حركة التحرر العربية ومكوناتها الاساسية المتمثلة في التيار القومي والتيار الماركسي والتيار الديني، تشكلت في اطار مجتمعات فلاحية - إقطاعية. وبعد جلاء الاستعمار المباشر نشأت السلطة السياسية لملء الفراغ قبل ان تنضج الشروط السياسية والاجتماعية وقبل تبلور الدولة الحديثة عبر القاعدة الاجتماعية والتراكم التاريخي الضروري. وكان تطلع البورجوازية التجارية ذات الاصول الاقطاعية - الارستقراطية العشائرية، والنخب المثقفة تتجه نحو اقامة دولة مشوهة وهجينة تستمد بعض عناصرها من النموذج الغربي في ظل غياب الحامل الاجتماعي فتحددت علاقات التبعية والسيطرة المتجددة لهذه البلدان كاطراف تابعة للمركز نمط الانتاج الكولونيالي في نظام السيطرة الامبريالي الباحث عن الاسواق والمتطلع الى المواد الخام لتلبية احتياجات صناعته. ومع ان العديد من الدول العربية الرئيسية في المشرق العربي شهد تجربة الحياة الدستورية والبرلمانية والحزبية مصر، سورية، العراق، الاردن، لبنان، غير ان التكوين الاجتماعي للاحزاب الرئيسية وقياداتها التي فرضت سيطرتها على الحياة السياسية في مناخ يسوده الفساد والاستبداد وغياب العدالة مع بعض الاستثناءات في بعض البلدان الوفد في مصر، الكتلة الوطنية في سورية، الحزب الوطني في العراق أوجد نوعاً من النفور لدى قطاعات واسعة من الشعب من فساد التجربة الليبرالية. واللافت هو اجماع الحركات القومية والماركسية والاسلامية التي شكلت مجتمعة قوام حركة التحرر العربية بدرجات مختلفة على اعلان العداء للدولة وسياساتها الليبرالية التي تتخللها ممارسات فساد وتمايز اجتماعي واسع وشيوع أساليب قمع واستبداد بالغة القسوة. وبما ان حظوظ هذه الحركات في الوصول الى السلطة من طريق الانتخابات يكاد يكون معدوماً نظراً لهيمنة التحالف البورجوازي - الاقطاعي وتحكمه في اللعبة السياسية لاحتكاره عناصر القوة والثروة، لذا كان الانقلاب هو الاداة التي استندت اليها الفئات الوسطى للوصول الى السلطة، فتركيبة حركة الضباط في مصر ضمت وطنيين مستقلين وماركسيين واسلاميين، غير ان الخلافات الايديولوجية والسياسية والصراع على السلطة والموقف من الديموقراطية اججت التناقضات بين هذا الائتلاف الهش وفي داخله وبقية التكوينات السياسية. وحسم الصراع على مراحل ليستفرد بالحكم التيار الذي قاده جمال عبدالناصر. وكانت النتيجة ان الانقلاب الذي صادر الدولة باسم المجتمع عاد وانقلب على المجتمع من خلال الدولة، حيث تم همّش وأبعد عن دائرة صنع القرار، وجرت شخصنة الدولة والسلطة من خلال الزعيم الذي استند الى الايديولوجية الشعبوية الوطنية والقومية. ومع ان هذا الخطاب الشعبوي حظي بتأييد وزخم جماهيري واسع، نظراً لما يتضمنه من تركيز على قضايا مباشرة تهم مصالح الغالبية الساحقة من الجماهير في ظل هيمنة الثقافة الشفوية في المجتمع خصوصاً انه ارتبط بتحقيق انجازات وطنية وقومية واقتصادية واجتماعية ملموسة، تحققت على ارض الواقع، وازاء حالة الركود السياسي والاجتماعي الناجم عن حل الاحزاب السياسية والمنابر الشعبية والاعلامية المستقلة، سعى عبدالناصر الى تشكيل تنظيمات فوقية سلطوية، غير ان هذه التنظيمات ظلت مرتعاً للبيروقراطية واسيرة للاجهزة الامنية، والامر ذاته انسحب على بعض التنظيمات الناصرية في الوطن العربي حيث كانت تحت التأثير المباشر للسفارات المصرية واجهزة الاستخبارات. شكل هذا تناقضاً صارخاً بين ارتباط عبدالناصر المباشر والوثيق بالشعب المصري والجماهير العربية وبين عدائه لحق هذا الشعب في تأطير نفسه في احزاب ومنظمات مستقلة، ونذكر هنا ان الشرط الاساس والوحيد الذي طرحه عبدالناصر للموافقة على الوحدة مع سورية هو حل الاحزاب، الامر الذي ادى الى ضمور الحياة السياسية والاجتماعية وسلبية الجماهير في سورية وتحويل مشاعرها الوحدوية، ويمكن القول ان فرط الوحدة ووصول التجربة الناصرية الى طريق مسدود ثم سقوطها، لم يكن بفعل التآمر الخارجي في المقام الاول، ولكن بسبب غياب الديموقراطية وتحكم البيروقراطية وهيمنة اجهزة الاستخبارات ومراكز القوى، التي دخلت في صراع محموم على السلطة والنفوذ. الحركة القومية بتكويناتها المختلفة صادرت حق الجماهير في التنظيم الطوعي المستقل وفرضت خطاباً قومياً شعبوياً يستلهم الزعيم الشعبي او الحزب القائد او القائد الضرورة، انطلاقاً من أولوية الديموقراطية الاجتماعية ومفهوم تحالف قوى الشعب العامل وضرورة التصدي للمخاطر والمؤامرات الامبريالية والصهيونية والرجعية المزعومة او الحقيقية، في هذا السياق جرى تقنين الحريات وفرضت حال الطوارئ وانشئت المحاكم العسكرية ووضعت الصحافة واجهزة الاعلام تحت التوجيه والرقابة المباشرة، وبكلمة فان شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة تمثل في التطبيق العملي في إخراس الاصوات المعارضة والمختلفة، بما في ذلك أصوات الشرفاء الحريصين على خدمة الوطن والدفاع عن المصالح الوطنية والقومية. في ظل هذه الاوضاع نشأت قوى طبقية جديدة بيروقراطية - طفيلية ضمن اجهزة الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية ومرافقها الاقتصادية القطاع العام حيث استغلت مواقعها لممارسة شتى انواع النهب والفساد ومراكمة الثروات وتعزيز نفوذها. كاتب سعودي.