هناك احساس بنقص ثقافي ما في عالمنا اليوم، ويتفاقم الاحساس مع حروب بلا أفق ونزاعات بلا حل ومرجعيات عالمية ضعيفة وشبه غائبة. نقص ثقافي، هو بالتحديد في ذلك الجانب الانساني الروحي في ثقافة البشر، كأنّ تلك الروابط بين الانسان والانسان، أينما كانت اقامتهما وأيّاً كان لونهما ولسانهما، في سبيلها الى التقطع، فيلجأ كلّ الى عزلته، أي الى انطفائه وتحوّله الى تراب. أليس الانسان في البدء تراباً ثم نفخت فيه الروح فنطق؟ والروح واحدة، أو أنها متشابهة، حتى إذا انقطعت عاد الانسان الى بدئه لتذروه الرياح. والإنسان أعظم وأسمى من أن يُترك الى ترابه، أي يُتركَ الى السياسيين المحدودين وأهل المال المتركزة أنظارهم على الربح كيفما اتفق، لذلك لا يخلو العالم من انسانيين هنا وهناك، يحيون الروابط بين البشر، إذ ينتخبون الحكم الخوالد، حتى إذا أتى كلام المصالح العابرة وكلام القتل العابر لم يستطيعا اقتلاع شجرة الحكمة الحاملة أوراق الكلام الانساني بألوانه المتعددة. في هذا المجال يأتي كتاب "الحكمة عند العرب" لسهيل بشروئي الذي أصدرته أخيراً بالانكليزية دار "وان وورلد" في اكسفوردبريطانيا. والكتاب نتاج جهد في اختيار كلام الحكمة في مجالاته الشخصية والاجتماعية والفنية والتأملية والكونية عبر آلاف المراجع العربية القديمة والنهضوية، وجهد في استنهاض حساسية انسانية معاصرة هي معيار الاختيار، فكأن مادة الكتاب أجوبة عن أسئلة اليوم، فضلاً عن كونها الأجوبة الكلاسيكية عن كلام الأيام كلها. مقاطع من القرآن والحديث ومأثور العرب قديماً وحديثاً والغزالي وابن عربي والحلاج والمعري وألف ليلة وابن حزم وكليلة ودمنة وعلي بن أبي طالب والمتنبي وعنترة وجبران خليل جبران وعمرو بن كلثوم وأمين الريحاني الخ... "الحكمة عند العرب" أهداه بشروئي الى وزير الخارجية اللبناني محمود حمود الذي كان يشغل قبل تقلده الوزارة منصب سفير لبنان في لندن. ولعل الاهداء، فضلاً عن تقدير المؤلف للمهدى اليه، هو إشارة الى ان التجربة اللبنانية تحتاج قبل غيرها الى الحكمة، فضلاً عن ان لبنان في جوهره هو حكمة التعارف والاعتراف المتبادل والاستناد الى الانساني المشترك لدى قيامات الأعراض وصخبها. ولأن الكتاب يعرض حكمة العرب فهو في جانب منه رسالة الى العالم الذي يقرأ الانكليزية، رسالة تقدم صورة للعرب يحتاجون اليها اليوم أمام الملأ الشرقي والغربي على حدّ سواء، بعدما نالهم ما نالهم من تشويه ناتج من ضلوع عدد ضئيل من أبنائهم في جرائم تفجيرات 11 أيلول سبتمبر في الولاياتالمتحدة الأميركية. ولكن، إذ يقدم بشروئي الى العالم صورة العرب الحكماء وأقوالهم التي تعلّم النبل والوفاء واحترام حقوق الانسان أياً كان جنسه ولونه وفكره، فإن هذه الصورة العربية الزاهية تحتاج الى من يعيد تقديمها الى عرب اليوم الذين تجتاحهم أفكار عابرة تعتني باقتناص اللحظة ولا تحفل بماض أو بمستقبل، كما تجتاحهم أفكار قاصرة طالعة من خفة التعصب والتحامل والاتهام بلا دليل والانعزال ورفض الآخر أو تخوينه. فإذا كان الجهد الإنساني المسؤول يقدم أفضل ما في حضارة ما الى سائر الحضارات، فحريّ بكل حضارة ان تقدم أفضل وأجمل ما فيها لنفسها أولاً، أي للأجيال الجديدة التي شوهتها الحروب والنزاعات الصادرة عن ضيق بالآخر وتعظيم للذات الى حدّ المبالغة. هكذا تنقّي كل حضارة نفسها من أدران التعصب الأحمق، وتتعرّف الحضارات على صور بعضها البعض، فيلتقي الأجمل والأفضل والأكثر ديمومة بين الإنسان والإنسان. هناك أمل بأن يحظى كتاب "الحكمة عند العرب" بإقبال قراء الانكليزية، ومبعث الأمل القبول الحسن لمحاضرة ألقاها سهيل بشروئي في "تيمانوس أكاديمي" في لندن، غداة نشر الكتاب، في عنوان "الفلسفة الخالدة والحكمة العربية". ان الحضارات تتقبل بعضها البعض حين تتعارف جيداً، فيكتشف الناس ما هو مشترك بينهم، وتسير الأمور بالتالي الى مراعاة المصالح المشتركة ووضع التبادل في محل الصراع والتعاون في محل التنازع والسلام في محل الحرب. ومن محاضرة بشروئي "الفلسفة الخالدة والحكمة العربية" نقتطف: "نشر الدوس هاكسلي كتابه "الفلسفة الخالدة" عام 1946 مستوحياً عنوانه من الفيلسوف غوتفريد لييبنتز، ويفصل بين الكاتبين اللذين عاش أحدهما في القرن السابع عشر والآخر في القرن العشرين، عمر مفهوم الوطنية الذي عرف في القرن التاسع عشر يقظة جديدة للهوية الوطنية في أوروبا كلها، ووجد ترجمته الصريحة في ثورات 1848 وإعادة رسم خريطة أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، خصوصاً مع ولادة دول جديدة كفنلندا ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا. وأصدر هاكسلي كتابه بعد عام من انتهاء الحرب العالمية الثانية التي جرت خلالها فظائع انسانية غير مسبوقة وذهب ضحيتها الآلاف. وكما عبر عن الوضع الشاعر الروسي أوسيب ماندلستام الذي كان إحدى ضحايا القمع، فإن من سخرية الأقدار ان يشهد القرن العشرون أبشع أنواع الدمار بعد ان كان بدأ ببصيص أمل وشيء من الثقة في القدرات الانسانية. في هذا المناخ بدأ هاكسلي يجمع المقتطفات الأدبية لتكون "القاسم المشترك الأول للنظريات كلها" والأقرب الى الحقيقة التي يمكن الإنسان ان يبلغها، وذلك من دون أن يؤسس مذهباً جديداً. وجمع هاكسلي مقتطفات من فلسفة تاو الصينية، ومن البوذية والإسلام. وجمع أيضاً كتابات براهما والروحانيات المسيحية الى كتاب الحياة المقدسة والموت المقدس لويليام لو، مروراً بالقديسة كاترين من جنوى. ووصل هاكسلي هذه المقتطفات بواسطة تحليل، ووزعها على 27 باباً. ويذكر بحث هاكسلي عن الحقيقة الكونية بالشاعر الصوفي العربي ابن عربي الذي شرح ومنذ القرن الثالث عشر نظرته الروحانية فقال: رأى البرق شرقياً فحنّ الى الشرق ولو رآه غربياً لحنّ الى الغرب ان غرامي بالبريق ولمحه وليس غرامي بالأماكن والترب وهذا البرق هو في الواقع الحكمة الكونية وشعاعها الذي ينعكس في أشكال مختلفة لكن مصدرها واحد. كانت اللغة العربية متنفس حكماء العصر، ومخزن الآداب والفلسفة والعلوم الانسانية من الصين والمحيط الهادئ حتى اسبانيا والمحيط الأطلسي. وبلغ تناغم الحضارات الناتج من جهود العرب ذروته في الأندلس. وأكثر ما تميّز في هذه الحقبة المستنيرة ريادة العرب في ميادين العلوم والفلك ونظام رياضيات متطور، قوامه الأرقام التي يعتمد عليها الغرب اليوم. كذلك تفتحت العبقرية الفنية العربية التي نبعت من نبذ تعدد الآلهة وعبادة إله واحد قوي وعليم وحكيم، فانعكس ذلك في روحهم وروح الأماكن التي بنوها هندسةً وفناً. وحتى يومنا هذا، تبقى منجزات العرب الهندسية مثالاً حياً على تحول القوى الروحية من مجرد أفكار الى أشياء ملموسة. وصقلت روح الإيمان تلك بين أيدي الفنانين العرب فحولوا بأناملهم برودة الرخام والحجارة الى جمال تدب فيه الحياة. فكل حائط بناه العرب بني بتصاميم خاصة وحمل وحدة الروح التي أدركها العرب ادراكاً شديداً. وبقيت حكمة العرب الشهيرة محفورة بخط منمق على مداخل المدارس الأندلسية، وهي الآتية: العالم قائم على قوائم أربع، علم الحكيم وعدل العظيم وصلاة التقي وبسالة الشجاع. وينعكس الفن الرفيع الذواق، اضافة الى غيره من الانجازات العربية، في مفهوم الكونية الشامل باستثناء الحقائق والقيم التي تعرف ب"الفلسفة الخالدة" وهي تراث حي الى اليوم. وهذه "الحكمة الخالدة" هي "الحكمة الأزلية" التي تشكل القاعدة المشتركة لحضارات عدة وإن نظر كل منها اليها بمنظار خاص. ومن "الحكمة الخالدة" استوحي كتابي "الحكمة عند العرب" الذي ضمنته مقتطفات وسعتها قدر المستطاع. لقد تاق العرب الى كلمة تتجاوز الحاضر. فكان الشعر حياتهم التي وجدت في الشعر أفضل تعبير لها. وبلغ الشعراء العرب كالمتنبي وأبي العلاء المعري مستوى شكسبير وغوته ودانتي. وتنبه الشاعر العربي أبو تمام للروح الكونية التي تجمع الشعراء كلهم. فقال: "وإن لم يكن نسب يؤلف بيننا أدبٌ أقمناه مقام الوالد".