخرى على أطرافه النائية والموحشة: كيف تمكن المقارنة بين نيويوركوكابول؟ الرقعة الصغيرة من الدمار "المادي" الذي أحدثه سقوط البرجين في نيويورك لا تضاهي فسحة الدمار الهائل الذي ما برح يحلّ بمدينة كابول منذ عقود! وكذلك فسحة الخراب الروحي هناك لا توازي فضاء الخراب الروحي الشاسع الذي يجثم، على كابولوأفغانستان كلّها! وإذا غدت "كارثة" نيويورك حافزاً جديداً على الكتابة والتحليل والتأمل فأن مأساة كابول القديمة - الجديدة أغرت بدورها الكثير من الأقلام، لكنّ وهج كارثة نيويورك يظل هو الأقوى بينما تسقط كابول في ليلها الطويل. عندما عاد الروائي والسينمائي الأفغاني "المنفي" عتيق رحيمي الى كابول راح يعيد اكتشاف مدينة طفولته عبر كاميرا قديمة أو "بدائية" بغية القبض على روح التاريخ المأسوي الذي لا يفارق هذه المدينة. والصور التي التقطها كانت أشبه بالنصوص البصرية التي يستحيل على الكاتب أن يبدع ما يوازيها وصفاً وتعبيراً. وقد بدا الحاضر الأفغاني فيها شبيهاً بالماضي بل هو نفسه تقريباً، ببؤسه وخرابه و"فرادته" المشهدية. عتيق رحيمي أصدر قبل فترة رواية جديدة صدرت ترجمتها الفرنسية سريعاً وعنوانها: "المنازل الألف للحلم والرعب" وفيها يرجع الكاتب بإصرار كما في روايته الأولى "أرض ورماد" الى اجتياح السوفيات الأراضي الأفغانية. ولكنّه هنا يسعى الى اكتشاف وجه الشبه بين الأصولية والرعب "الأحمر"، بين المجاهدين المتطرفين والشيوعيين المحتلين. أما بطله فرزاد فهو يذكّر بشاعر أفغانستان الشهير سيد بهاء الدين مجروح من غير ان يلقى مصرعه بالرصاص، فهو سرعان ما يختار المنفى عملاً بوصيّة أحد الدراويش الأفغان وقد نصح اليه أن يطوف العالم هرباً من الجحيمين: جحيم الاحتلال السوفياتي وجحيم المتطرفين الدينيين: "الماء عندما يركد يصبح موبوءاً. كن كالماء الذي يفرّ من اليد". وكان فرزاد عانى الكثير في كابولوأفغانستان عشية الاجتياح السوفياتي عام 1979 كونه لم ينل رضى الجهتين: السوفياتية والأصولية. وإذ تمكّن من انقاذ نفسه من القبضة الروسية الحديد استطاع أيضاً أن يفرّ من بنادق الأصوليين. أما القناعة الوحيدة التي استخلصها من نضاله فهي تشابه الطرفين في العنف والقتل والبربرية. كابول نفسها، مدينة الأطلال والأنقاض جذبت أخيراً الروائي الجزائري "ياسمينة خضرا" الذي طغى اسمه المستعار على اسمه الحقيقي محمد مولسحول وهو كتب أكثر من رواية بالفرنسية وحصد بعضها نجاحاً لافتاً. كيف ينظر كاتب جزائري هارب من حجيم الأصولية في الجزائر الى مأساة كابول التي لا تقلّ هولاً عن مأساة وطنه؟ اختار خضرا العام 2000 زمناً لروايته "سنونوات كابول" دار جويار، باريس. حينذاك كان حكم الطالبان في أوج استبداده. وفي ظلّ هذا الحكم تتلاقى شخصيات الرواية وتفترق، محسن الذي يتحدّر من عائلة عريقة من التجار الذين قضت حركة طالبان عليهم يجد نفسه مع امرأته زنيره يكافحان من أجل أن يستمرا على قيد الحياة في ظروف من القمع والقهر والتسلّط. لكنّ الحبّ الذي يجمع بينهما كان حيلتهما الوحيدة لمواجهة الحكم القاسي. فالمرأة - الزوجة لم يعد يحق لها ان تعمل خارج منزلها وحياتها أصبحت وقفاً على هذا "السجن" الذي يعني البيت. وفي مقابل هذين الزوجين يحضر زوجان آخران: عتيق شوكت حارس السجن الذي انخرط في حركة الطالبان ظناً منه أنّه يؤدّي الدور الذي يقتضيه الدين... أما زوجته مسرّات فتموت من المرض واليأس. أما المشهد الأليم في الرواية فهو عندما شارك محسن في رجم امرأة زانية في أحد الأزقة. كان محسن يائساً ومحبطاً وتائهاً في شوارع كابول عندما وجد نفسه وسط جمع يرشق زانية بالحجارة. وتحت وطأة هذه الهستيريا الجماعية لم يتوان عن رمي الحجارة بدوره. انها كابولالمدينة المدمرة تمام الدمار: مادياً واجتماعياً وسياسياً، كابول المحكومة بالجنون الجماعي والشر والتضحية والقتل والموت والعبث. ولكن من بين أنقاض هذه المدينة ستفر "السنونوات" معلنة قدوم ربيع ما، ربيع قد لا يكون أقلّ حمرة من كل ربيع عرفته هذه المدينة المأسوية، التي كانت في حقبة ما تنافس أسطورة سمرقند وسواها من المدن العريقة. كابول مرّة أخرى أيضاً في رواية للكاتب الفرنسي الشاب سيباستيان أورتيز وعنوانها "طالب" غاليمار - باريس. وطالب هو الاسم - الكناية الذي حمله حافظ الفتى الأفغاني ليدخل كابول مجاهداً على طريقة طالبان... كان حافظ هاجر مع عائلته الى بيشاور هرباً من عنف كابول، وهناك استطاع والده العوّاد أو صانع آلات العود أن يبني حياة الأسرة من جديد في أحد مخيمات اللاجئين الأفغان. أما قدر حافظ فلم يتجلّ إلا بعد دخوله "المدرسة" وتخرّجه بعد بضع سنوات مجاهداً يلبّي نداء الأصوليين الأفغان. قد لا يكون مفاجئاً صدور مثل هذه الروايات وسواها في خريف هذا العام في باريس إزاء صدور عشرات الكتب عن كارثة نيويورك. فالتراجيديا الأفغانية هي الوجه الآخر - وربما الأشد قتامة وحلكة - من كارثة نيويورك. كابول هي المدينة - الظل التي تحصل فيها المآسي بصمت أو لامبالاة. أما نيويورك فهي المدينة القادرة على جعل مأساتها شريطاً تلفزيونياً يشاهده البشر الذين يقطنون الأرض. إنها كارثة "عاصمة" العالم التي يجب ان يشارك الجميع في رثائها. بل هي كارثة ثقافة العولمة و"بداية" التاريخ لا نهايته فحسب والاستهلاك والترف والعنجهية... كابول تهجع الآن مع خرائبها منتظرة على غرار المدن البائسة ان يسطع نهارها ذات صبيحة. وإذا باتت مأساتها تجذب الأقلام فهي لا تتردد في تبنّي أدبها الخاص الذي شارك في ابداعه شاعرها الشهير بهاء الدين مجروح والروائي عتيق رحيمي والقاصة سبوجماي زرياب والشاعر لطيف بدرام وسواهم من الكتاب الأفغانيين... وان كان معظم هؤلاء يعيشون في المنفى فإن كتب الشاعر الأفغاني الكبير بهاء الدين مجروح غير متوافرة في كابول وسواها. أمَّا الكتاب الأجانب الذين تغريهم كابولوأفغانستان وتوقدان النار في مخيلاتهم فهم يزدادون... أكثر فأكثر. ولكن لماذا كلما جرى الكلام على "كارثة" نيويورك يتذكر القارئ العربي "كارثة" كابول؟ صحيح انها لمفارقة مؤلمة!