في خضم أجواء طبول الحرب وتسارع التحليلات والأنباء والتسريبات عن عمل عسكري أميركي ضد النظام العراقي لا بد من ان تكون هناك وقفة تأمل وتركيز لاستشراف الآفاق لئلا نقع ضحية التأثير الاعلامي المبرمج الذي تريده الماكنة الاعلامية الموجهة لصالح المخطط الذي أخذت الادارة الاميركية تشهره في وجه العالم كله بحجة محاربة الارهاب أو الثأر بما حل بالكرامة الاميركية بعد أحداث ايلول سبتمبر الرهيبة. فسياسة الادارة الاميركية تتميز الآن ب "الفرعنة" تعكسها محاولاتها بفرض الهيمنة وبسط نفوذها على الانظمة والدول بحجة ممارستها الارهاب أو دعمه. وأدت هذه السياسة الصلفة بلا أدنى شك الى اهتزاز ثقة الدول والانظمة، وأوقعت الشعوب التي تتطلع الى التخلص من الأنظمة الديكتاتورية والتخلف في حيرة وتردد وحذر في التعامل مع هذه السياسة التي تتميز بالاذعان والفرض، لا سيما ان هذه السياسة تتعامل مع الآخرين وفق منطق الإلغاء والتجاهل وشل الارادة بما لا يسمح ولا يفسح في المجال للتعاطي وفق مبدأ التبادل والتعاضد. فكل شعوب العالم تتطلع اليوم الى التحرر من الاستبداد والاستعمار والبؤس والتخلف، وتحلم بالرفاه والتنمية والتقدم اسوة بدول العالم المتطورة. وهناك أنظمة، تسعى بلا أدنى شك الى إدامة التخلف، يجب ان لا يكون لها وجود في عصر التقدم والعلم والمفاهيم المتحضرة. كما ان هناك حكومات غاشمة تتجرع شعوبها أهوال الظلم والاضطهاد والقمع لا بد من ان تتضافر الجهود الدولية كلها لاقتلاعها. لكن يجب ان لا تشكل هذه الأسباب مبرراً لكل ما يجري التلويح به، من ردع لهذا الطرف وزجر تلك الدولة وتوبيخ لغيرها مما يعطي طابع الاستغراق في سياسة التمادي والأخذ بجريرة الآخر وتصفية الحسابات وفرض استحقاقات مبنية على أسس أعلن عنها الرئيس الاميركي جورج بوش بكل وضوح "من لم يكن معنا فهو مع الارهاب وسنقتص منه". وبالفعل، جرى تنفيذ هذا التهديد عندما اعتبرت اميركا ان ايران دولة ضمن "محور الشر" بسبب تحفظات القيادة الايرانية عن حملة الولاياتالمتحدة على الارهاب وعدم تأييدها. ووفق المنطق نفسه تتمادى الادارة الاميركية في توسيع قائمة المعنيين بالتهديد، لدول أو أنظمة ومنظمات، بل اخذت تتعامل وفق المنظور نفسه مع بعض الشعوب والاقوام بروح عنصرية تجلت بأبرز معانيها في التحقيق والتدقيق في هويات المهاجرين والوافدين لأراضيها. ومن الواضح ان واشنطن تعتبر كل جهة تعارض سياساتها وتقف موقفاً معادياً لاسرائيل إرهابية. فالعالم كله يعلم ان شعبنا المقاوم في لبنان، وعلى رأسه "حزب الله"، كان ولا يزال يناضل في سبيل استرداد كرامته وحقه المغتصب، وتوج أخيراً كفاحه ذلك بطرد المحتل الاسرائيلي من أراضيه، وانتزع اعجاب العالم كله بما استعرضه من بطولات توسمت بروح الشرف والعفة والاقدام. ونلاحظ ان "حزب الله" في لبنان يساهم في مسيرة الديموقراطية والبناء في بلد طحنته آثار المخططات المشبوهة. لذلك لا نستغرب وضع اميركا الشعب اللبناني المقاوم المجاهد، متمثلاً ب"حزب الله"، على قائمة الارهاب. وهذا ما يؤكد "المنطق" الأميركي الذي يعتبر كل من يقف في وجه مخططات واشنطن او يتخذ موقفاً عدائياً لاسرائيل ارهابياً. وهذا هو معنى تصفية الحسابات التي اشرنا اليها، يساعدها على ذلك الموقف العالمي المتعاطف معها خصوصاً بعد الاعتداءات الارهابية التي تعرضت لها في 11 أيلول. ان نجاح اميركا في تقويض نظام "طالبان" وبسط سطوتها على عموم أفغانستان، ومن ثم تحديد هوية أفراد التشكيل الذي يحكم افغانستان وطبيعته، كرس حالاً جديدة في التعاطي الدولي، ربما ستتبعها حلقات اخرى على رغم اعتراض واستهجان وتحفظات معظم دول العالم. وتقود الولاياتالمتحدة حالياً حملة شرسة ضد الفلسطينيين لتغيير الرئيس ياسر عرفات وفرض طاقم للحكم يماشي ارادتها، وهو ما يرضي اسرائيل أولاً، ويساهم في زيادة نفوذها في المنطقة ثانياً. واستطاعت واشنطن الى حد كبير تنفيذ مخطط عزل عرفات ووضع هيكلية مفروضة للحكم الفلسطيني مع الضغط على الدول العربية لاعلان قبولها. أما المحطة الأميركية الثالثة فيراد لها ان تكون العراق والعنوان هو اسقاط نظام صدام حسين وانهاء الديكتاتورية الحاكمة وإنهاء مصدر الخطر الاكبر المتمثل باستمرار سياسة التهديد بأسلحة الدمار الشامل. وهذا ما يطربنا، كعراقيين، سماع ترديده وان جاء على ايقاعات مرتبكة بل ومتقاطعة مما يحيل جو النغم الى أزمة من القلق والتحسب، مخافة ان يشكل ما خفي من هذه السياسة استمراراً للحن الآلام ولكن بتبديل مواضع الأوتار فقط. ان كل اطراف المعارضة العراقية بل والشعب العراقي المظلوم يتمنى اسقاط نظام صدام وانتهاء حكمه القمعي الفاسد وبأسرع ما يكون، كي تبرأ جروح الشعب العراقي. ولسنا بحاجة الى تأكيد أهمية هذا الهدف وفوريته، إلا اننا نخشى ان تكون أمانينا مقيدة بوقائع ثقيلة تحكمها قراءات ثلاث للمشهد الدولي الحالي: أولاً، الخشية من ان التغيير الذي سيجري في العراق سيطاول رأس السلطة فقط وإستبداله بإبنه قصي، سواء كان بالإطاحة بصدام أو باعتزاله. ويشكل هذا المخرج تخديراً وقتياً للشعب العراقي المقهور وشلاً لعنفوانه تتبعه استعادة النظام لعافيته وبطشه. ثانياً، ان يكون الاستبدال الذي سيحصل على هيئة "تشكيلة اميركية" تتحرك وفق ما تريد واشنطن. وفي هذا تجاوز لإرادة الشعب الذي ضحى كثيراً بانتظار يوم تتحقق فيه ارادته ويسمع صوته. اما المشهد الأخير المرتقب ان تطل ملامحه فينبثق من الشعب العراقي وبانتخاب حر ديموقراطي يقرر مصير الحكم. لكن هذا الاحتمال بعيد لأنه يتنافى مع سياسة اميركا التي تريد فرض الأمور وفق ما تريد، خصوصاً وهي المبادرة الى التدخل او الهجوم. وما جرى في افغانستان ومع السلطة الفلسطينية شاهد على ما نخشى وقوعه في العراق. فالمشكلة معقدة للغاية. وعلى رغم التصريحات الاميركية التي تعلن العمل لتغيير النظام العراقي باستخدام كل الوسائل الممكنة لذلك، وتطرح سيناريوات متعددة في هذا الاطار، نحذر من أخذ الأمور بظاهرها، لأن تجربتنا مع الوعود الاميركية "غنية"، ومن جهة اخرى فاننا مقتنعون بأن التغيير له قوانينه وشروطه. التغيير في العراق، مهما كانت آليته، لن يتم بالتأكيد بعصا سحرية تعيد بغمضة عين الحرية والاستقرار للعراقيين. لذلك سيكون تدخل القوى المساندة لعملية التغيير شرطاً لا بد منه اذا حسبنا الامور بمنطقها الواقعي. وهنا تكمن حساسية المواقف وانعكاساتها على ردود الافعال المصاحبة لاجواء التغيير، كما لا بد من ان تترافق هذا العملية بشرطي الاستقلالية والاحترام. ولن تنجح قوى التغيير اذا تنكبت طريق التآمر والانقلابات كما كان الأمر في عهود الظلام التي مرت على الشعب العراقي خصوصاً في اعقاب العهد الملكي، فضلاً عن محاولات إستبدال صدام بصدام آخر أو بديكتاتورية اخرى ستواجه بالتأكيد برفض كلي من كل فصائل الشعب. يجب ان نعي ان القوى الخارجية المتصدية للتغيير لا تحدوها في سعيها الحثيث مصلحة الشعب العراقي وحريته بقدر ما تهمها مكاسبها ومصالحها. حتى بعض الدول المحيطة بالعراق سيسعى الى ان يكون له من المغنم شيء. والأخطر من هذا تستبعد مصالح الشعب العراقي نفسه في عملية التغيير، وهذا ما نحذر من إمكان حصوله خصوصاً في ظل غياب أي استراتيجية واضحة ومتفق على تبنيها من قوى المعارضة التي تعتبر الممثل الوحيد لارادة الشعب العراقي المقهور. اننا ندعو كل قوى المعارضة كي تتوحد على الحد الأدنى، في خطاب سياسي يضم المطالب الملحة والمتفق عليها، سعياً الى تعزيز دورها في عملية التغيير أولاً وللرد ثانياً على ادعاءات المغرضين والاعداء من أنها تعاني التشرذم. وعلى القوى المعارضة التحلي بروح التسامح ونبذ المزايدات وتوخي الواقع في طرح برامج العمل استعداداً لكل طارئ. كما ان انقاذ العراق سيتم ايضاً عبر اعادة الاعتبار للجيش العراقي الباسل الذي حطم النظام معنوياته عبر تكليفه بمهمات خارج مسؤولياته، واعتمده أداة للتصدي للمعارضين والدفاع عن مواقعه، بعدما أذله بتنصيب عناصر غير كفء ولا نزيهة لكنها مضمونة الولاء له، على قيادة فصائله. وبالعودة الى شكل الحكم المقبل، أرى ان مبدأ الديموقراطية الادارية كفيل بحل معظم اشكاليات الاختلاف الحاصل من طبيعة تنوع المجتمع العراقي. واذا برز في السابق بعض مشاكل الادارة فإن الأنظمة الحاكمة سعت الى توظيف ذلك التنوع في مسلسل التشتيت والتفريق حتى برزت عوارض ليست من طبيعة هذا الشعب المتسامح الأصيل كالطائفية والطبقية والعرقية حان الوقت لأن يتوحد جميع العراقيين ويرصوا صفوفهم للاتفاق على كلمة سواء تحمل كل معاني الاخلاص والتصالح، والتحلي باليقظة، وعدم السماح ل "قوى مقنعة" بالتسلل عبر زجها من القوى المعادية لاستقلال الأمة العراقية. ولا يعني ذلك اننا نرفض قبول الدعم من القوى التي تعلن ذلك، شرط احترام استقلالية القرار والارادة، مذكرين بأن تسلل هذه "القوى المقنعة" في السابق انما تم نتيجة الانقياد الأعمى الى "قوى الدعم" التي جاءت وقتها لتغري الشعب بخلاصه، فصدقها، للأسف، بعض الفصائل من دون ان التثبت من دعواها، ما أفرز هذا الواقع الممجوج الذي لم يألفه الشعب العراقي ممثلاً بنظام صدام. * معارض عراقي.