في العام 1994، وقبل رجوعي الى فلسطين، كانت تؤرقني فكرة العبور الى الوطن حيث يتواجد جنود اسرائىليون. كان ذلك يثير فيّ هلعاً من نوع خاص. انا؟ نحن؟ في الوطن الذي ليس هو، والذي يتواجد فيه جنود احتلال؟ لدى عودتي الى فلسطين يتبخّر الهلع. سيبقى الوطن هو هو مهما امطرته اللعنة بالزوائد والاحتلالات. تعلمت ممن كانوا هنالك درسي العاطفي الاول. لا يهم كل ما اراه حولي. نحن هنا باقون. وكل ما يجد من فنون الاستيطان والعدوان والاقتحام انما هي درجة اخرى تفضي الى سلم الخلاص من ظلمهم وظلامهم، والصمود هو المعنى. منذ ذلك الحين، وحتى اليوم صار وجود الاحتلال مرادفاً للموقت... والآن حين ارى جنود الاحتلال، لا تستغرقني سوى فكرة واحدة: كيف تمكنوا من ان يجعلوا القهر والغزو والبطش وسرقة الارض والعدوان مشروع حياتهم؟ اين انسانيتهم؟ متى يغادرون؟ تلك هي الاسئلة التي طرحها علينا غسان كنفاني عبر مجمل ادبه قبل سنوات طويلة. تجسدت هذه الاسئلة وتكثفت في رواية "عائد الى حيفا". اثار فينا كنفاني منذ ذلك الحين سؤال الرجوع بمعانيه الكثيرة: الاخلاقية والمعنوية والنفسية. ألقى بنا غسان كنفاني في خضم الاسئلة، لكي نتعلم ان دروب عمرنا كلها لا تفضي الا الى فلسطين - الارض - الوطن. انها الأسئلة التي طرحها ويطرحها الشعراء والكتّاب عن مصيرهم ومصير الأرض الذي بات يشبه الأقدار في التراث الاغريقي. كل المعاني تتعدد حول الجوهر الاول والاخير. الاحتلال احتلال، والغزو غزو، لكن الارض ارضنا ونحن هنا باقون... باقون كما علّمنا التاريخ والواقع.