منذ عهد الملك عبدالعزيز مؤسس الدولة السعودية الحديثة والعلاقات السعودية الاميركية علاقة حكومة بحكومة. من الجانب السعودي كان الخطاب من حاكم الى حاكم ولم تكن المؤسستين الهامتين في صنع القرار الاميركي الرأي العام والبرلمان بقسميه مجلس النواب ومجلس الشيوخ ضمن عناصر هذا الخطاب المؤسس للعلاقات السعودية الاميركية. التعامل المباشر منه وغير المباشر مع رئيس الجمهورية الاميركية واعضاء حكومته، اما مؤسسات الجهاز التشريعي من رأي عام ونواب للشعب صانعة القرارات وقاعدة التشريع فلم يكن بينها وبين الحكومة السعودية روابط او علاقة عمل مهمة وفاعلة في تكوين العلاقة السعودية الاميركية ولم يكن هناك تماس او تقاطع بين الدائرتين السعودية والاميركية في هذا المجال. هذا النهج السعودي في تكوين العلاقة مع الولاياتالمتحدة يتمشى مع طبيعة النظام السعودي الذي يجمع بين المهمة التشريعية والتنفيذية، فالحكومة هي المشرع والمنفذ في الامور الداخلية والخارجية. مجلس الشورى الذي اقيم في السنوات الاخيرة لا يزال جزءاً من الجهاز الحكومي بشكله العام، وليس له شخصية تشريعية مستقلة فخط سيره لا يمكن الا ان يكون متوازياً ولو بشكل عام مع السياسة الحكومية. المؤسسات التشريعية الاميركية من مجلس نواب وشيوخ اعطت الحكومة الاميركية وعلى رأسها رئيس الجمهورية شيئاً من الحرية والسرية فيما يتعلق برسم السياسة الاميركية مع المملكة العربية السعودية وذلك نظراً لاهمية البترول وموقع المملكة العربية السعودية في العالمين العربي والاسلامي وبالنسبة للولايات المتحدة استراتيجياً واقتصادياً. كما ان هنالك عاملاً اخر يلعب دوراً في هذا الاتجاه، وهو ان المشرع الاميركي وجد ان اعطاء الحكومة الاميركية دوراً اكبر واهم في تكوين وادارة العلاقة مع المملكة العربية السعودية يحقق للولايات المتحدة نتائج افضل من طرح قضايا العلاقة مع المملكة العربية السعودية على بساط البحث والتحليل في مجلس النواب ومجلس الشيوخ خصوصاً ان الرأي العام الاميركي والبرلمان اختزله العلاقة مع المملكة العربية السعودية في معادلة احادية مع الحاكم يغيب فيها الرأي العام السعودي والمؤسسات التشريعية. الشعب السعودي كجزء من منظومة الشعوب العربية والعالم الثالث تختصر حكومته كل المؤسسات المساهمة في اي قرار سياسي استراتيجي او عادي، لذا فإنه بالنسبة لحاله ولما اعتاد عليه فإن العلاقات مع الولاياتالمتحدة القائمة على المحور الحكومي فقط هي علاقة طبيعية وكاملة. الشعب الاميركي كجزء من منظومة الشعوب التي يؤسس فيها القرار السياسي والعلاقات الخارجية على منظومة ثلاثية يشارك فيها الرأي العام والجهاز الحاكم والجهاز التشريعي يرى في العلاقات الاميركية السعودية القائمة فقط على المحور الحكومي الحكومي علاقة غير طبيعيةعرجاء وتحكمها ظروف خاصة. ومن هذا المفهوم جاءت التسمية التي تطلق عادة في الصحافة السعودية والعربية على العلاقات السعودية الاميركية بأنها علاقات ذات طبيعة خاصة دون تحليل وفهم لمعنى الخصوصية، لقد ظل النهج المؤسس على المحور الحكومي في العلاقات السعودية الاميركية مقبولاً للجانب الاميركي لأنه يحقق له افضل النتائج، ومقبولاً من الجانب السعودي لأنه يعتقد بصحته قياساً الى حاله. في السنوات القليلة الماضية وقبل احداث 11 سبتمبر بدأ توازن هذه المعادلة التي تقوم عليها العلاقة السعودية الاميركية يختل لأسباب ظهرت على المسرحين السعودي والاميركي. ففي الجانب الاميركي التقى الطرف الليبرالي مع اليميني المتطرف ومع المنحاز جداً لاسرائيل على معارضة المعاملة الخاصة في العلاقات السعودية - الاميركية. ولكلٍ من هذه الفرق الثلاثة اهدافه الخاصة: الليبرالي يعارض المعاملة الخاصة للمملكة لأنه يرى ان السعودية خارجة على المذهب الليبرالي، واليميني الديني المتطرف يعارض لأنه يرى ان السعودية تدعم الدين الاسلامي محلياً ودولياً على حساب الدين المسيحي، وانها العمود الفقري في منظمة "اوبك" المؤسسة الاحتكارية - حسب رأيهم - التي تسببت برفع اسعار البترول. اما المساندون الاشداء لاسرائيل، فيعرفون موقف المملكة تجاه اسرائيل خصوصاً قبل المبادرة العربية التي قدمتها السعودية. على المسرح السعودي حدث تغيير في اهتمام المواطنين من جميع الطبقات الاجتماعية بالشأن الداخلي والخارجية لقضايا الامة، وبدأت تظهر على السطح نواة رأي عام بسمات دينية احياناً وليبرالية احياناً اخرى، يناقش القضايا المهمة ولو على استحياء. ومن هذه القضايا علاقة السعودية بالولاياتالمتحدة الاميركية، وكان معظم النقاش رد فعل على ما يصدر من الولاياتالمتحدة ولم يكن نقداً اصيلاً لطبيعة العلاقة العرجاء معها، وكونها في مهب الريح تميل يميناً او شمالاً كلما طرأ تغير في تقويم الحكومة الاميركية للمساهمة السعودية في القضايا الاستراتيجية والامنية والاقتصادية للولايات المتحدة. الحادي عشر من سبتمبر وما اسفر عنه من مشاركة فاعلة من جانب نفر من السعوديين في احداث ذلك اليوم، ليس هو السبب الرئيس في الخلل الذي ظهر في تركيبة معادلة العلاقة السعودية الاميركية كما يظن البعض، لكنه الحدث الذي قدم الى كل الاطراف المعارضة لتلك العلاقة الخاصة في الولاياتالمتحدة سلاحاً يمكن استخدامه بشكل فاعل لتحويل العلاقة الاميركية - السعودية من علاقة خاصة الى علاقة عدائية. غاية المعارضين وهدفهم ليس التكوين المؤسسي لتلك العلاقة من حيث كونها عرجاء، وانما الخصوصية التي تنعم بها حتى وان كانت المحصلة النهائية لتلك الخصوصية هي لمصلحة الولاياتالمتحدة. الرأي العام السعودي ورغم معارضته الشديدية لسياسة الحكومة الاميركية الخارجية خصوصاً في فلسطين والعراق ليس له دور من وجهة نظرنا في الخلل الذي اصاب العلاقة الاميركية - السعودية بسبب دوره المحدود في التأثير على السياسة الخارجية. تبقى العوامل المؤثرة في هذه العلاقة فقط في الجانب الاميركي، وهي: 1 رأي عام اميركي لا يرى في المملكة الا برميل بترول واسرافاً وجملاً وصحراء وغياباً كاملاً للمجتمع المدني. 2- مجلس شيوخ ونواب اميركي لا يختلفان في رؤيتهما الى المملكة عن رؤية الشعب الاميركي، اغمض احدى عينيه عن وضع العلاقة تحت المجهر، ليتسنى للحكومة الاميركية تحقيق نتائج افضل في علاقاتها الثنائية مع المملكة لصالح الولاياتالمتحدة. 3- حكومة اميركية يغلب على تكوينها النسيج السياسي والديني اليميني المتطرف وضعتها احداث 11 سبتمبر في موقف لا تستطيع معه الدفاع عن علاقة خاصة مع المملكة حتى وان ارادت ذلك خدمة لمصالحها السياسية والاقتصادية الحزبية او الوطنية. السؤال الباحث عن اجابة الآن، هو أي منهجية وآلية يجب ان تقام على اساسها العلاقات السعودية - الاميركية؟ الجانب الاميركي يمكن ان يتولى مهمة الاجابة عن شطر السؤال المتعلق بالولاياتالمتحدة فهو أكثر معرفة بحاله وبمصالحه، لكنني اعتقد ان الخصوصية في العلاقة بمفهومها الاعرج القائمة على المحور الحكومي الاميركي، ستميل مستقبلاً في اتجاه الاقلال من الاحتكار الحكومي لتكوين العلاقة مع المملكة العربية السعودية وادارتها، ليظهر دور اكثر فاعلية للجهاز التشريعي والرأي العام الاميركي في رسم هذه العلاقة. ما يعنيني في هذا المقال، هو الاجابة عن شطر السؤال المتعلق بالمملكة العربية السعودية، اي المنهجية والالية اللتان يجب اتباعهما لاقامة العلاقة مع الولاياتالمتحدة وادارتها. ولكن قبل ان نضع اطاراً لتلك الآلية علينا اولاً ان نحدد الثوابت الاساسية التي تقام عليها هذه العلاقة، هذه الثوابت في رأيي هي: اولاً: ان في المملكة العربية السعودية شعباً ورأياً عاماً له قيم ومبادىء وطنية عربية واسلامية لا يجوز المساس بها وهي ليست قابلة للمتاجرة السياسية. ثانياً: ان المملكة العربية السعودية حكومة، وان كانت تملك قوة القرار السياسي والتنفيذي والتشريعي بمفردها الا انها لا تستطيع تجاهل الرأي العام والتقاطع مع خطوطه العامة. بمعنى آخر ان الحكومة وعلى رأسها ملك البلاد وان كانت مالكة لسلطة القرار، الا ان شرعية هذه القوة في القرار قائمة على كونها الراعية لمصالح الامة والعاملة على تحقيق امالها الوطنية والقومية. هذا الاطار الاساسي الحاضن للمبادىء والثوابت التي تقوم عليها علاقة المملكة الخارجية مع أي دولة اجنبية بما فيها الولاياتالمتحدة، لابد ان تكون له ثوابت على ارض الواقع، لكي يكون الخطاب السعودي مقروءاً بوضوح في واشنطن وغيرها من العواصم الاجنبية وتؤسس عليه وبموجبه علاقات الدول مع السعودية. الثوابت على ارض الواقع السعودي الداعم لمنهجية جديدة في العلاقات السعودية الاميركية اهمها: 1- تأسيس واقامة الامن الوطني والاستقرار السياسي على القاعدة الوطنية الداخلية والابتعاد عن مفهوم استيراد الامن السياسي من الولاياتالمتحدة او من غيرها، وهذا يتطلب سياسة داخلية اقتصادية واجتماعية وسياسية تقوم اساساً على كسب ثقة المواطن، وذلك بالاهتمام اولاً وقبل كل شيء بقضاياه وشؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية في اطار من العدل واحترام حقوق الانسان. 2- تطوير وتفعيل مجلس الشورى السعودي تكويناً ومنهجاً ليؤدي دوراً فاعلاً ومهماً في المشاركة الحقيقية في رسم السياسات الداخلية والخارجية. 3- اعطاء مساحة اكبر لتكوين مؤسسات المجتمع المدني ولمشاركتها، ومنها الصحافة والجامعات والجمعيات وغيرها لتلعب دوراً في تطور وايضاح الرأي العام في القضايا الداخلية والخارجية. العلاقات بشكلها العام، تكون خاصة لانها تجاوزت المستوى العادي، وهي في هذه الحال تكون خاصة بالايجاب، او تكون خاصة لانها لم تصل الى المستوى العادي، وهي في هذه الحال تكون خاصة بالسلب. وهذه في نظري هي حال العلاقة السعودية - الاميركية. هذه العلاقات لم تصل بعد، ثوابت او نهجاً، الى المرحلة العادلة لأن اصلين من عناصرها المؤسسية معطلان في الولاياتالمتحدة البرلمان والرأي العام، وغير مكتملين في المملكة العربية السعودية مجلس الشورى والرأي العام. وهذا الوضع الخاص الاعرج لصناعة السياسة الخارجية السعودية - الاميركية والقائم على المحور الحكومي هو في مصلحة الولاياتالمتحدة، من حيث النتائج، لكنه ليس كذلك بالنسبة الى المملكة العربية السعودية. لقد حان الآوان وسنحت الفرصة للمملكة العربية السعودية كي تستكمل البناء الداخلي للثوابت والمؤسسات التي عليها تقام وترسم وتحدد علاقتها مع الولاياتالمتحدة. وسيؤدي استكمال بناء المؤسسات السعودية المشاركة في صنع هذه العلاقة الى تفعيل دور المؤسسات الاميركية البرلمان، والرأي العام لتساهم مع مثيلاتها السعودية في صنع العلاقات بين البلدين. وهذا الاطار المؤسسي الموسع لصنع العلاقات سيحجم من دور جماعات الضغط اللوبي المعادية ايديولوجياً لعلاقة جيدة بين الولاياتالمتحدة والسعودية مثل جماعة الضغط الموالية لاسرائيل. لقد وجدت القوى المعارضة للعلاقة الحسنة بين الولاياتالمتحدة والسعودية في الطبيعة الخاصة والعرجاء للعلاقات الاميركية السعودية وضعاً ملائماً ومناسباً لاستخدام قواها الضاغطة بشكل مؤثر ضد هذه العلاقة. ان اخراج آلية صنع العلاقة الاميركية - السعودية، والسعودية - الاميركية من الحال الخاصة الى الحال الطبيعية على المسرحين السعودي والاميركي، سيؤدي الى ايجاد علاقة صحية متوازنة يشارك في صنعها كل المحاور والمؤسسات المعنية بدلاً من قيامها على محور واحد. وعندما تضاء كل الانوار وتخرج العلاقة من ظلمة الدهاليز والاقبية، يصعب على جماعات الضغط واصحاب الايديولوجيات المتطرفة الذين يضعون مصالحهم المحدودة فوق مصلحة الامة، ان تعمل بشكل قوي ومؤثر للاساءة الى العلاقة الاميركية - السعودية. الولاياتالمتحدة لا تحترم الضعيف وإن جاراها، وتحترم القوي وإن خالفها، والضعف كما القوة ليس هنا ضعف أو قوة المادة ولكنه ضعف الذات. فالحكومة الاميركية، وان كان لها الدور الرئيس في العلاقة الاميركية - السعودية، الا انها مدعومة وقوية بقوة الرأي العام والبرلمان، تجيشه متى تريد، وتستفيد من هجومه على الطبيعة الخاصة للعلاقة مع السعودية عندما تريد. تضيف دعمه للعلاقة حسنات لها وتتنصل من هجومه على العلاقة بدعوى استقلاله عنها. هكذا يكون التناغم بين هذه المؤسسات الثلاث الحكومة والبرلمان والرأي العام، في صناعة وادارة العلاقة مع دولة اجنبية. قوة الامة هي محصلة جمع لقوى الابداع والفكر والانتاج في كل مواطن رجل او امرأة، وكلما استطاعت الحكومة السعودية ان تلغي علامة الطرح من معادلة الادارة وتجمع رصيد اكبر من علامة الجمع كلما عظمت قوتها امام مواطنيها وامام الغير. وهذا هو افضل وانجع رد سعودي على تقرير مؤسسة "راند" وعلى مقالات "نيويورك تايمز" وتصريحات اعضاء الكونغرس ومجلس النواب المعادية للسعودية. انه رد قائم على بناء قوة الذات وليس على الاستجابة لما يريده الآخر، وان كان الآخر هو الولاياتالمتحدة. * كاتب سعودي.