كانت دار نشر "لارماتان" الفرنسية فتحت سلسلة تحت اسم "الأدب الكردي" Lettres Kurdes نشرت فيها عدداً من الدواوين الشعرية والروايات والقصص لمؤلفين أكراد. ويبدو أنّ المشرفين على الدار، ومعظمهم من ذوي الميول الاشتراكية والنزعة العالمثالتية، أخذوا على عاتقهم تعريف القارئ الفرنسي بأدب اعتبروه منسياً ومهملاً. والأرجح ان قدراً لا بأس به من روح الدعاوة والتبشير كان يكمن في صلب الدافع الى الأخذ بالمبادرة وتحفيزها. المجموعة القصصية المعنونة "قصص كردية" nouvelles Kurdes تعزز هذا الاستنتاج. ومنذ البدء ينهض انطباع في أن ارتفاع رصيد الاكتراث بالشأن الكردي، ولا سيما في العراق، في السنوات الأخيرة، حرّض على الالتفات الى الأدب لكردي. ستة، من أصل سبعة، من المؤلفين الذين تضم المجموعة قصصهم هم من أكراد العراق. أما السابع فهو كردي سوري. فيما يغيب أكراد تركيا وايران عن المشهد غياباً تاماً. ولا يزود المترجم، ومهيئ المجموعة، اسماعيل درويش قارئه بأي تفسير للاختيارات التي أخذت طريقها الى صفحات الكتاب. ويبقى الرهان الأخير، والحاسم، منصباً على القصص نفسها من أجل تبديد سوء الفهم. والحال ان هذا الرهان يفلح. فالخوف الذي كان حاضراً منذ البدء من أن تكون القصص عبارة عن أدبيات نضالية وانشاءات عاطفية وبيانات حماسية عن الوطن والظلم وما شابه. هذا الخوف يختفي ويترك المكان لانتباه لا ينفك يتحول الى افتتان. ومع الذهاب أبعد في القراءة يتكشف للقارئ أن هؤلاء الكتّاب يمكسون بزمام صنيعهم الكتابي ويفلحون في الإفلات من قبضة الواقع المباشر، المحيط بهم، لمصلحة قوانين اللعبة القصصية. جيل الخمسينات والستينات ومعظم هؤلاء ينتمي الى جيل الخمسينات والستينات، من جهة أعمارهم وتموضعهم في التراتب الزمني لمسيرة القصة الكردية في العراق. ومع هذا فلكل قاص قماشته الكتابية الخاصة ينفرد بها ويمتلك فيها لغته وصوته ورؤيته. ولعل عبدالله سراج، الأكبر سنّاً والأغرز انتاجاً، يؤلف مثالاً على هذا الانفراد، فهو قاص وفنان تشكيلي. وفي قصته "تجريد" يظهر جلياً تقارب العالمين القصصي والتشكيلي. وتتشابك الأواصر السردية واللونية في توليفة مكثفة تشكل ما يشبه لوحة مرسومة بالعبارات. وعلى ما يوحي عنوان القصة فأن القاص يمضي في فضاء لوني خالٍ من ثيمة محددة فيما تتلاحق الكلمات كما لو كانت ضربات سريعة من ريشة رسام. وفي قصته الثانية، بعنوان "لا"، يبدو كما لو أن القاص يزيح المشهد ليضع في أثره إطاراً يمتلأ بصورة أقرب الى اللقطة السينمائية. فالبطل يضع "الحياة حول عنقه كما لو كانت طوقاً". والقاص شيرزاد حسن، الذي سبق أن أصدر مجموعتين قصصيتين في بغداد منذ عام 1983، يبدو أكثر قدرة على النفاذ الى العمق النفسي لشخصيات قصته المعنونة "الفزاعة". وهو يفصح عن امتلاكه لمخيلة جامحة تسعفه في بناء عالم فانتزي يتعالى عن الواقع ويتجاوزه في الوقت الذي يستمد مفرداته وصورته منه. فالبطل، شلبي، صاحب الحقل الواسع، يصاب بدهشة بالغة حين يقف في منتصف حقله الواعد بموسم وفير حين تهبط من السماء، فجأة، أسراب لا نهائية من الطيور التي تنقض على الزرع بهم. أما الأطفال الذين يستأجرهم شلبي لكي يطردوا العصافير من الحقل فيتحولون الى فزاعات تلبث جامدة من دون حراك. وفي قصة "ومضة" يحمل القاص أحمد ملاّ كتابته محملاً فانتازياً ويذهب نحو الجانب الأقصى من عملية التغريب والمغامرة التجريبية. وعلى نحو ما تبدأ قصة المسخ لغرائز كافكا حين ينهض غريغور سامسا صباحاً ليجد نفسه وقد تحوّل الى حشرة مدرعة، فإنّ بطل قصة "ومضة"، المجهول الإسم، يصرّح، في صيغة المتكلم، بأنه أصبح نعامة. وهذا التحول يفرض عليه تغيير عاداته وتبديل السلوك الذي درج عليه منذ أن وعى عالمه الذي يعيش فيه. وينجح القاص الى حدّ كبير في تخطّي الصعاب التي يضعها هذا الخيار الفانتازي أمام البنيان القصصي ومنحاه السردي ولغته وتشبيك عناصره الحديثة. والقاص محسن أحمد عمر يذهب، بدوره، الى ناحية اللغة المطلقة والنظرة التجريدية وتلوح قصته "القلعة" غارقة في ضباب كثيف من الغموض الذي ينتج من رغبة القاص في ازاحة كل واقعة أو حادثة من فضاء الكتابة. تبدو القصة وكأنها تجربة في تقصّي قدرات اللغة على استخراج الحياة من أعماق الفراغ واللاشيء. والقلعة هنا، بصفتها إيحاء وإحالة الى حضور طغياني لقوة غاشمة، ولكن خفية وعالية، تكتسي رداء مظلماً يتألف من خيوط اللغة وحسب. الصوت النسائي الوحيد الهام منصور هي الصوت النسائي الوحيد في المجموعة. هي تنتمي الى الجيل الخمسيني ذاته الذي يحتل الصفحات بوجدانه ومشاغله وأساليب الشغل الفني. وكما هو معهود فهي لا تتوانى عن التكلم انطلاقاً من وجهة نظر المرأة، حاملة متاعبها محمل الفكرة والمآل. "ألا ترى الجسر الذي يفصل بيننا؟" تقول بطلة قصة "الجسر" التي تحاول مقاربة العلاقة المحظورة بين رجلٍ وامرأة في مجتمع تحاصره اشارات المنع والتحريم والتابو من كل صوب. وعلى رغم ان القاصة تتمكن من تسيير رحلة شخوص القصة عبر مسار سردي متين ولغة تعبيرية متماسكة غير انها تقع، في نهاية القصة، في مصيدة الانتصار اللفظي الساذج، على ما درجت انماطٌ من التأليف الأدبي "الملتزم" في تلك الحقبة. فالمرأة تفلح في تخطي الشرخ وتستطيع، هي وعشيقها، من تجاوز الدائرة الخانقة والسير "نحو الأمام" في أكثر الطرق وعورة ومشقة. يقترب القاص فرهاد بيربال في قصته "لامارتين" من موضوعة الهجرة ومتاعب المهاجرين والآلام التي تولدها الغربة في أعماق أولئك الذين يضطرون الى ترك أوطانهم والتلحف بسماء بلاد بعيدة وباردة. وتبدو قصته الوحيدة، في المجموعة كلها، التي تتأسس في معمار واقعي وان كظان يجنح الى سخرية لاذعة عبظر تخيّل مفارقٍ ينأى، قليلاً، عن المعهود. فالبطل الذي يجد نفسه عاطلاً من العمل وترفضه دوائر التشغيل يجد نفسه وجهاً لوجه أمام تمثال لامارتين الذي يخبره بأنه مضطر الى العمل ليظلاً كي يكسب قوته. فالشعر لا يدرّ مالاً. وموضوع الغربة وآثارها المريرة يعود ليظهر في قصة فواز حسين المعنونة "النسر". البطل سيامند خلّو، الذي تحطمت أحلامه وخابت آماله التي كان راكمها سعياً وراء الظفر ببلد أوروبي ينهار تحت وطأة الحزب الذي يستولي عليه حين يدرك ان صديقه القادم اليه، بعد فراق طويل، قد فقد ذراعه في مصنع أوروبي. كان يمكن للقصة أن تنهض في قوام مضبوط وبنية منسجمة لولا الطابع الميلودرامي، الذي يكاد يكون مصطنعاً وقريباً من الفجاجة، في النهاية المأسوية. وفي الاجمال، تظهر المجموعة بقصصها المتنوعة، في المواضيع والأساليب، كهدية صغيرة تفاجئ بها دار "لارماتان" قراءها. كأنها تقول ان هناك قصاصين أكراداً يملكون الموهبة ويصنعون الكتابة بمهارات لغوية وسردية بارزة. فالواقع الكردي، الثقيل، بحروبه وقساوته واقتتال جماعاته والمظالم التي تقع على كاهل أهله، لم يمنع هؤلاء من الذهاب الى حيث الفن بقوانينه في الدهشة والمتعة والإبداع.