منذ أن أثير النقاش حول الفانتازيا التاريخية في الدراما التلفزيونية، كان واضحاً ان هذا النوع من العمل التلفزيوني الذي لاقى رواجاً في بادئ الأمر سيواجه معارضة قوية إذا استمرت موجته. وبالفعل أثيرت الانتقادات بقسوة منذ عرض مسلسل "الجوارح". ويومها قيل ان هذا النوع ليس جديداً على الدراما السورية التي سبق وقدمت من اخراج هيثم حقي عملاً مهماً هو "غضب الصحراء" كتبه هاني السعدي كاتب مسلسل "الجوارح". ونجاح مسلسل "الجوارح" الذي أخرجه نجدة أنزور لا يعني انه صاحب السبق في هذا المجال، وكذلك فإن هذا النجاح لا يعني الاقتصار على الفانتازيا، ولا بد من الاستناد الى التاريخ والواقع كمصدر أساس للعمل التلفزيوني! لقد كان هذا ناقوس خطر قرع بشدة أمام الدراميين السوريين لاعادة الاعتبار الى التاريخ كمادة ينهل منها التلفزيون، وكانت الدراما التلفزيونية العربية وبخاصة المصرية نهلت الكثير من التاريخ الإسلامي، كما كان التلفزيون السوري أخذ أعمالاً مهمة من التاريخ كمسلسل "الزباء" زنوبيا لغسان جبري عن مملكة تدمر ومسلسل "الذئاب" عن الأتابكة لعلاء الدين كوكش إضافة الى "رابعة العدوية"، "وضاح اليمن" و"الأميرة الشماء" وغيرها من الأعمال الأولى! انتبه الكتاب والمخرجون الى هذا الأمر مرة ثانية وراحوا ينتقون نصوصاً تاريخية ويبنون عليها، ولم يتراجع هاني السعدي عن كتابة الفانتازيا الى أن خرجت الأعمال التاريخية الضخمة التي دفعت الفانتازيا الى الدرجة الثالثة أو حتى الرابعة وحدث ذلك بعد مسلسلات "الزير سالم" و"صلاح الدين الأيوبي" و"النعمان" و"صقر قريش" العتيد، وهنا أعلن السعدي نوعاً من الاستسلام أوضح فيه انه مضى وقت الفانتازيا التاريخية! ان هذا التراجع الجريء غير المتوقع من السعدي يدل الى استيعاب مفردات اللغة الانتاجية في الدراما وامكان التعاطي الفج والواضح مع لغة سوق الانتاج والعرض والطلب! في هذه الأثناء ووسط هذه المستجدات على صعيد الدراما تعكف مجموعة فنية جديدة على إغراق السوق في الأعمال التاريخية التلفزيونية، معتمدة على كتابات الباحث الإسلامي والكاتب القصصي الإسلامي الدكتور محمد حسن الحمصي الذي بيعت قصصه التاريخية في العالم الإسلامي بعشرات الطبعات من دون ان يثار أي ضجيج على فحوى كتاباته، كما حصل مع أمين المعلوف أو جرجي زيدان... وهو يعتمد طريقة كتابة لا تنهج نهجاً أدبياً محدداً، وانما تتبع طريقة لا تخرج عن الوثيقة التاريخية ولا حتى عن الواقعة نفسها، بل ويوثق المعلومة الاشكالية في سياق القصة من مصدرها التاريخي. وهذا النوع يتوافق مع تعريف فقهاء الأزهر للقصة الإسلامية التي لا يجوز ادخال أي اضافات عليها، خيالية أو غير خيالية، إلا إذا وردت في المراجع التاريخية. وتتميز قصص الحمصي بميزة مهمة هي تثبيت الأخلاق الإسلامية السامية والدفاع عنها والبحث عن المعطيات التاريخية المضيئة في تاريخ العرب المسلمين، واعطاء الصورة الايجابية عن أخلاق المسلمين وتضحياتهم! ومن القصص المنشورة: "مهد البطولات، وفاء، الزنزانة المتجولة الخ". وربما نفاجأ إذا قرأنا على غلاف احدى هذه القصص انها طبعت للمرة العاضرة في عصر تتراجع القراءة! وتلفزيونياً كان التصور ان يتم جمع طاقم عمل مهم من بينه مجموعة من الفنانين العرب والإسلاميين نذكر منهم: الفنان المصري حسن يوسف والفنان اللبناني محمود سعيد والفنان السوري عبدالرحمن أبو القاسم، اضافة الى الفنان السعودي تركي اليوسف. ثم تغير اسم الفنان حسن يوسف نظراً للأجر المرتفع الذي طلبه من المنتج 250 ألف جنيه مصري. وبين هؤلاء يندرج فنانون من مختلف المستويات أبرزهم: عبدالرحمن آل رشي، سليم كلاس، سلمى المصري، فاديا خطاب، عابد فهد، منى واصف، مفيد أبو حمدة، عبدالحكيم قطيفان... والفنان المسرحي السوري المعروف أحمد منصور، وقد تغيرت هذه الأسماء أكثر من مرة، لكن ثمة ثباتاً تقريبياً بين الأسماء اللبنانية والسعودية والسورية! ان فنانين كثراً يعملون الآن على انجاز هذه القصص من التاريخ الإسلامي، ويبدو انهم يجدّون السير على أن تكون المادة جاهزة للعرض في شهر رمضان المقبل. وتثير هذه المفارقة الانتاجية بين الفانتازيا والمادة التاريخية الانتباه من جديد الى مقاصد كتاب الدراما ومنتجيها المتعلقة بالتعاطي مع المادة التاريخية. ويبدو ان هذا التوجه سيلقى ارتياحاً لدى الفضائيات العربية التي فوجئت في سنوات ماضية بأنها في حاجة الى مبالغ طائلة للحصول على حق العرض الأول في رمضان. ووصلت تكاليف هذا العرض احياناً الى مليون دولار! التلفزيونات العربية في شكل عام بحاجة ماسة الى المادة التاريخية التي تسلط الضوء على الحضارة العربية في مراحل ازدهارها ومجدها والأسس التي قامت عليها تلك الحضارة، وقد تلقف جمهور المشاهدين هذا النوع من الانتاج الدرامي باهتمام. وتعرف العرب من جديد الى ما غاب عنهم التعرف اليه من الكتب التي لم تعد تقرأ!