هكذا بدت النهاية سعيدة وكرنفالية ومتلفزة... احتفل الأميركيون بإزالة آخر الأنقاض النيويوركية التي تسببت بها هجمات 11 ايلول 2001، وأطلق رجال الإطفاء دوي صفاراتهم، وتذكر المحتفلون موتاهم على عجل، وهم ينقلون اقدامهم الى المستقبل دفعة واحدة. فناطحات السحاب الملونة لا تعود تنتمي الى زمن الأحداث في حال الأميركيين السعداء... وها هي اليوم "الاحتفالات" قائمة بالذكرى السنوية الأولى للكارثة. الاحتفال غريب كما هي اميركا غريبة، والأميركيون يسبحون في بحار المتعة بعد كل حادثة مدمرة او عاصفة، حتى انهم لا يزورون موتاهم إلا من باب الشعور بالإثم والسعادة الغامرة. هكذا هم يعبرون عن "عقدة الذنب" في احتفال مهيب. ولكن الواضح من بعد الإعلان عن الانتهاء من رفع آخر حجر ان هستيريا ناطحة السحاب قد انتقلت الى كثير من الدول جنوب شرقي آسيا، ففي الأخبار ان دولاً مثل تايوان وهونغ كونغ وسنغافورة اقبلت على بناء ناطحات الصحاب بمختلف الأشكال الدائرية والمكعبة والمستطيلة الخ... وهذه الهستيريا تنتمي الى فخامة اميركا اللذيذة، الفخامة التي لا تقف عند حدود والتي ليس لها حدود، فتبدو معها القشعريرة الكونية الخاصة بالعالم من بعد الأحداث الدامية نوعاً من عقد الذنب الباهرة... والعقارية، حتى يبدو الذهول والتسمر امام شاشات التلفزيون احتفالاً مغناطيسياً في نيل درجة من درجات الرعب العلمية الكبرى. اميركا لا تقف عند حافة النيات، فهي تتبدل وتتغير كما في دراماتها. فالبطل الخارق توقف قلبه موقتاً مع انهيار الفخامة المطلة من اعلى، والضحايا لم يعد لهم أي وجود، إلا في الذكرى البائتة ومن دون سلسلة الماضي المأهول. وهوليوود لا تبدو مع هذا الانهيار إنها تريد الانتقام لنفسها من هذه الفخاخ المنصوبة في طريقها إلا بالاحتفالات الكرنفالية والمواكب الساهرة التي لم تكن موجودة في يوم من الأيام. وعلى قارعة الطريق الأميركية الواسعة، يروي فيدريكو فيلليني في ذكرياته الساخنة عن هذا البلد الأميركي الغريب الأطوار انه في زيارة له لكاليفورنيا بهدف دراسة بعض المشاريع السينمائية، طلب كمخرج كبير آت من القارة العتيقة وابن بار للبانثيون هيكل الآلهة والكوليسيوم مدرج روما القديم - ان تتم دراسة هذه المشاريع الإبداعية في مبنى قديم، فالإلهام لا يوافيه في ناطحات السحاب الحديثة. وأخذه مضيفوه الأميركيون الى مكتب بدا له جديداً. فقالوا له: "انه مبنى قديم، فقد تم بناؤه منذ خمس سنوات...!!". وفيلليني الذي يكره ناطحات السحاب لا يطلب في اميركا زيارة اي اثر قديم كان زاره في مرات سابقة. فمن المرجح انه تم تفريغه من الهواء وأزيل بهدف بناء محطة بنزين. وربما تكشف هذه الأنا الفيللينية معنى الاحتفال الكرنفالي المتلفز، بالانتهاء من رفع انقاض برجي مركز التجارة العالمي... اللذين لم يهدما على ما يبدو إلا في الذاكرة الفخمة... واللذيذة ففي اميركا يمكنك ان تفعل اي شيء، وأن تكون اي شيء... حتى يصيبك وهم القوة بالشلل!! في اميركا يصبح التلفزيون... بطلاً.